يعد الحب من المفاهيم التي انشغل بها البشر منذ ظهورهم على ظهر كوكب الأرض، كما انشغل به الفلاسفة والشعراء على مر التاريخ، وهو ما يتجلى في محاورة «المائدة» للفيلسوف اليوناني الشهير أفلاطون، والتي تعد واحدة من روائع الفكر الإنساني في هذا السياق، حديثاً صدرت طبعة جديدة منها، بترجمة ويليام الميري عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة.
يقول الميري في تقديمه للكتاب إننا إزاء محاورة أفلاطون الخالدة التي أودع فيها خلاصة مذهبه في الحب، ولقد رأى أن ينقلها إلى قراء العربية حتى يحظوا بمتعة الاطلاع على هذه التحفة الرائعة من تحف أفلاطون والتي لها أكثر من ترجمة في أكثر من لغة أجنبية بخاصة الإنجليزية فلها فيها أكثر من أربع ترجمات.
اعتمد المترجم على ثلاثة من هذه الترجمات، منها ترجمة «ويليام هاملتون»، وعلى ترجمة الشاعر شيلي، وكذلك ترجمة جويت، ولم يكتفِ بالترجمة الإنجليزية، بل استعان أيضاً بإحدى الترجمات إلى الفرنسية.
يقول ويليام هاملتون (1788- 1856) في مقدمة الكتاب إن المأدبة هي المحاورة الأفلاطونية التي تشتمل على ألوان شتى من الفن والأدب والفلسفة، وهي مع ذلك أقل المحاورات صعوبة من الناحية الفلسفية، فأفلاطون الفيلسوف لم يتغلب فيها على أفلاطون الشاعر وموضوعها موضوع هام وُضع في إطار أخاذ من الحياة الاجتماعية لأثينا.
وتشتمل المحاورة على تصوير رائع لشخصية سقراط، وشخصيات أخرى شاركوه في الحوار، منهم أسماء بارزة في عالم الشعر والأدب مثل «أرستوفانز» و«أجاثون»، وفي عالم السياسة «ألقيبادس»، وقد مُزجت هذه العناصر مزجاً فنياً رائعاً بحيث إن تحليلها يفقدها طلاوتها وسحرها، ولكن لا بد من تحليلها حتى يمكن فهمها وتنضج عناصرها، بحسب هاملتون.
وضع أفلاطون محاورته نحو سنة 385 (ق.م)، أما المأدبة التي تصفها فكانت قبل ذلك وتحديداً سنة 416 (ق.م)، ولا يشك أحد أن الأحاديث التي دارت في المأدبة هي من تأليف أفلاطون، ولكنه يخلع عليها طابع الواقع. يروي المأدبة شخصان، صديق لم يذكر اسمه و آخر يدعى «أبولودرس» حيث يروي الأخير عن «أرستديموس»، وهو من تلاميذ سقراط الملازمين له، ويلاحظ أن سقراط لم يكن راوية للمأدبة على نحو ما تبعه أفلاطون في غيرها من محاورات.
يلتقي «أرستديموس» بسقراط وهو في طريقه إلى المأدبة التي دعا إليها «أجاثون» بمناسبة فوزه في مسابقة الدراما، ويصحب «أرستديموس» سقراط إلى المأدبة، وبعد تناول الطعام يقترح «أريكسماخوس» أن يستبدلوا بعزف العازفة الحديث، فيتحدث كل الحضور عن الحب.
يقتصر «فيدرس» و«بوزنياس» على معالجة الحب بمعناه البسيط الواضح، فطبيعته عند الأول لا تثير إشكالاً ما، فهو أقدم الآلهة وأفضلها وهو الذي يثير في الإنسان الإحساس بالشرف، فالمحب يحرص على ألا يصدر منه فعل مشين في حضرة حبيبه، والحب هو الذي ينمّي في الإنسان روح التضحية والإيثار ويسوق «فيدرس» الأمثلة من التاريخ ومن الأساطير ليدلل على ما يقول.
في المقابل، جاء حديث «أريكسماخوس» واهناً مهلهلاً غير أنه أضاف بحديثه شيئاً جديداً إلى النظرية الأساسية بقوله إن الحب مبدأ كوني يعمل في الكون كله، وهو بذلك يُخرج الحب عن العالم الحسي الضيق إلى العالم العقلي الذي يصفه سقراط.
ويأتي حديث «أرستوفانز» الشاعر الهزلي من أروع أعمال أفلاطون الأدبية، حيث يستهل الأول حديثه بقصة خيالية فكاهية عن المخلوقات البشرية الأولى وتمردها على الآلهة، وهي قصة تذكرنا بمسرحية أرستوفانز «الطيور»، مشيراً إلى أن الناس الآن ما هم إلا أنصاف مخلوقات قديمة، مخلوق أنثى ومخلوق ذكر وقد شطر «زيوس» الإله الأكبر كل مخلوق شطرين عقاباً له، فالحب هو الرغبة في الاكتمال؛ فالإنسان يريد أن يستعيد سعادته بالاتحاد بنصفه الآخر.
يقول «أرستوفانز» عن نفسه إنه مُسَّلٍ لا أكثر ولا أقل، ولكن حديثه المرح ينطوي على معنى عميق، ويخفي حقيقة هامة، وهي أن الحب رغبة لا يكفي إشباعها إشباعاً حسياً، فعلى سقراط أن يبحث في طبيعة هذه الرغبة. والحب عند «أرستوفانز» أيضاً شوق إلى استعادة السعادة المفقودة، وهذا من صفات الحب لدى أفلاطون في أسمى صورة، فالحب الأفلاطوني الكامل هو معاينة الجمال المطلق الذي كانت تعاينه الروح قبل اتصالها بالجسد المادي.
ويرى سقراط أن الحب ليس بجميل، وليس بخيّر، لكنه كذلك ليس بقبيح أو شرير بالضرورة، فهو بَيْنَ بَيْن، مثل الرجل الذي تكون له آراء صادقة، لكنه لا يستطيع أن يثبت صدقها بالدليل القاطع فهو في منزلة بين العلم والجهل. ويقول سقراط إن الحب هو جسر يصل العالم الحسي الفاني بالعالم العقلي الخالد.
ودلّل سقراط على صدق رؤيته بأسطورة تقول إن الحب مخلوق ذو طبيعة وسط بين الآلهة والبشر وجاءته هذه الطبيعة المشتركة من مولده فأمه الفقر، فهو لذلك يحيا دائماً في عوز وحاجة، ولكنه ورث عن أبيه الغنى، والجرأة، والقدرة على البحث عن محبوبه، كما أنه فيلسوف أو محب للحكمة؛ لأن الحكمة جميلة، وهو يعشق كل جميل. ويمكن القول عموماً إن الحب عند أفلاطون هو مبدأ عام يشمل أوجه النشاط الإنساني الراقي، بحثاً عن الحقيقة والجمال.
