هل يصح أن نقارن بين منظرين ونقاد أكاديميين؟

تعقيب على مقالة «دليلك إلى النظرية الأدبية» للطفية الدليمي

د.عبد الله الغذامي
د.عبد الله الغذامي
TT

هل يصح أن نقارن بين منظرين ونقاد أكاديميين؟

د.عبد الله الغذامي
د.عبد الله الغذامي

للروائية والمترجمة القديرة لطفية الدليمي حرصٌ كبيرٌ على إدامة التواصل مع مستجدات الثقافة الغربية. وعادةً ما تسعى في اختيار موضوعاتها نحو الملاحقة الجادة لآخر إصدارات الكتب النقدية والفلسفية، بخاصة تلك الصادرة عن «دار روتلدج». وهو ما ينمُّ عن توق نحو التزويد (بجرعة معرفية تكفي في الأقلّ لشدّ عضد القارئ) كما جاء في مقالتها «دليلك إلى النظرية الأدبية» المنشورة في صحيفة «الشرق الأوسط» بتاريخ 10-9-2025 وفيها سعت إلى وضع «دليل» للنظرية الأدبية هو عبارة عن مجموعة كتب نقدية لمؤلفين غربيين.

وليس لي إلا أن أعبر عن تقديري لجهدها في طرق موضوع شائك مثل النظرية الأدبية، كما أثني على مسعاها في تنوير القارئ العربي الذي تفترض فيه احتياجه إلى قدر معين من الثقافة الموسوعية. ولا أروم في مناقشتي لمقالتها الاستدراك، وإنما المشاركة النقدية التي تثري ميدان النقاش بما هو مناسب ومفيد.

بدءاً تقوم فكرة المقالة على البحث عن كتب تأسيسية، تنضبط بموجبها عملية «المثاقفة» استناداً إلى «القراءات المنتظمة»، وإيماناً بالحاجة إلى «موجّهات دليلية نظرية». وما بين التأسيس والتوجيه، يصبح التمييز مهماً بين فلاسفة وأدباء - مثل سارتر وإليوت - مارسوا التنظير من منطلق تجاربهم في حقل أدبي، هم فيه مبدعون، وبين مفكرين كرسوا أعمارهم باتجاه التخصص في التنظير لأطروحة نقدية خاصة بالأدب مثل رومان جاكوبسون ورولان بارت ونورثروب فراي وهارولد بلوم.

وإذا كانت كتب «الدليل» متفاوتة في قيمتها المعرفية وفي تباعد أزمان تأليفها ومقدار صلتها بما يجري الآن من مستجدات في ساحة النقد العالمي، فإنها جاءت - باستثناء كتاب نظرية الأدب لرينيه ويليك وأوستن وارين - مشتركة في بعدين اثنين؛ الأول أنها تعليمية، معدة لطلاب المدارس والجامعات. وليست التعليمية هي المعتمد الأدبي بوصفه «مجموعة كتب أصلية، ولها تاريخ لا يمكن تجاهله، وهي ذات صيغ راسخة ولها قيمتها وغير مشكوك في صحة نسبتها إلى مؤلفيها»، والبعد الآخر في كتب «الدليل» أنها لمؤلفين ناطقين بالإنجليزية. وتوجهاتهم ومرجعياتهم واحدة تمثلها المدرسة الأنجلوسكسونية، باستثناء ويليك الذي انتمى إلى النقد الجديد، وكتبه اليوم من أهم مراجع المدرسة الأنجلوأميركية.

رولان بارت

وكان لانحياز المقالة موضع التعقيب إلى كتب النقاد الإنجليز والأميركان مع حضور الصيغة التعليمية الإرشادية باستعمال كاف الخطاب، أن جعلا «الدليل» يوحي بحتمية تلاقي «النظرية الثقافية بالنظرية الأدبية أي بمعنى صار هناك توجّه عام لمثاقفة (Acculturation) النظرية الأدبية». والمعروف أن الدراسات الثقافية التي وضعها النقاد الإنجليز هي اتجاه منهجي ليس نهائياً، بيد أن الطابع الإرشادي (دليلك) يجعل القارئ يفهم أن التلاقي بين النظريتين هو توجه حاصل وجارٍ العمل به حالياً على مستوى النقد العالمي. وحقيقة الأمر ليست كذلك، فثمة اتجاهات أخرى كان يفترض بـ«الدليل» أن يتطرق إليها كي يرسم خريطة موضوعية، تضع القارئ العربي في صورة ما يطمح إلى التثقف فيه. وما لا اختلاف حوله أن تتبع تاريخ النظرية الأدبية هو غيره البحث في النظرية الأدبية؛ فالأول لا يقوم به أي باحث بسبب ما يحتاج إليه من نظر نقدي وتكريس للعمر الإبداعي في حين أن التتبع التاريخي أمر يمكن أن يقوم به أي باحث أو دارس يجد في نفسه قدرة على تتبع المسارات ورصد التطورات.

فهل يصح بعد ذلك أن نقارن بين منظرين مثل جاكبسون وجينيت ورينيه ويليك وبين نقاد أكاديميين هم باحثون في تاريخ النظريات وليست لهم أي إضافة نظرية مثل رامان سلدن وهانز بيرتنس. والأخير مغمور على صعيد النقد الغربي، فهو وإن كان أستاذاً فخرياً، وأعيدت طباعة كتابه - وهو على حد علمي الوحيد - عدة مرات، فلا يعني هذا تميزه المعرفي. ولا ذكر لهذا الاسم يرد لدى النقاد العرب المتخصصين وغير المتخصصين لسبب بسيط هو أن كتابه هذا غير مترجم إلى اللغة العربية. ولقد دار نصف مقالة الدليمي حوله، فاستعرضت الفصول الواردة في الطبعة الرابعة ثم عرجت على مميزات هذه الطبعة عن سابقتها الثالثة، علماً بأن الطبعة الأولى كانت عام 2001 ومن الطبيعي أن يضيف المؤلف إليها جديداً، لأن النظريات تتبدل وتتطور باستمرار.

وليس بيرتنس وحده في ميدان كتابة تاريخ النظريات، بل هناك أكاديميون كثر مثل البريطاني تيري إيغلتن بكتابه «نظرية الأدب» والأميركيين رامان سلدن بكتابه «النظرية الأدبية المعاصرة» وجوناثان كولر «النظرية الأدبية: مقدّمة وجيزة»، وليس من العدل أن نصف هذه الكتب بالتأسيسية أو نضاهيها بالكتب المؤسسة مثل «قضايا الشعرية» لجاكبسون، و«لذة النص» و«درس السيمولوجيا» لرولان بارت، و«خطاب الحكاية» لجيرار جينيت و«علم النص» لجوليا كرستيفا، و«بلاغة الخطاب القصصي» لواين بوث، وفيها وضعوا أطروحات نظرية، ساهمت في التأصيل النقدي للأدب. وبسببها تأسست مدارس عتيدة في النقد الأدبي.

ولا يعني تقديم النظرية الأدبية على تاريخ النظرية، التقليل من قيمة ما أُلف في هذا المجال أو انتقاص جهد أصحابها، لكنها فكرة «الدليل» التي تفرض على المتخصص الفصل علمياً بين النظرية والتاريخ، وأيضاً الفصل بين نظرية الأدب والدراسات الثقافية. وهذه الأخيرة عبارة عن اتجاه نقدي لاقى رواجاً منذ أواخر ثمانينات القرن العشرين ثم خفت صيته مع مطلع القرن الحالي بعد أن صعد نجم الاتجاهات التي تبنتها المدرسة الأنجلو أميركية.

ومن المهم أن نشرح بإيجاز دواعي اجتراح النقاد الإنجليز لهذا الاتجاه المنهجي الذي يجمع الأدب بالثقافة، واصطلحوا على تسميته بالدراسات الثقافية (Cultural studies)، وقد يجد القارئ في الدواعي تعليلاً ضمنياً للأسباب التي حملت النقاد العرب على تبني هذه الدراسات والاحتفاء الكبير بها أيضاً. إذ من المعلوم أن الشكلانيين الروس نجحوا نجاحاً باهراً في تأسيس مدرسة لاقت انتشاراً خلال النصف الأول من القرن العشرين. وتوطدت أركانها بإنجازات نقاد أوروبيين في مجال الأسلوبيات والدراسات الألسنية. وكان لظهور النقاد الجدد ثم البنيويين أن سحب بساط النظرية الأدبية من تحت أقدام الشكلانيين. فنشأت المدرسة الفرانكفونية وهيمنت على عرش النقد الأدبي خلال ستينات وسبعينات القرن نفسه. في هذه الأثناء كان النقاد الإنجليز دائمي البحث عن موطئ قدم لهم ما بين الروس والألمان والفرانكفونيين. واستندوا في مسعاهم هذا إلى كتب نقدية تجمع الممارسة بالنظرية، بعضها يعود إلى القرن التاسع عشر مثل كتاب «النقد العملي» لأرمستونغ ريتشاردز وكتب جون ستوارت ميل. وبعضها الآخر يعود إلى أدباء ونقاد ظهروا في حدود النصف الأول من القرن العشرين مثل رايموند ليفز بكتابه «الاتجاهات الجديدة في الشعر الإنجليزي» وت. س. إليوت بكتابه «التقليد والموهبة الفردية»، وكانت مساعي الثقافيين موجهة نحو التقوقع على الفكر الإنجليزي من جهة، واتخاذ «الثقافة» من جهة أخرى منهجاً ونظرية وفلسفة في دراسات تقوم على النقد البنَّاء (رايموند وليامز) والنقد المستهجن والساخر (تيري إيغلتون)، والهدف هو الارتقاء بالمدرسة الأنجلوسكسونية لتكون في مصاف المدرستين الفرانكفونية والأنجلوأميركية، لكن الهدف لم يتحقق. فلقد بقيت الدراسات الثقافية مجرد منهجية، لا يزال النقاد الإنجليز يواظبون على الاشتغال بها من دون أن يضعوا نظرية محددة في «الأدب» يمكن وصفها بأنها نظرية أدبية. واستناداً إلى واقع الدراسات الثقافية البريطانية لا تكون كتب إيغلتون وستوارت هول وهانز بيرتنس تأسيسية ولا دليلاً مرجعياً للنظرية الأدبية.

عربياً كان الدكتور عبد الله الغذامي من أوائل المطبقين لهذا الجمع بين الأدب والثقافة، وفات الأستاذة الدليمي الإشارة إلى كتابه «النقد الثقافي» (2000)، وفيه جهد واع وبأفق نظري في الدعوة إلى النقد الثقافي. ولاقت دعوته رواجاً، وتباينت طرائق استيعابها؛ فكثير من نقاد الأدب العربي فهموا الثقافية على أنها دعوة إلى تجاهل النظريات الأدبية بمفاهيمها وأجهزتها الاصطلاحية. وبرأيهم أن ما داموا يعملون تحت يافطة «النقد الثقافي»، فإنهم في منأى من أي مؤاخذات علمية أو تصحيحات مفاهيمية. ووجد غيرهم في الإنشائيات واللعب على مفردات مثل «الأسئلة، الآخر، السرديات» ما يسهل عليهم تدبيج مقالات، هي في تصورهم نقدية، تغني عن عناء المدارسة المكثفة والتكريس المنتظم وقصدية الإحاطة المستمرة في عالم النقد الأدبي.

وكان من متحصلات القراءة السلبية لدعوة الدكتور الغذامي أن صار لدينا نوعان من الناظرين بانتقاص إلى «النقد الأدبي»: النوع الأول يرى أن النقد الثقافي بديل عن النقد الأدبي، والنوع الآخر يرى علم الأدب بديلاً عن النقد الأدبي. وهذا ما أكدته أيضاً مقالة الدليمي، فالنقد الأدبي كان في زمن ماض «ذا سطوة لا يمكن مخاتلتها»، ثم ذهبت السطوة و«خفت النقد الأدبي كثيراً» إلى أن تلاشى هذا النقد و«ظهر الأدب اشتغالاً عاماً لمختصين بالذكاء الاصطناعي والرياضيات والفيزياء، ولم يعُدْ احتكاراً خالصاً»، وكأن ليس النقد الأدبي حقلاً معرفياً عمره من عمر الفلسفة الإغريقية، وكأن ليس له من التخصص والعلمية والعمق التاريخي والأهمية الجمالية ما يؤكد استقلاليته، ويفنِّد أي محاولة لشطبه.

وأشاطر الدليمي مسعاها في البحث عن كتب عربية تصلح أن تكون «موجّهات دليلية نظرية في فضاء الأدب العربي والثقافة العربية»، لكن بشرط أن تكون مواكبة لمستجدات النظرية الأدبية، لا أن تعود بنا إلى ما قبل ثلاثين عاماً بأطروحتين لعبد الله إبراهيم (1996) وسعيد يقطين (1989) الأولى اتبعت في دراسة السرد العربي المنهج البنيوي، والأخرى اتبعت المنهج البنيوي التركيبي. فهل يصح عدّهما تأسيسيتين وفي مجال الدراسات الثقافية؟ بالطبع لا؛ إذ لم تقدما نظرية أدبية، ولا هما نهجتا منهج الدراسات الثقافية.

وما لا شك فيه أنَّ مشروع د. عبد الله الغذامي في اتخاذ النقد الثقافي بديلاً عن النقد الأدبي، كان واضحاً كل الوضوح. ليكون اسم الغذامي الأول في أي دليل عربي يوضع للدراسات الثقافية - وليس النظرية الأدبية - وبغض النظر عن مدى صحة المشروع أو بطلانه.


مقالات ذات صلة

«انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

كتب «انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

«انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

بعد خمسة عشر عاماً من طرحه نظرية «صراع العواطف» في كتابه المؤثر «الجغرافيا السياسية للعواطف»، يعود دومينيك مويسي ليطلق حكماً قاطعاً في عمله الجديد.

ندى حطيط
كتب «سقوط جنتلمان» مواجهة الحياة على الحافة

«سقوط جنتلمان» مواجهة الحياة على الحافة

تطرح رواية «سقوط جنتلمان» للكاتب الأميركي هربرت كلايد لويس سؤالاً عن اختبار الإنسان حين يُنتزع فجأةً من سياقه، فيجد نفسه وجهاً لوجهٍ مع الفراغ

منى أبو النصر (القاهرة)
كتب حكاياتٌ وعِبر عن «الذئب الحكيم»

حكاياتٌ وعِبر عن «الذئب الحكيم»

انطلاقاً من تلك المكانة المتميزة، التي تحظى بها الذئاب، في الوجدان الجمعي الإنساني بعامة، والعربي بخاصة، يقدم الكاتب والشاعر السوري محمد الحمصي مجموعة من القصص

«الشرق الأوسط» (عمّان)
ثقافة وفنون صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي

صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي

إذا كان الاحتفاء بالجمال بوجوهه وتعبيراته المختلفة سمة مشتركة بين الشعوب والحضارات، فلم يكن العرب الأقدمون بعيدين عن هذا الاحتفاء أو بمنأى عنه.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون 3 شواهد قبور من مدافن البحرين الأثرية

3 شواهد قبور من مدافن البحرين الأثرية

خرجت من مقابر البحرين الأثرية خلال السنوات الأخيرة مجموعة كبيرة من الأنصاب، تتميّز بنقوش تصويرية آدمية.

محمود الزيباوي

فيلم إسرائيلي مرشح للأوسكار يثير تعاطفاً مع الفلسطينيين ويزعج الحكومة

خلال عرض فيلم «البحر» في تل أبيب (رويترز)
خلال عرض فيلم «البحر» في تل أبيب (رويترز)
TT

فيلم إسرائيلي مرشح للأوسكار يثير تعاطفاً مع الفلسطينيين ويزعج الحكومة

خلال عرض فيلم «البحر» في تل أبيب (رويترز)
خلال عرض فيلم «البحر» في تل أبيب (رويترز)

يأمل مخرج فيلم إسرائيلي مرشح لجوائز الأوسكار لعام 2026 ويجسد رحلة فتى فلسطيني يسعى لرؤية البحر أن يسهم العمل السينمائي في إيقاظ التعاطف داخل إسرائيل وسط العديد من الحروب.

وقليلاً ما بدت آفاق السلام الدائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين أكثر قتامة مما هي عليه الآن، وذلك بعد الهجوم الذي قادته حركة «حماس» الفلسطينية في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وحرب غزة التي استمرت عامين وتصاعد عنف المستوطنين في الضفة الغربية.

لكن المخرج والكاتب شاي كارميلي بولاك شعر بالارتياح بعد الترحاب الذي حظي به فيلمه «البحر» وبعد حصوله على أهم جائزة سينمائية في إسرائيل، ما أدى إلى ترشيحه تلقائياً للتنافس على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية، والتي سيجري إعلان الفائز بها في مارس (آذار) المقبل.

وقال كارميلي بولاك في مقابلة خلال الأسبوع الحالي عقب عرض الفيلم: «التقيت بالجمهور الذي حضر لمشاهدة الفيلم، أدهشني تعاطفهم وبكاؤهم في بعض الآحيان بسبب قصة الفيلم حيث وقعت أعمال عنف وفظائع في مكان ليس بعيداً عن هنا».

ويروي فيلم «البحر» قصة خالد، وهو فتى فلسطيني يقطن في الضفة الغربية المحتلة يخشى أن يكبر دون أن يرى البحر، فيخوض رحلة محفوفة بالمخاطر وحيداً ودون أوراق سفر إلى إسرائيل سعياً لبلوغ الشاطئ.

ومُنع خالد قبلها عند نقطة تفتيش من استكمال رحلة مدرسية متجهة إلى البحر، ويؤدي اختفاؤه المفاجئ من المنزل إلى مخاطرة والده، وهو عامل غير موثق في إسرائيل، بالتعرض للاعتقال من خلال بدء عملية البحث عنه.

ووفق وكالة «رويترز» للأنباء، حصل «البحر» على جائزة أفضل فيلم في حفل توزيع جوائز «أوفير» في سبتمبر (أيلول) الماضي، وهو أمر قوبل بتنديد وزير الثقافة ميكي زوهر، الذي سحب تمويلاً للحفل بسبب الصورة التي جسدها الفيلم للجيش الإسرائيلي.

بوستر فيلم «البحر»

وأصبحت حكومة إسرائيل منذ عام 2022 أكثر الحكومات يمينية في تاريخها، وتعارض بشدة قيام دولة فلسطينية وتتمسك بتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية.

«التعاطف والحب»

وأدى الهجوم الذي قادته «حماس» عام 2023 على إسرائيل، وأسفر عن مقتل أكثر من 1200 شخص، إلى تشدد مواقف كثير من الإسرائيليين تجاه الفلسطينيين وجعل انتقاد الجيش مسألة أكثر حساسية.

وقال كارميلي بولاك وباهر إغبارية، وهو منتج إسرائيلي فلسطيني للفيلم، إن من المهم صنع أفلام تساعد الناس على سماع قصص بعضهم بعضاً.

وقال كارميلي بولاك لـ«رويترز»: «تنتابني حالة من الأمل أن يفتح الفيلم قنوات جديدة من التعاطف والحب، وأن يقدم سبلاً جديدة تمكننا من العيش معاً في هذا المكان».

وقال إغبارية إن عرض قصة فلسطينية في دور السينما الرئيسية في إسرائيل بدا أمراً مُدهشاً في ظل أجواء الحرب.

وأضاف: «بسبب ما يجري، فهذا هو الوقت المناسب أيضاً لهذا الفيلم... لهذا النوع من القصص، من أجل الإصغاء لقصص الآخرين».

وأُطلق الفيلم في دور السينما بإسرائيل في يوليو (تموز) ولا يزال يُعرض حتى الآن.

وفي حفل توزيع جوائز الأوسكار لعام 2025، أُعلن فوز الفيلم الإسرائيلي الفلسطيني «لا أرض أخرى» بجائزة أفضل فيلم وثائقي، ما أثار غضب الحكومة الإسرائيلية. ويتناول الفيلم قصة تهجير إسرائيل لمجتمع فلسطيني في الضفة الغربية.

وقال كارميلي بولاك، وهو ناشط معني بالسلام منذ فترة طويلة، إنه على الرغم من رغبة الحكومة في ألا يمثل إسرائيل، لكنه يشعر بالفخر كونه جزءاً من مجتمع صناع الأفلام الذين اختاروا تكريم «البحر».

وأضاف: «أمثل كل الشعوب، مثل الإسرائيليين والفلسطينيين، الذين يتطلعون إلى إحلال السلام والمساواة والعيش معاً بطريقة تختلف عن الطريقة التي تنتهجها هذه الحكومة».


صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي

صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي
TT

صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي

صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي

إذا كان الاحتفاء بالجمال بوجوهه وتعبيراته المختلفة سمة مشتركة بين الشعوب والحضارات، فلم يكن العرب الأقدمون بعيدين عن هذا الاحتفاء أو بمنأى عنه. لا بل إن ظروف حياتهم القاسية، واتساع المكان الصحراوي المفتقر إلى الماء، جعلاهم يرون في الجمال الأنثوي المياه الرمزية التي تعصمهم من العطش، والواحة الظليلة التي ترد عنهم وحشة المتاهات ووطأة الشموس الحارقة.

وفي ظل الشروط القاسية للحياة الصحراوية القائمة على الترحل وفقدان الأمان والصراع من أجل البقاء، كان من الصعب على الجاهلي أن يبتكر للجمال نماذجه وتصاميمه العليا، كما كان حال الحضارة اليونانية المدينية، بل بدا النموذج الجاهلي للجمال متصلاً بالمنفعة والحياة العملية، أكثر من اتصاله بمعايير الجسد المثالي والمتناغم الأجزاء.

وقد عكس الشعر الجاهلي في الكثير من نصوصه أشكال التضافر الخلاق بين الجغرافيا الصحراوية وجغرافيا الجسد، بما جعل من الثانية امتداداً الأولى، وإحدى تمثلاتها الحية التي تظهر في طرائق العيش وأنماطه، وفي البحث عن طريقة للتكيف مع البيئة القاسية والمفتقرة إلى الثبات. لذلك فإن مواصفات الصبر والجلد والقدرة على الاحتمال، لم تكن من الأمور التي ينبغي توفرها في الرجال وحدهم، أو في الأنعام بمفردها، بل كان مطلوباً من المرأة أيضاً أن تمتلك صفات مماثلة، تستطيع من خلالها أن تساعد الجماعة القبلية على مواجهة مخاطر العيش ومشقات الترحل وأهوال الحروب.

ولأن مثل هذه المهمات الصعبة لا تنهض بها إلا امرأة صلبة العود ومتينة الجسد، فقد بدا تفضيل الجاهليين للمرأة السمينة وتغزلهم بها، متصلاً بمعايير مركبة، يشكل الجمال البحت جزءاً منها، فيما يشكل العامل النفعي والوظيفي بعدها الآخر. وكان العرب يعتبرون أن «السُّمن نصف الحسن»، ويصفون السمينة بخرساء الأساور، لأن بدانتها تمتد إلى الرسغ فلا ترتطم إسوارة بالأخرى.

كما انتقلت عدوى التغزل بالمرأة السمينة إلى الشعر، فاعتبر طرفة بن العبد أن تعلقه بالحياة يجد مسوغاته في الارتباط بامرأة سمينة، يختلي بها في ظلمة «الخباء المعمد»، وتسهم في تقصير ليله المثقل بالوحشة والخوف. أما امرأة عمرو بن كلثوم فهي من الضخامة بحيث «يضيق الباب عنها». والملاحظ أن معظم المواد التعبيرية التي تم توظيفها للتغزل بجمال المرأة المعشوقة كانت منتزعة من العالم المشترك الذي يتضافر لإحيائه البشر والبهائم والطير ونباتات الصحراء. ومع أن ثمة وجوهاً عديدة للتقاطع بين البيئتين الحضرية والبدوية، من حيث الفضاء التخييلي، فإن النصوص التي قدمها الشعراء الحضريون، كانت أكثر جرأة في التركيز على التفاصيل المختلفة للجسد المشتهى.

لعل قصيدة «سقط النصيف» التي نظمها النابغة الذبياني في وصف المتجردة، زوجة النعمان بن المنذر، هي أحد أكثر النماذج الشعرية تعبيراً عن مواصفات الجمال في تلك الحقبة، فهي كالغصن الطويل تتأود من النعمة، وعيناها الشبيهتان بعيني الغزال جارحتا الألحاظ كالسهام، وشعرها أسود ومدلى كعناقيد العنب، وفمها بارد عذب، ونحرها الأملس مزين بقلائد الذهب. كما أنها «بضة الجسم، ريّا الروادف، وغير واسعة البطن».

على أن طغيان الطابع الحسي على النصوص الجاهلية المتعلقة بالحب والجمال لم يحل دون عثورنا على بعض اللقى الثمينة، التي تتقاطع في غرابتها وعمقها مع كشوفات علم النفس الحديث، كأن يعتبر الشنفرى أن الجمال في مآلاته القصوى، قد لا يتسبب بجنون عشاقه فحسب، بل بجنون حامله في الوقت ذاته، كما في قوله:

فدقّتْ وجلّتْ واسبكرّتْ وأكملتْ

فلو جُنَّ إنسانٌ من الحسن جُنّتِ

وإذا كانت معايير الجمال قد بدأت بالتبدل في العصرين الأموي والعباسي، بحيث باتت متصلة بالرشاقة وطول القوام، والتناسب أو التضاد بين أعضاء الجسد، كاستحسان ضمور الخصر واكتناز الأرداف، فقد كان ذلك التبدل من مفاعيل الحياة الجديدة والاجتماع المديني وتمازج الثقافات.

كما لم تعد معايير الجمال مقتصرة على المفاتن الظاهرة وحدها، بل كان يُراعى فيها الجاذبية وقوة الحضور والدماثة وخفة الظل، بحيث ميز العرب بين الجمال والملاحة والحسن والحلاوة والوسامة والبهاء وغيرها. وقد ذكر أبو الفرج في «الأغاني» أن كلاً من سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، وهما من جميلات العرب، كانت تدعي أنها أجمل من الأخرى، وحين احتكمتا إلى عمر بن أبي ربيعة ليبت في الأمر، نظر إليهما ملياً وقال: «أنت يا عائشة أجمل، وأما سكينة فأملح». وإذ عنى عمر بالملاحة الرقة وخفة الروح، فقد أرضى المرأتين في الوقت ذاته.

وإذا كان في القصيدة «اليتيمة» المنسوبة إلى دوقلة المنبجي، ما يتناول الجسد الأنثوي بالوصف المفصل، فلأنه لم يكن باستطاعة المنبجي، الذي لم يكن قد رأى دعداً، أميرته الموعودة، إلا أن يرسم من عندياته تفاصيل النموذج الجمالي المثالي، مستعيناً بالتصورات الأولى التي رسمها الشعراء الجاهليون في مخيلاتهم. ومن بين أبياتها قوله:

فكأنها وسْنى إذا نظرتْ أو مدْنفٌ لمّا يفقْ بعدُ

وتُجيلُ مسواكَ الأراك على ثغرٍ كأنّ رضابهُ الشهدُ

ولها بنانٌ لو أردتَ لهُ عِقْداً بكفكَ أمكن العقدُ

وبخصرها هَيَفٌ يحسّنها فإذا تنوء يكاد ينقدُّ

اللافت أن من سمُّوا بالشعراء الإباحيين في العصر الأموي، لم يعمدوا إلى تناول الجمال الأنثوي على نحو سافر ومتهتك، لا بل إن ما تغزلوا به من ملامح المرأة ومفاتنها لا يتجاوز إلا قليلاً نطاق عمل العذريين ومجالهم الجمالي الحيوي كوصف الثغر والعنق والعينين والشعر والخصر. وقد تكون الفوارق بين الفريقين متمثلة في إلحاح الإباحيين على نقل وقائع غزواتهم العاطفية بتفصيلاتها وحواراتها الساخنة، إضافة إلى تبرمهم بالعلاقة الواحدة وبحثهم عن الجمال في غير نموذج ومثال، وهو ما يعكسه قول عمر:

إني امرؤ موكلٌ بالحسن أتبعهُ

لا حظَّ لي فيه إلا لذة النظرِ

كان من الصعب على الجاهلي أن يبتكر للجمال نماذجه وتصاميمه العليا كما كان حال الحضارة اليونانية المدينية

الأرجح أن مناخات الحرمان والكبت وتعذر الامتلاك قد أسهمت في مضاعفة سلطة الجمال الأنثوي على العاشق العذري، بما جعل الأخير يترنح مصعوقاً تحت ضرباته القاصمة. وقد ورد في غير مصدر تراثي أنه «قيل لامرأة من بني عذرة: لماذا يقتلكم العشق؟ فأجابت: فينا جمال وتعفف، والجمال يحملنا على العفاف، والعفاف يورثنا رقة القلوب، والعشق يُفني آجالنا، وإنا نرى عيوناً لا ترونها».

ولعل تلك العيون بالذات هي التي استطاع العشاق أن ينفذوا من خلالها إلى ما وراء الملامح الظاهرة لمعشوقاتهن، وتزين لهن نوعاً من الجمال مطابقاً للنموذج المثالي الذي ابتكرته مخيلاتهم. وليس أدل على ذلك من سؤال عبد الملك بن مروان لبثينة حين قامت بزيارته: ما الذي رآه فيك جميل حتى أحبك؟ فأجابته قائلة: «يا أمير المؤمنين، لقد كان يراني بعينين ليستا في رأسك». ومع أن الحادثة المذكورة تُروى على غير وجه، فإن ذلك الأمر لا يلغي دلالتها المتلخصة بأن الجمال نسبي وحمال أوجه، وخاضع لذوق الرائي ومشاعره وتهيؤاته.

ومع ما أصابته الحقبة العباسية من تطورات دراماتيكية على مستويات الثقافة والفكر والاجتماع، فقد بدأت الرؤية إلى الجمال تتعدى المتعة والانتشاء الحسي، لتتحول إلى أسئلة فلسفية معقدة تتصل بطبيعة الجمال ومصدره وأسباب سطوته على «ضحاياه». وهو ما يجد شاهده الأمثل في حيرة ابن الرومي إزاء جمال وحيد المغنية، وقوله متسائلاً:

أهي شيءٌ لا تسأم العين منه

أم لها كل ساعةٍ تجديدُ؟

أما أبو الطيب المتنبي فقد بدا لبيته الشهير في وصف امرأته المعشوقة (تناهى سكون الحسن في حركاتها/ فليس لرائي وجهها، لم يمت، عذرُ»، نوعاً من التوأمة الفريدة بين الحيّزين الشعري والفلسفي، حيث الحركات المتناغمة للجسد تصل بالجمال إلى سكونه المطلق، والمقيم على التخوم الفاصلة بين الحياة والموت. وإذ رأى أبو الطيب أن في الأعمار القصيرة للبشر الفانين، ما يوجب اغتنام الحياة كفرصة ثمينة للتمتع بجمال الوجود والوجوه، هتف بحبيبته، الممعنة في جمالها ونأيها على حد سواء:

زوّدينا من حسْن وجهكِ

ما دام فحسْنُ الوجوه حالٌ يحولُ

وصِلينا نصلْكِ في هذه الدنيا

فإنّ المقام فيها قليلُ


3 شواهد قبور من مدافن البحرين الأثرية

ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة
ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة
TT

3 شواهد قبور من مدافن البحرين الأثرية

ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة
ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة

خرجت من مقابر البحرين الأثرية خلال السنوات الأخيرة مجموعة كبيرة من الأنصاب، تتميّز بنقوش تصويرية آدمية. لا نجد ما يماثل هذه الأنصاب في حواضر سواحل الخليج العربي إلى يومنا هذا، ويرى البحاثة أنها رُفعت في الأصل كشواهد للقبور التي رافقتها. بدأ اكتشاف هذه الشواهد في منتصف القرن الماضي، ومنها 3 قطع عُثر عليها في مواقع معزولة، دخلت متحف البحرين الوطني بالمنامة، ضمن مجموعة من المكتشفات التي تمّ العثور عليها خلال الفترة الممتدة من عام 1954 إلى عام 1974.

اختلفت الآراء في تصنيف هذه القطع كما في تحديد هويّتها ووظيفتها خلال تلك الفترة، غير أن الصورة اتّضحت بشكل كبير في مرحلة لاحقة، نتيجة ظهور عدد كبير من القطع المشابهة في سلسلة من المقابر الأثرية تقع اليوم في المحافظة الشمالية، كشفت عنها أعمال المسح والتنقيب المتواصلة في حقبة التسعينات. تحضر هذه القطع الثلاث في كتاب من إعداد مجموعة من البحاثة، صدر في عام 1989، وجاء على شكل كتالوغ حوى مجموعة مختارة من مجموعة محفوظات متحف البحرين الوطني، تعود إلى الحقب التي سبقت ظهور الإسلام. افترض البحاثة يومها أن هذه الأنصاب الآدمية قد تكون مسيحية، ورأوا أنها نُقشت بين القرنين الخامس والسادس للميلاد. ويتّضح في زمننا أن هذه الأنصاب هي شواهد قبور لا تمتّ إلى المسيحية بأي صلة، وهي من نتاج الحقبة التي عُرفت بها البحرين باسم تايلوس، وقد تمّ نقشها بين القرنين الأول والثالث للميلاد.

تتفاوت هذه القطع في الحجم، وهي من الحجر الجيري، وأكبرها قطعة يبلغ طولها 41 سنتيمتراً، وعرضها 23.5 سنتيمتراً، وسماكتها 11 سنتيمتراً، وتمثّل قامة تنتصب بين عمودين يعلوهما قوس. العمودان مجردان من الزينة، ويكلّل كلّاً منهما تاج زُيّن بنقش على شكل حرف «إكس». أما القوس، فتعلوه 3 حزوز متوازية تأخذ شكل 3 أقواس ناتئة، يفصل بين كلّ منها شقّ غائر. وسط هذه المشكاة المتواضعة، تقف قامة آدمية تتبع في بنيتها تكويناً يبتعد عن محاكاة المثال الواقعي الحي. الرأس ضخم للغاية، والكتفان صغيرتان، والجسد قصير، وهو مكوّن من الصدر وأعلى الساقين فحسب. اللباس بسيط، قوامه معطف يلتفّ فوق رداء، وفقاً للزي اليوناني التقليدي. الوجه أنثوي، ويعلوه شريط يغلف الشعر على شكل حجاب. العينان لوزتان كبيرتان، فارغتان، وتخلوان من البؤبؤ. الأنف قصير، وهو على شكل عمود مستطيل بسيط ناتئ. الثغر منمنم، ويتّسم بشق أفقي يفصل بين شفتيه الذائبتين في كتلة الحجر الجيري.

تحجب ثنايا المعطف هذه القامة، وتنسدل بشكل متناسق من الأعلى إلى الأسفل. تنسلّ اليد اليمنى من خلف هذا الرداء، وترتفع كفّها المنبسطة نحو أعلى الصدر، وتظهر أصابعها الخمس المرصوصة والمتلاصقة. في حركة موازية، تخرج اليد اليسرى، وتبدو أصابعها قابضة على حزمة تشكّل كما يبدو طرف المعطف الأيسر. تتتبع هذه الحركة في الواقع تقليداً ثابتاً، يتكرّر في عدد كبير من القامات الأنثوية التي خرجت من مدافن تايلوس الأثرية التي عُرفت بأسماء القرى المجاورة لها، وأبرزها الشاخورة، وأبو صيبع، والحجر.

يظهر هذا التأليف على قطعة أخرى من هذه القطع الثلاث، مع اختلاف جليّ في التفاصيل. يبلغ طول هذا الشاهد 32 سنتيمتراً، وعرضه 21 سنتيمتراً، وسمكه 9 سنتيمترات. وهو على شكل كوّة نصف بيضاوية يحدّها في الأسفل شريط عريض يشكّل جزءاً من إطارها المجرّد من أي نقش تزييني. تقف قامة وسط هذا المحراب في وضعية المواجهة الثابتة، باسطة كفّها اليمنى أمام أعلى صدرها، ممسكة بقبضة يدها اليسرى طرف ردائها. نتوء هذه القامة طفيف، وصورتها أشبه برسم منقوش غابت عنه خصائص النحت البارز. يأخذ هذا الرداء شكل عباءة تلتف حول الهامة، وتتكوّن ثناياه من أربع مساحات مستطيلة متوازية، تقابلها ثلاث مساحات عمودية أصغر حجماً تزيّن طرف العباءة الأيسر. الوجه مهشّم للأسف، وما بقي منه لا يسمح بتحديد ملامحه. حافظت اليدان على تكوينهما بشكل كامل، وأصابعهما محدّدة وفقاً للأسلوب التحويري المتّبع.

نصل إلى القطعة الثالثة، هي أجمل هذه القطع من حيث التنفيذ المتقن، وتتميّز برهافة كبيرة في النقش والصقل. يبلغ طول هذا الشاهد 24 سنتيمتراً، وعرضه 10 سنتيمترات، وسماكته 7 سنتيمترات، يحدّه عمودان يعلوهما القوس التقليدي. يزيّن هذا القوس شق في الوسط، ويزيّن كلاً من العمودين مكعّب محدّد بشريطين يشكّل تاجاً له، ويقابل هذا التاج مكعّب مماثل يشكّل قاعدة لهذا العمود. تحتل القامة وسط هذا المحراب، وتمثّل شاباً فتياً أمرد يحضر كذلك في وضعية المواجهة. الرأس كتلة بيضاوية، وملامح وجهه واضحة. العينان لوزيتان مجرّدتان، يعلوهما حاجبان عريضان مقوّسان. الأنف ناتئ ومستقيم، وهيكله على شكل مساحة مستطيلة مجرّدة غابت عنها فتحتَا المَنْخِر. الأذنان ضخمتان، وقوام كل منهما صيوان عريض يلتف حول جوف القناة. الخدان مكتنزان، الذقن مقوّس، والجبين قصير، يعلوه شعر حدّدت خصلاته على شكل فصوص مستطيلة مرصوصة. الذراعان ملتصقتان بالصدر، واللباس بسيط، قوامه جلباب بسيط، يعلوه حزام عريض ينعقد حول الوسط على شكل شريط أفقي عريض يتدلّى منه شريطان عموديّان متوازيان، يشكّلان طرفي الحزام المعقود.

يقف هذا الفتى محدّقاً في الأفق، باسطاً راحة يده اليمنى عند أعلى صدره، قابضاً بيده اليسرى على شريط عريض يتدلّى من أعلى كتفه إلى وسطه، وفقاً لنموذج تقليدي يُعرف بالفرثي، نسبة إلى الإمبراطورية الفرثية التي امتدت من الروافد الشمالية للفرات إلى شرق إيران، وتميّزت بنتاجها الفني الذي جمع بين أساليب متعددة في قالب خاص، انتشر انتشاراً واسعاً في القرون الميلادية الأولى. بلغ هذا الأسلوب تايلوس، وطبع هذا الفن الجنائزي، كما تشهد هذه القطع الثلاث التي تمثّل اليوم نتاجاً واسعاً، يتواصل ظهور شواهده مع استمرار حملات المسح في المواقع الأثرية التي خرجت منها.