في مجموعته القصصية «معجم المفردات العادية» لا يقدم الكاتب والروائي المصري أحمد شوقي علي، القصة القصيرة بوصفها بنية سردية مكتفية بذاتها، بل بوصفها جزءاً من مغامرة لغوية واعية، تنهل من قاع معجم يبدو كأنه أُهمل طويلاً، ومن هذا القاع، تنبعث نصوص تستثمر اللغة كمخزن للذاكرة والعاطفة، فتعيد تشكيل الحكايات الحميمة ضمن سردٍ عائلي وذاتي، يكشف عن آفاق مشبعة بالتوتر واللوعة.
المجموعة صدرت أخيراً عن دار «العين» بالقاهرة، وفيها يُوظف الكاتب عناوين القصص بوصفها عتبات نصية، فتتشح العناوين بسمتٍ معجمي تراثي، ليتحاور معها عبر نصوص تستنطق «العادي» و«العابر» اليومي، لا بوصفه حكياً مباشراً، بل كبحث دؤوب عن عمق منسي، حاد كالنصل، ويتجلّى ذلك على نحو خاص في القصص التي تُروى بلسان «الطفل» أو «الابن»، حيث تستقر في ركن قصيّ من ذاكرته لحظة عقاب قاسٍ من الأم، في مطلع انفتاحه على اكتشاف العالم من حوله، كما في قصتي «الألف سنة» و«ما يكون من غرز الإبرة في البدن»، فتصبح اللحظة العابرة مشحونة بطاقة رمزية تتجاوز حدود التجربة الفردية، إلى تمثيل أوسع لذاكرة البوح.]
سارِد واحد
تأخذ القصص لغة «العقاب» إلى فضاء أوسع من عتبات الطفولة، حيث تتعدد زاوية السرد بين ابن وأب وأم، لا يمكن الفصل بينهم بقدر ما يتشكّلون كسارد واحد يطوّق المشهد ذاته من أطرافه، ومن خلال تقنية الاسترجاع، يعيد النص تشكيل حجرات البيت وممراته كفضاء مشحون محاولاً تثبيت صورة من الذاكرة، فيما يترك للقارئ اكتشاف طبقات اللغة المطمورة تحت سطحها؛ تتناوب فيها الحيرة مع الدهشة، ويتخللها إحساس بالفقد لا يهدأ.
كما يستثمر الكاتب رصيداً ثرياً من الروايات والأفلام وحتى الأمثال الشعبية في نسيج قصصه، جاعلاً منها علامات مرجعية تفتح النص على فضاءات ثقافية متعددة، وتساهم في مد خيط التتبع الذاتي الذي يُحرك السرد، إذ يتقاطع مساره مع شخصيات وأسماء مثل «لوجين» عند دوستويفسكي، والفيلسوف الألماني فالتر بنيامين، والروائي والشاعر اللبناني رشيد الضعيف، وغيرهم، في سياق يربط التجربة الشخصية بموروث فكري وأدبي متنوع، ويجعل النصوص أقرب لحوار ممتد بين الذات، وذاكرة القراءة والمشاهدة.
ففي قصة «ما اجتمع على عنق الديك»، يبدأ السرد بإحالة أدبية إلى شخصية «بطرس لوجين» في رواية «الجريمة والعقاب»، الذي كان يستهدف إثارة إعجاب «براسكولينكوف» عبر أحاديث يغلب عليها التكلف، قبل أن تنزاح القصة إلى تجربة ذاتية يعيشها السارِد تفتح سؤال الكتابة وأوهام الوجاهة الثقافية، في ظل مفارقات ضمنية بين الزيف والأصالة، والإحالة إلى الطفولة ومحاولات الحكي الأولى: «سقط على يده عصفور وغنى، فاندهش الولد لروعة الموقف والصوت على السواء، فجرى إلى أمه يُصفّر في عصبية مثلما كان يفعل الطائر، ويقصُ عليها ما حدث. لم تفهمه الأم أو تمنحه اهتماماً، وكانت تلك اللحظة نفسها، التي فطن فيها الطفل أتيليو إلى ضرورة أن يصير كاتباً كي يستطيع أن يحكي عن نفسه بصورة أفضل».
اصطياد الخوف
تبدو اللغة، بكل ما تملكه من مفردات، عاجزة أحياناً عن ملاحقة دفقات الحزن العميق أو وقع الصدمة، حيث الألم يُطمر تحت غلاف من السلوك المتماسك والخارج عن المنطق، كما في قصة «البثّ» فالطفل يطل بسؤاله الموجع: «هل رأيتم أمي؟»، وربما يكون الخوف المحرك الخفي للأحداث، كما نرى في قصة «إدراك الشيء على ما هو عليه»، حيث يقتحم فأران البيت؛ فيجد السارد نفسه في مواجهة ذعره، متحايلاً عليه كما يتحايل الفأران على الاصطياد: «يعرف الفأران الخوف ويجهلان اسمه»، فتبدو القصة في ظاهرها مطاردة لفأرين في حمام البيت، وباطنها مطاردة قلق داخلي لا يُروّض بسهولة.
في قصة «مشى ثقيلاً في أرض لينة»، يتبع السرد مسار الحدس، ويعيد السارِد تعريف مفهوم «الانسجام» من خلال خبرة ذاتية في مطلع شبابه تتجاوز المنطق الظاهري، تنطلق من نبوءة صغيرة له في مراهقته، لتتوالى بعدها تأملاته حول الإشارات، والحدس، والتكرار، وكلها صور تُحيل إلى رغبته في الانتماء إلى إيقاع كوني متناغم، لكنه يظل مقلقاً: «هي دائرة، كلها خطأ وصحيح، ولكنها منسجمة، وأنا خائف من الاحتمالين كليهما».
تنساب اللغة النبوءة حتى في عناوين بعض القصص، كما في عنوان «أياً كان ما رضعتَه من حلمة الثدي، سيُسكب على قبرك»، التي تتكثّف بها مشاعر الفقد، فالقصة مكتوبة بطريقة رسالة وداع لقطٍّ عاش مع صاحبه 12 عاماً، لتلامس موضوعات عن الشيخوخة، والخيبة، والإرث الرمزي، ويتحوّل رثاء القط «فتحي» إلى مرآة لسارِد يستعيد من خلاله زمناً لم يعد يسمح بالأحلام: «الكتابة، أو ما أظنه كتابة، محض كذبة، لأننا نكتب عن الحياة من دون أن نعيشها. نحن ندفع الأيام لتمر، وهذه خيبة تصلح لختام رسالتي».
فهكذا، تبدو اللغة في المجموعة أقرب إلى كائن يتشكّل مع الزمن، وتطرح سؤالاً ملحاً حول ماهية الميراث العائلي، و«الشبه» الذي يجمعنا بقدر ما يُباعد بين أفراد الأسرة الواحدة، وفي هذا الإطار، تأتي الحوارات لا لتفضي إلى تفاهم أو ألفة، بل لتنفتح على فراغ عميم، كما في المحاورات التي تدور بين الأب وابنه في قصة «أطم»، حيث يتحوّل الحديث إلى مساحة غائمة من التباعد العاطفي، فلا تضمن رابطة الدم بالضرورة التواصل أو الفهم المشترك، لتُحيل الحاضر في غياب هذا الفهم، إلى صدى بعيد لماضٍ غير محسوم.
