ما هي الثقافة الرابعة؟ وكيف تتشكل؟

مع الذكاء الاصطناعي سيعادُ تشكيلُ مفاهيمنا وكامل كينونتنا البشرية!

ما هي الثقافة الرابعة؟ وكيف تتشكل؟
TT

ما هي الثقافة الرابعة؟ وكيف تتشكل؟

ما هي الثقافة الرابعة؟ وكيف تتشكل؟

نعرفُ في المواضعات السائدة أنّ الثقافة صنفان: أدبية وعلمية. هكذا جرت العادة حدّ أنّ الدراسة الإعدادية (توصف بالثانوية في بعض الأقطار العربية) تحدّد المسار الدراسي للطالب وفقاً لاختياره بين الدراسة العلمية أو الأدبية. يعرف الطالب منذ البدء إلى أين سينتهي به هذا المسار. قد تكون بعض التفصيلات الصغيرة حاضرة؛ لكنْ في العموم هذا هو العنوان الأكبر: الدراسة صنفان: علمية وأدبية. قد يضافُ أحياناً خيارُ التركيز على الرياضيات كما هو حاصل في مصر وبلدان الشمال الأفريقي العربية، وقد يحصل تركيز على الفلسفة ضمن الدراسة الأدبية، كما قد يحصل شطرُ الدراسة العلمية إلى قسم تطبيقي يقود إلى العلوم والهندسة، وقسم أحيائي يقود إلى الدراسة الطبية وتفريعاتها، وهو ما حصل في العراق ثم انتهت القناعة لوأد التجربة والعودة إلى السياق الكلاسيكي: علمي وأدبي.

كل دراسة تقود إلى صناعة ثقافة تدور في مداراتها. نعرفُ في الصورة العامة ما الذي سيكون موضع الاهتمام الثقافي لدى الدارس الأدبي. سيدور هذا الدارس (أو هكذا تفترض البداهة) في مدار الأدب والفلسفة والتاريخ والنقد والرواية وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا. قد لا يدور في كل تلكم المدارات، لكنّه في الأقلّ سيدور في واحد منها ويتطلّع لمعرفة بعض الشيء عمّا يدور في الأفلاك الأخرى. الأمر ذاته يحصل مع ثقافة الدارس العلمي. سيدلّنا الحدسُ على أنّه سيتابع التطوّرات العلمية في حقله الاختصاصي مع رغبة في مدّ عنقه للإطلالة على الحقول العلمية الأخرى. هذا التمركز الاختصاصي حول الأدب أو العلم خلق لنا أصولية ثقافية ناشزة لم تعُدْ مناسبة للتعامل مع معضلات العالم الطارئة. لم يعُد مقبولاً أو مناسباً أن نستخدم مخرجات العلم التقنية من غير أن تكون لنا خلفية مناسبة لمعرفة السياق التاريخي والمجتمعي الذي قاد لتلك المخرجات، وقبل هذا معرفة السياسات العلمية للدول وبخاصة أنّها صارت سياسات معقّدة تشتبك فيها المؤثرات العلمية والتقنية والاقتصادية والثقافية.

كان اللورد سي بي سنو C. P. Snow من أوائل من كتبوا عن القصور الفاضح في الانكفاء على ثقافة علمية أو أدبية؛ فكتب مؤلفه الأشهر (الثقافتان The Two Cultures) الذي سعى فيه لتجسير الهوّة بين الثقافتين العلمية والأدبية. المقصود بهذا التجسير هو امتلاك القدرة على إدامة نمط من التواصل الحي المنتج بين المشتغلين بالعلم والأدب، وقد برهنت الوقائع على أنّ المعرفة بالآخر كانت منتجة وذات نتائج مثيرة. بدأت معالم هذا التجسير من تطعيم المناهج الدراسية الجامعية لكلّ طرف بدراسات من الطرف الآخر في سياق تكاملي لا يرى العلم أو الأدب ومشتقاتهما الثقافية جزراً معزولة بل صوراً متعدّدة لعالم جميل يتّسم بالتعقيد المثير.

نشر اللورد سنو كتابه المثير عام 1959، ثمّ أتْبَعَهُ بتحديث عام 1962. مضى أمرُ الثقافتين بهدوء وسلاسة ولاقى قبولاً واستحساناً عالمياً، وفي مستطاع القارئ حتى اليوم قراءةُ موضوعات على شاكلة «الثقافتان بعد ستين عاماً»، لكنْ يبدو أنّ الوكيل الأدبي والمهتم بشؤون الثقافة العالمية جون بروكمان John Broakman لم يكتفِ برؤية سنو بل أراد الترويج لمفهوم (أو بالأصح سياسة ثقافية) وصفه بالثقافة الثالثة The Third Culture. حصل الأمر ابتداءً من منتصف تسعينات القرن الماضي، وأراد منه بروكمان أن يتوجه العلماءُ المتخصصون إلى عامّة القرّاء بكيفية مباشرة من غير وسيط. هنا حصل انفجار حقيقي (Boom كما يوصف في الأدبيات الثقافية) في كمّ ونوع المنشورات التي تخاطب القارئ العادي. انبرى الفيزيائيون يكتبون عن موضوعات الانفجار الكبير، وأصل الكون ونهايته، وميكانيكا الكم وتطبيقاتها المثيرة، والمصادم الهادروني الكبير والجسيمات الأولية على شاكلة جسيم هيغز. من جانبهم راح الرياضياتيون يكتبون عن نظرية الفوضى Chaos Theory والنظم الدينامية المعقّدة ونظرية الكوارث؛ في حين بدأت بواكير الذكاء الاصطناعي حينذاك وكثُرَ الحديث عن النظم الخبيرة والمعالجة الحاسوبية للغة الطبيعية. الأمثلة أكثر من التعداد البسيط والانتقائي، وقد ساهم بروكمان ذاته في تعزيز مفهوم الثقافة الثالثة ولم يكتفِ بالدعوة المخلصة لها، فأنشأ موقعاً إلكترونياً أسماه Edge.com لم يزل فاعلاً حتى اليوم، وأحسبه كنزاً معرفياً حقيقياً لثراء الموضوعات والحوارات والشخوص فيه، وفي العادة كان بروكمان يصنع من محتويات هذا الموقع كتاباً كلّ سنة أو سنتيْن. قراءة كتب بروكمان متعة عظيمة لمن خَبِر أهمية الموضوعات التي كان يختارها. من المهم الإشارةُ إلى أنّ بروكمان لم يَدْعُ صراحة أو تلميحاً إلى أصولية علمية (أو نزعة علموية) كما قد نظن؛ بل أراد نقل العلم من بنيته الفوقية إلى طور المشاعية العامة. أراد تقريب صورة المشتغل بالعلم إلى الجمهور حتى لا نبقى مشدوهين نحسبُ العلم أقرب إلى كهانة جديدة يلعبُ فيها العلماء دور سَحَرَة العالم القديم. من المفيد أن نتذكّر حقيقة كون بروكمان مشتغلاً في الصناعة الثقافية الأدبية ولم يكن ذا تخصّص علمي معروف، وهذا ما يضفي على دعوته للثقافة الثالثة مصداقية حقيقية ومضاعفة.

أفكّرُ اليوم بمفهوم سيكون مسوّغاً أن أصفه بـ«الثقافة الرابعة The Fourth Culture». لا بأس أن نضيف واحداً إلى (عدّاد) بروكمان الثقافي. الأمر ليس نزوة أو رغبة عابرة أو سباقاً جامحاً لحيازة قصب السبق في ابتكار المسمّيات الجديدة. الأمر أكبر من هذا وله مفاعيله المفاهيمية والعملية. لم أجد في البحث الغوغلي المستفيض ما يشيرُ إلى اعتماد توصيف الثقافة الرابعة، لكنّي موقنة أنّها ستصبحُ مفهوماً جوهرياً في زمن قريب جداً.

أولاً وقبل كل شيء، ما هي الثقافة الرابعة؟ هي -باختصار- الثقافة التي تتعشّق مع الذكاء الاصطناعي وتتناغم مع معطياته. الأصل في هذه الثقافة هي القناعة الراسخة بأنّ الذكاء الاصطناعي ليس ثورة تقنية جديدة فحسب (خامسة أو سادسة أو سابعة. ليس أمراً مهمّاً هذا)، بل هو إيذان بعصر تنوير جديد The New Enlightenment. سيعادُ مع الذكاء الاصطناعي تشكيلُ مفاهيمنا وكامل كينونتنا البشرية، وسيكون من المعيب أن يبقى المرء بعيداً أو ناكراً أو جاهلاً لهذه الثورة التنويرية الجديدة.

كيف تتشكّل الثقافة الرابعة؟ لن نكون مغالين أو متشدّدين ونتصوّر أنّ على المرء دراسة الذكاء الاصطناعي كما يدرسه طلبة الجامعة، علماً بأنّ دراسة الذكاء الاصطناعي في جامعاتنا تجربة قاصرة لا تختلف نوعياً عن الدراسات التقليدية المعروفة في الجامعة، لكن برغم ذلك فمن سعى مخلصاً للمعرفة التقنية في الذكاء الاصطناعي ولم يشأ الاكتفاء بالعموميات الثقافية التي تشكّل الحدّ الأدنى The Minimum فيمكنه الاستعانة ببرامج دراسية مجانية ورائعة على الشبكة العالمية (الإنترنت)، وهي أرقى وأنفع بكثير من مقرراتنا الجامعية. ستكون تجربة ثقافية مميزة أن نقرأ عن تاريخ تطوّر الذكاء الاصطناعي، وفلسفته، ومفاهيم على شاكلة: الخوارزميات، التفكير الحوسبي، البيانات الكبيرة، الروبوتات، مع تركيز خاص على المعضلات التي ينجح الذكاء الاصطناعي في تفكيكها أو قدح شرارتها. يتوجّب أن ننتبه للوجهين؛ إذ لكلّ تقنية جديدة جوانب طيبة ومؤذية. هذا ما تعلّمُنا إياه الثوراتُ التقنية السابقة، وعلينا أن نتخيّل كيف سيكون الحال مع تقنية عظمى هي أقرب إلى عصر تنوير جديد! الأمر منوط بنا في نهاية المطاف. يمكن أن نكون أتباعاً شريرين لمفيستوفيليس أو رفقاء مخلصين لبروميثيوس في تطلعاته الثورية اللانهائية.

علينا أن نتخيّل كيف سيكون الحال مع تقنية عظمى هي أقرب إلى عصر تنوير جديد

ما أهمية الثقافة الرابعة؟ ببساطة، عصرنا هو عصر الذكاء الاصطناعي، وحتى يحوز المرء أقلّ الشغف اللازم للتعامل مع المنتجات الثورية للذكاء الاصطناعي فيتوجّب عليه معرفةُ الأساس الثقافي الذي يتأسّس عليه هذا الذكاء. هذا يصحّ مع الذكاء الاصطناعي أو أي حقل معرفي آخر. الثقافة هي البنية التحتية اللازمة لإدامة أيّ فعل ناجح في العلم والتقنية أو أيّ منشط إنساني. لا شيء يمنعنا أن يحقق شباب عربٌ مجموعات ناشطة في الذكاء الاصطناعي تناظرُ ما حقّقه الهنود أو الصينيون. كل ما نحتاج إليه هو الشغف والرغبة الحقيقية في الإنجاز. المال ليس عائقاً، وهذه واحدة من الخواص الطيّبة للتقنيات الحديثة كالذكاء الاصطناعي. مع حاسوب ووصلة إنترنت وشغف حقيقي (ولا ننسى الكثير من الشاي أو القهوة بالطبع) نستطيع أن نفعل الكثير ممّا فعله الهنود أو الصينيون وأذهلوا به العالم. لن يموت الأدب أو الإبداع كما قد يتوهّم بعضنا، كما لن نكون في حاجة لقتل تراثنا الإبداعي والفلسفي العالمي. ليس مَنْ يبشّرُ بحتمية قتل الجاحظ أو دوستويفسكي أو سارتر أو راسل لكي نكون بارعين في التعامل مع الثقافة الخوارزمية ومعطيات ثورة الذكاء الاصطناعي. الأمر هو العكس تماماً: ليس ثمّة ما يمنعُ أن تكون روائياً بارعاً أو فيلسوفاً متسلّحاً بأفضل المنتجات الثقافية ما بعد الحداثية، وفي الوقت ذاته يمكنك التعامل مع أدوات الثورة الرابعة. بكلمات وجيزة: ليس من المناسب أن نشعر بضياع كامل في متاهة اغترابية كلّما واجهتنا معضلة أو موضوعة يكون الذكاء الاصطناعي طرفاً فيها. هذا هو جوهر الثقافة الرابعة.

لنفعلْ شيئاً. هذا أفضل من أن نبقى شبيهي «فاوست» المأسور بغواية مسمومة ما عادت مناسبة للبقاء والاستمرارية في عصر التنوير الجديد الذي نعيش تباشير ثورته القادمة.


مقالات ذات صلة

عندما تصبح حكايات الكتب بدلاً عن ضائع

ثقافة وفنون عندما تصبح حكايات الكتب بدلاً عن ضائع

عندما تصبح حكايات الكتب بدلاً عن ضائع

غالباً ما يقوم العمود الفقري للقصص على ثنائيات، أو ثنائي واحد. هذه المرة يأخذنا عبده وازن في روايته «الحياة ليست رواية» الصادرة عن «دار المتوسط»

سوسن الأبطح
ثقافة وفنون المأزق الشخصي في عباءة الهم السياسي العام

المأزق الشخصي في عباءة الهم السياسي العام

في رواية «إبحار بلا نهاية» للكاتب نعيم صبري، يمتزج المأزق الشخصي للأبطال بالهم السياسي العام، الذي يتصاعد مع أبرز الأحداث الشهيرة في تلك الفترة

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
ثقافة وفنون اسمي هنري

اسمي هنري

اليوم هو عيد الميلاد، يوم قصير قارس البرد، وأنا أقود عجلتي على طريق يمتدُّ عبر الغابة التي تحيط بمدينة أوتاوا، وشيئاً فشيئاً اشتدَّت الرياح وراحت تعصف.

حيدر المحسن
ثقافة وفنون مصطفى نصر

مثقفون مصريون يودّعون مصطفى نصر

مصطفى نصر يكاد يكون الكاتب الوحيد الذي يعرف عنه القراء أكثر مما يعرفه عن نفسه.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون الفنانة لولوة الحمود

الفن التشكيلي السعودي بين الموجود والوجود

إن الفن، بوصفه أداة تعبيرية متقدمة، يُمكِّن الإنسان من تجسيد مكنوناته ومشاعره، التي تظلّ عصيّة على الفهم بغير وسيلته.

د. جواهر بن الأمير

عندما تصبح حكايات الكتب بدلاً عن ضائع

عندما تصبح حكايات الكتب بدلاً عن ضائع
TT

عندما تصبح حكايات الكتب بدلاً عن ضائع

عندما تصبح حكايات الكتب بدلاً عن ضائع

غالباً ما يقوم العمود الفقري للقصص على ثنائيات، أو ثنائي واحد. هذه المرة يأخذنا عبده وازن في روايته «الحياة ليست رواية» الصادرة عن «دار المتوسط» إلى علاقة ثلاثية. لكل واحد من أقطابها حكايته الخاصة، وخلفياته، وظلاله، لكنهم معاً، يشكلون مشهداً بيروتياً متكاملاً، حيث تحضر الحروب المتوالية، والهجرة، واليتم، والتبني، والقتل، والضياع، والبحث المحموم عن الهوية، والحب الضائع.

الراوي هو قارئ أو «القارئ» الذي لا مهنة له غيرها. له من المقومات الحياتية والمادية ما يتيح له أن يتفرغ للكتب وخاصة الروايات، التي يعيشها حتى الثمالة، يحفظ أسماء أبطالها، ويستعيدهم، يربط مسارهم بما يعيشه، ويستوحي حيواتهم ليستنبط منها ويستلهم. ومع أنه يقرأ ليقرأ، وتلك غاية جعلته «تلميذاً أبدياً... يمضي جلّ أوقاته حاملاً بين يديه كتاباً، هو رواية في معظم الأحيان»، إلا أن الظروف تضع في طريقه جوسلين التي سيواصل القراءة معها، ويرى فيها امتداداً لما قرأ. هو وريث أب ميسور، لم يشعر بحاجة لأن يجهد نفسه بما لا يحب. كسول، درس الأدب الفرنسي، ولم يكمل ليحصل على شهادته الجامعية، وما حاجته إلى ذلك؟ إنه مفتون بالقراءة فقط! وهذا وحده يكفي، حتى الكتابة ليست هدفاً، ولا رغبة.

أما وقد قرر الراوي (القارئ) الخروج عن معهوده والمباشرة بكتابة رواية، فالغاية هي فقط «أن أتخلص من العبء الذي يثقل نفسي، ومن الشجن الذي يربض عليّ». ينبهنا الراوي الذي هو «القارئ» نفسه، منذ البداية إلى أنه ليس بأديب محترف. «أكتب، إذن، كما يحلو لي، فأنا قارئ يكتب، ولست كاتباً، ولن أكون. أكتب بالقلم، وليس على الكمبيوتر، فأنا لا أجيد الكتابة عليه بإتقان». هو عبء حكايته مع جوسلين وجوزف الذي يدفعه لأن يعدّل من مهمته الأثيرة.

ففي تلك الشقة التي جعلها مكتباً أو مكتبة إلى جانب شقة والدته، تقتحم عزلته جوسلين اللبنانية من أم فرنسية، الواصلة للتو من باريس، لزيارة جدتها أنجل (جارته) وإعادة اكتشاف وطنها، حيث مات والدها قتلاً خلال الحرب الأهلية في خضم نزاع مسلمين ومسيحيين. بعد الحادث الأليم اصطحبتها أمها مع شقيقها إلى فرنسا عائدة بهما إلى وطنها. لكن ها هي جوسلين تعود لتخوض مغامرتها اللبنانية الاستكشافية، ولا بد أنها في أشد الحاجة إلى معونة صديق، وتشاء الصدف أن يكون جار جدتها الذي تلتقيه بمجرد وصولها. لكن رغم انجذاب الراوي لها، وإعجابه السريع بها، سيميل قلبها إلى المحامي جوزف صديق طفولته والأقرب إليه. خيار موجع، لكن الراوي يبقى على هدوئه، وصمته ويترك لها أن تعيش خيارها.

في استسلام يشبه انسياقه صوب الروايات التي يقرأها، يترك الراوي لقصة الحب بين جوسلين وجوزف أن تأخذ مداها، وكأنما القدر يسوق الخطى. كل الرواية تسير فيها شخصياتها، وكأنها منساقة أو هائمة في حياة، تبحث فيها عن شيء ما فاتها. جوسلين في رحلة النبش عن ماضي والدها الذي فقدته، تلاحق تفاصيل قصة حب عاشها مع منى قبل أن يتزوج بوالدتها، ورسائل تبادلها معها، كل هذا يتزامن مع محاولة الابنة معرفة ظروف مقتله بعد أن اختُطف على نقطة البربير في بيروت. الراوي (القارئ) يساندها في مهمتها، بينما يكتفي جوزف بدور الحبيب، الذي سرعان ما يعيش قصة غير منتظرة هي معرفته المتأخرة بأنه ابن بالتبني لعائلة كان يظن أنها امتداده البيولوجي. أمر سيخلق للراوي أيضاً انشغالاً جانبياً آخر. فهو صديق العمر، لكنه غريم في الوقت نفسه. جوسلين تحب جوزف بحق، لكنه لا يبادلها الشغف نفسه، ومع ذلك فالراوي يترك الأمور تمضي بينهما، ولو كان متحرقاً متشوقاً، متألماً بصمت.

في خضم هذه العلاقة الثلاثية نتنقل مع الشخصيات في بيروت بمبانيها، ومقاهيها، وشوارعها بأسمائها الحقيقية، ومناطقها من ساسين إلى البربير، التباريس، الطيونة، مونو، الجميزة. تزور جوسلين المتحف الوطني فتكون مناسبة لنتعرف على حقبات تاريخية من خلاله، وعلى دور المتحف في الحرب الأهلية، وما يعنيه في ذاكرة اللبنانيين، كونه جغرافياً، يقع على ما كان يعتبر خط تماس بين البيروتين.

الأحداث العامة التي تستدعيها ذاكرة الثلاثي، وخاصة الراوي، هي أيضاً مستلة من تاريخ المدينة، والثلاثي يعيش حياة نعرف ملامحها جيداً، يتحركون في أماكن نسكنها معهم، وربما نكون عشنا الأحداث نفسها.

يسمح الراوي لنفسه أن يجول في الزمن جيئة وذهاباً، تبعاً لحاجة القص. جوسلين لا بد أن تبحر في الماضي، هي الآتية للبحث عنه. هناك استدعاء لأحداث رافقت الحرب، ذكريات انقضت، كل ذلك يحتاج إلى التحرك على خط الزمن بحرية. أما النص فجاء دفقاً واحداً متتالياً، لا تقسيمات ولا أبواب ولا عناوين فرعية. يكفي أن تقرأ على الغلاف «الحياة ليست رواية» لتكتشف سريعاً من الصفحات الأولى أنك تدخل في خضم لعبة أدبية، فيها الكثير من التجريب. لا بل إن الراوي يحمل الكثير من ملامح عبده وازن نفسه؛ بحيث إن الخلط بين المؤلف والراوي، لا يأتي صدفة بل هو جزء من التجربة النصية نفسها. يشرح لك الراوي أنه يهوى هذا الصنف من الروايات التي تُدخل قارئها وكاتبها في لعبة أدبية. «أحب كثيراً الروايات القائمة على لعبة الرواية داخل الرواية».

يتبارى الراوي مع جوسلين في استعادة روايات عديدة، لكتّاب مشهورين، لجأوا إلى ألعاب أدبية من هذا النوع، بينهم شكسبير مثلاً، بيرندللو، أندريه جيد، ناتالي ساروت. تقول جوسلين: «أحب لعبة التوهم السردي، لعبة الوجه والقناع. كأن الرواية تشكك بنفسها، تنتفص، تزدوج. أي رواية نصدق، الأولى أم الثانية؟ الكاتب أم الراوي؟».

يغيب جوزف، يرحل في حادثة، ويبقى الراوي يفكر إذا ما كان هو السبب في الكارثة، أو كان بمقدوره أن يمنعها. يعود زخم الأدب ليظهر وكأنما هو البداية كما في النهاية. لم تكن الأحداث إلا وسيلة القارئ أو الراوي، ليكتب روايته التي في الأصل هي لعبة تجريبية أدبية، من وحي هذا الصنف من الروايات.

كأنما يعيش الثلاثة وهم يحاولون أن يعيشوا حياة جديرة بالكتابة، كما تقول جوسلين: «ليتنا نجد من يكتب عنا رواية نحن الثلاثة، كيف التقينا، وكيف أصبحنا ثلاثياً نادراً؟! ثلاثي رائع، نحب، نقرأ، نتناقش، نعيش معاً، نسهر معاً، حتى ليصعب علينا أن ننفصل واحداً عن الآخر، على رغم حفاظ كل منا على مزاجه وأسراره».

فعل القراءة يحتل جانباً واسعاً من الكتاب، وحيزاً مهماً من حياة الشخصيتين جوسلين والراوي. وكأنما حياتهما مع النصوص الروائية هي محاولة حثيثة، للعثور على وجود بديل عن حياة غير مكتملة. أو كأنما القراءة والكتب، وعوالمها الشاسعة التي تشغل الشخصيات، هي في حياتهم بدل عن ضائع؛ إذ بمجرد أن تغيب جوسلين، عائدة إلى فرنسا بعد موت جوزف، تاركة وراءها الرجل الذي أحبها ولم تلتفت إليه، يقع في فراغ اللاقراءة.

بعد أسابيع من الضيق والحسرة وهجران الكتب، يتوجه في محاولة لنفض الحداد واستعادة الحياة، إلى مكتبة أنطوان، للبحث عن كتب جديدة. هناك، وكي لا نمسّ متعة القراءة واكتشاف النهاية، نعرف أننا لسنا في لعبة رواية داخل رواية، وإنما ثمة طبقة روائية أخرى، وأن صاحبنا ليس عاشقاً للمرأة بقدر ما هو عاشق لها حين تصبح كتاباً أو نصاً أو عملاً روائياً.

وبالتالي فإن عبده وازن في روايته التي لم يردها تقليدية، ولا مشدودة إلى حبكة، إنما يروي حكاية أفراد يلتقون بقدر ما يفترقون، يتواصلون بقدر ما تبعد بينهم الظروف، ويمكن لأحدهم أن ينفصل عن الآخر، تماماً كما يشعر بأن هذا الفطام صعب، وأن الأمر الوحيد الذي لا يمكن الاستغناء عنه هو الكتاب، والنص.

رواية تغرس جذورها في جغرافيا بيروت وتفاصيل أحيائها وحاناتها ومقاهيها، جامعة بين التخييل الشخصي والواقع الجمعي المألوف.


المأزق الشخصي في عباءة الهم السياسي العام

المأزق الشخصي في عباءة الهم السياسي العام
TT

المأزق الشخصي في عباءة الهم السياسي العام

المأزق الشخصي في عباءة الهم السياسي العام

في رواية «إبحار بلا نهاية» للكاتب نعيم صبري، يمتزج المأزق الشخصي للأبطال بالهم السياسي العام، الذي يتصاعد مع أبرز الأحداث الشهيرة في تلك الفترة التي تمتد من نهاية الخمسينات وحتى أواخر السبعينات، حيث نتابع حياة الطبقة الوسطى في مصر وليبيا، من خلال تجربة الشابَين المصريَّين: أدهم، الطَموح الذي يسعى للهروب من واقعه والبحث عن فرص جديدة، وماجد، المهندس الذي يكتشف في ليبيا عوالم جديدة غير مألوفة.

تبدأ الحكاية مع أدهم، الذي يواجه الحياة بمفرده باحثاً عن مغامرات تجلب له الثروة والاستقلال ما بين العمل على شواطئ مدينة أبو قير بالإسكندرية، والدخول في علاقات عاطفية مع نساء من مختلف الثقافات وصولاً إلى زواجه من أرملة ألمانية والهجرة إلى ألمانيا ومع ازدياد الضغوط الاقتصادية والسياسية يجد نفسه مضطراً للبحث عن حياة جديدة في ليبيا، حيث تتشابك مساراته مع كل من ماجد، والليبي عبد الرحمن، الذي تتعقَّد علاقته به بعد توتر العلاقات بين مصر وليبيا.

في خلفية هذه الأحداث تأتي نكسة 67، وأثرها العميق على الشخصيات مما يدفع أدهم للبحث عن ملاذ آمن، فهل سينجح في ذلك أم سيظل يبحث عن نهاية لإبحاره الذي لا ينتهي؟

ونعيم صبري روائي وشاعر مصري. أصدر ديوانَين عام 1988 هما «يوميات طابع بريد» و«تأملات في الأحوال». اتجه بعد ذلك إلى المسرح، ثم بدأ كتاباته النثرية بكتاب عن سيرة طفولته بعنوان «يوميات طفل قديم». صدرت له 16 رواية منها: «شبرا»، و«تظل تحلم بإيزيس»، و«دوامات الحنين»، و«صافيني مرة».

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«أستأذنك في كلمة على انفراد، انتحى بي جانباً وقال بصوت خافت مرتجف: أنا لست مهندساً، أنا (دبلوم صنايع)، خبرة عملية طويلة ونجحت في ترتيب أوراقي وتقديمها للحصول على عقد عمل مهندس بالوزارة عن طريق بعض المعارف أولاد الحلال. أرجوك لا تكشفني أمام الإدارة، جربني وسترى... عملت كثيراً وعركتني الحياة. أنا من الإسكندرية والقاهرة، واكتسبت خبرة والحمد لله. العمل هنا عبارة عن متابعة لتنفيذ المشروعات، وأستطيع أن أقوم به بكفاءة، جربني ولن تندم، عندي ثلاثة أبناء، وأحتاج للوظيفة، لن أنسى جميلك ما حييت.

كان الصدق واضحاً في كلامه والرجاء يتوسل من عينيه، رجاء مشوب بعزة نفس وبلا تذلل أو انسحاق. تركيبة غير مألوفة وحضور مشع، انتبهت لصراحته اللافتة. فوجئت وفكرت سريعاً، قلت له: لا بأس اطمئن سأقبلك للعمل معي في المشروعات التي أشرف عليها.

كان ذلك في ليبيا، في مدينة طرابلس الوادعة على شاطئ البحر منذ ما يزيد على أربعين عاماً، ومضت الأحداث. أدهم جلال سليم وطرابلس الغرب، طير مهاجر وإحدى عرائس البحر لمتوسط. كلاهما يأمل ويستشرف، هو في مجيئه من الإسكندرية بعد أن جارت عليه الأيام والخطوب، وطرابلس في تطلعها للبناء والتطوير والتقدم بعد ثورة أول سبتمبر (أيلول)، التي سيصبح اسمها (الفاتح من سبتمبر) فيما بعد.

كانت طرابلس مدينة كوزموبوليتانية هادئة في ذلك الوقت من بداية السبعينات بعد قيام الثورة الليبية بقليل، يعمل بها كثير من الجنسيات: إيطاليون وأميركيون في شركات البترول الأميركية، وإنجليز وفرنسيون وألمان منتشرون في الشركات الأجنبية وشركات البترول العديدة».


اسمي هنري

اسمي هنري
TT

اسمي هنري

اسمي هنري

اليوم هو عيد الميلاد، يوم قصير قارس البرد، وأنا أقود عجلتي على طريق يمتدُّ عبر الغابة التي تحيط بمدينة أوتاوا، وشيئاً فشيئاً اشتدَّت الرياح وراحت تعصف. فجأة قطع الطريق عليَّ جذعُ شجرة انكسر بفعل العاصفة، وهوى على الأرض. انعطفتُ مباشرة إلى الجانب كي أتجنَّب الاصطدام، ونزلت العجلة في وهدة، وأخذت العجلات تدور في مكانها، بجوار صخرة عليها كتابة بحروف غامضة، رسم لها خيالي في تلك اللحظة شكلاً يشبه طلسماً مكتوباً بالعربية، لا يعني شيئاً، ويعني كلَّ شيء في الوقت عينه.

الأشجار من حولي مغطاة بالثلج، والسماء تكاد تكون بنفسجية، وليس هناك قرية قريبة يمكنني السير إليها وإيجاد مأوى. بدأ الفزع يساورني لأني امرأة وغريبة ووحيدة، فتناولتُ المجرفة من صندوق السيَّارة ورحتُ أزيح ركام الثلج، ولكن بلا جدوى لأن الحفرة عميقة، وما يسقط من الصقيع مع هبوب الرياح يجعل العمل صعباً أو مستحيلاً.

جرَّبتُ هاتفي النقَّال؛ لكن العاصفة فيما يبدو أخرسته تماماً، فهو قطعة معدنية لا تُفيد في شيء. كنت أرتدي قبعة من الصوف وبنطالاً صوفياً وسترة ثقيلة ومعطفاً ووشاحاً، ومع هذا راح جسدي يرتعد وأسناني تصطك بسبب البرد. ثم بدأت أعي وضعي الغريب، وتضاعف خوفي لأن الظلمة أخذت تهبط، وتلوَّن كلُّ شيء -حتى بياض الثلج المهيمن على المكان- بالعتمة.

على الرغم من حالة الرعب من الذئاب والحيوانات المجهولة، كان هناك شيء في أعماقي يدعوني للاطمئنان. هل سببه الحروف التي ظلَّت بارزة على الصخرة، مع أن الثلج كان يكسوها شيئاً فشيئاً؟

بقيتُ واقفة في مكاني لا أتحرَّك، أنتظر النجدة تأتيني من جهة لا أعرفها. أنا متأكدة أن هنالك حلّاً لورطتي سوف يتمُّ في زمن قريب. حاولتُ تهدئة نفسي بهذه الأفكار، ولكن عواء الذئاب الذي حملَته الريح جمَّدني من الرهبة في مكاني.

ظهرت من بعيد شاحنة مسرعة اجتازتني وتوقَّفت، وتذكَّرتُ في الحال أفلام هوليوود التي تدور حول جرائم القتل والسلْب على الطرقات. قفز رجل منها، له هيئة مصارع، بلحية شقراء وشعر طويل أجعد. كان كياني يتركز في نقطة واحدة، هي النجاة من الاغتصاب، ولو أدَّى الأمر إلى موتي. حاولتُ -والخوف يتملَّكني- استحضار أحسن طريقة تدافع بها الضحيَّة عن نفسها في صراعها مع المجرم. اقترب الرجل وتبيَّنتُ ملابسه في العاصفة الثلجية: بنطال قصير (شورت)، و«تي شيرت»، وقبعة مصنوعة من القش، و«التاتو» يغطِّي ذراعيه وصدره. كان يسير على مهله محاولاً فيما يبدو اختبار شجاعتي. وانتابتني رعشة هلع قوية، بدءاً من عمودي الفقري وصولاً لأعمق تشعُّبات أعصابي. فكَّرتُ أن أركض بعيداً؛ لكنَّ الرعب شلَّ أطرافي. لقد تحقَّق موتي إذن على يدَي ذئب بشريٍّ، وها أنا أسمع صراخ أمي الملتاع في بلدي العراق، تلومني لأني اخترت طريق الهجرة، بعيداً عن وطني.

اقترب المصارع، وعمَّني الخوف، فصرت أسمع وجيب قلبي في أذني مع صفير العاصفة. الرياح الشمالية الشرقية قارسة البرودة، وتهبُّ من كلِّ مكان حولي، وتحاول أن تقتلعني مثل ريشة، وتقذف بي بعيداً. ألقيتُ نظرة على الأحرف المنقوشة على الصخرة، طلسمي الذي قدَّم لي الاطمئنان أوَّل الأمر؛ لكن الثلج الغزير محاه الآن تماماً، واختفت الصخرة أيضاً، فالمكان عبارة عن قطعة متصلة من الجليد الصلد.

تطايرت خصلات شعر الرجل في تلك اللحظة، وكان تنفسي يتسارع، ومعدتي تضطرب لأني أجابه وحشاً حقيقياً، وله صدر ورقبة ثور. جاهدتُ كي لا أهرب، وتمسَّكتُ بالمجرفة، فهي سلاحي الوحيد. حين نكون خائفين، نرى الأمور بطريقة مختلفة.

«هيللو!».

هتف بي المصارع العملاق بصوت رجولي لطيف، والتقت عيني بعينيه. كانت له بشرة بيضاء وعليها نمشات صغيرة. أخرج نفَساً من بخار مثلَّج من بين أسنانه، وقال:

«اسمي هنري».

فجأة انفتح العالم لي في هيئة جديدة. يا للكلمة الطيَّبة من مفعول ساحر:

«لا تقلقي يا صغيرتي. ليس هناك ما يدعو للقلق أو التوتُّر. سأقوم بإخراج السيَّارة من حفرة الثلج ويكون كلُّ شيء على ما يُرام».

عاد إلى شاحنته، وساقها إلى جهة الخلف، وصارت قريبة. راقبتُه وهو يفتح صندوق العدَّة ويستخرج منه معولاً ومجرفة من الحجم الكبير، وحبالاً وأشرطة وأدوات أخرى لا أعرفها. بدأ يجرف الثلج، وحاولت مساعدته، ولكنه أبى بهزة قويَّة من رأسه. صاح بي:

«عودي إلى سيارتك».

كانت العاصفة تشتدُّ، وتخلَّص المصارع من قبعته وقميصه، وبانت حدود وأشكال الأوشام على صدره وظهره بصورة واضحة. إنهما أسد ونسر يتعاركان ويتعانقان في الوقت نفسه.

«ما الذي تبحث عنه؟» سألته، وأجاب:

«أبحث عن عصا».

هبطتُ من السيارة، وبدأت في البحث معه كي أساعده؛ لكنه أوقفني، ورنَّ صوته بقوَّة:

«العاصفة شديدة وقد تصابين بالتجمد. اجلسي في السيارة».

أتى بغصن وأخذ يحكُّ الإطارات، وانكسر العود. اتَّجه إلى الغابة ثانية، واختار شجرة أثأب ضخمة، جذورها الهوائيَّة بحد ذاتها تعادل شجرة وهي تتشابك مع بعضها. اختار زاوية شكَّلها جذران سميكان، وراح ينازع لكسر أحدهما. كان يعارك -بالإضافة إلى صلابة الجذر- ضباب الثلج والريح، في سبيل الفوز بأداة من أجلي تنقذني من هذه الورطة.

يا ربَّ السماء الكريمة! اختفى من ناظري المصارع، وبقي الأسد والنسر وحدهما يكافحان من أجلي، أم أن ضوء النهار الشحيح هو المسؤول عن هذه الرؤية؟ كان الأسد يهجم من جهة الأمام على الشجرة، وينقضُّ النسر على الجذر من الخلف. إن الطبيعة تقاومنا، وتهيئ لنا في الوقت نفسه بعضاً منها للدفاع عنَّا. مثل قصَّة النبي يونس حين ضاع في البحر لأنه كان آثماً، وهيَّأت له الآلهة وحشاً يُنقذه من الغرق.

هل كنتُ آثمة مثل يونان، وقد وفَّرت لي الطبيعة أو الربُّ أو إحدى دعوات أمِّي لي -اختر من هذه الأسباب ما تشاء- ما ينجِّيني من الضياع في بحر الثلج الذي يحيط بي من كلِّ جهة؟ المهمُّ أن المصارع عاد بعد دقائق بجذر طويل ومتين، وراح ينظِّف عجلات سيَّارتي من الثلج بحكِّها مراراً. ثم توقف بعد قليل، وجلس يلتقط أنفاسه. كان وجهه بعيداً عن الملاحة أو الجمال، ورغم ذلك صار في موضع إعجابي. تخيَّلتُ يدي تمسك بذراعه، لا لكي تعينه في العمل، وإنما تمسكها فحسب، لكي أتحقَّق من حصول المعجزة. طلب مني أن أقود السيَّارة إلى أمام وإلى الخلف؛ لكن العجلات أبت إلا أن تدور في الفراغ.

«لا فائدة!».

هتف المصارع ورمى الجذر بعيداً. ثم أحنى قامته وصار قريباً من حافة الوهدة، كتفه العارية تحت العجلة في لقطة تشبه ما قام به جان فالجان في رواية «البؤساء» لفيكتور هيغو، وهو يحمل على كاهله العربة ليخلصها من الوحل. الرياح تشتدُّ، وعواء الذئاب يعلو، والمساء يتقدم حثيثاً. بصق عملاقي في راحة كفِّه وحكَّ يديه معاً. رفع عجلتي على كتفه، وبدا كأنه يفعل ذلك دون جهد مطلقاً، وطلب مني أن أركب العجلة ويكون المقود في المركز. صاح بي:

«ساعديني بالاستمرار بالسياقة إلى الخلف أولاً ثم إلى أمام».

سمعتُ صريرَ العجلات، وأتاني صياحه بعد ثوان:

«هذا جيِّد يا صغيرتي».

لم يقل شيئاً بعد أن اندفعت العجلات من الحفرة، ولم يكن مجهداً. شكرتُه بحماس، وتخلَّلتني حرارة مصدرها دفء القلب والمشاعر. أخبرني أنه يتوجب عليه الآن إخراج شاحنته هو الآخر، فأثناء وقوفه على جانب الطريق غاصت العجلات في الجليد. صافحني كأنما بعينيه الزرقاوين الصافيتين، وهو يوجه كلامه الأخير لي:

«أموركِ تمام؟ اخرُجي من هذا المكان، وسوقي بانتباه، وسوف تصلين بالسلامة».

لا أصدِّق أني عشتُ تلك التجربة، ولست متأكدة أني رأيتُ ما اعتقدتُ أني رأيته. كان العملاق المصارع يمتلك -بالإضافة إلى الشجاعة الجسديَّة- الشجاعة الأخلاقيَّة التي يندر الحصول عليها في هذا الزمان، فلولاه كنتُ أصير طعاماً للذئاب؛ لأن أقرب قرية كانت تبعد نحو أربع ساعات سيراً على الأقدام.