«مقهى الروضة» يختصر روح بيروت و100 سنة من عمرها

ملجأ للمثقفين وطالبي الأجواء الريفية وسط الزحام

مقهى الروضة في بيروت
مقهى الروضة في بيروت
TT

«مقهى الروضة» يختصر روح بيروت و100 سنة من عمرها

مقهى الروضة في بيروت
مقهى الروضة في بيروت

هي قصة حب من نوع آخر، تلك التي كتبها زياد كاج في مؤلفه الجديد «مقهى الروضة». ببراعة الروائي ومن خلال نص مفتوح، يمزج بين التوثيق والعاطفة الشخصية، بين التحقيق الصحافي والحبكة الروائية، بين التأريخ والخيال الأدبي... يؤنسن المؤلف حياة واحد من أشهر وأقدم مقاهي بيروت، الذي لا يزال يتجدد ويستقبل زواره، عابراً السنين والأحداث الجسام، وعلى لسان أصحابه عبارة: «نعيش كأن لا شيء يحدث في الخارج». اقتفاء مسار المقهى يجعلنا نرى فيه مرآة لبيروت، بشغبها، واضطراباتها، وأنسها، وقلقها، ورومانسيتها، ومحطاتها السياسية الهائجة.

الكتاب الصادر عن «دار نلسن في بيروت، يقدم «مقهى الروضة» كأنه قرية بيروتية داخل المدينة: ماسح أحذية مسنّ، و«بصّارة» نورية، ونُدُل من جنسيات مختلفة، وأطفال، ومثقفون، وعاشقون، وشيوعيون، وشعراء، وممثلون، وسياسيون... مكان مفتوح لكل الطبقات، على اختلاف الأمزجة والانتماءات، مكان عابر للأزمنة والأحداث.

عايش المقهى انسحاب الفرنسيين سنة 1943 بعد أن كان يستقبل جنود الانتداب، واحتُفل فيه بالاستقلال. استضاف اللاجئين الفلسطينيين بعد نكبة 1948، وتفاعل مع مظاهرات 1958، وفيه تابع الرواد صوت الرئيس المصري جمال عبد الناصر وهو يتلو استقالته بعد نكسة 1967، ثم واكب عودة السلم الأهلي، بعد حرب دامية، قبل أن يواكب مرارات ما تبعها.

من مقهى بسيط مكوَّن من طاولات خشبية على شاطئ البحر، بنرجيلاته وأحاديث البسطاء، في عشرينات القرن الماضي، مروراً بتحوله إلى ملتقى للمثقفين والكتّاب، ومكان لاجتماعاتهم، والبعض استعاض به عن المكتب، وهناك من اتخذ زاوية يومية ليكتب نصوصه، وهو أيضاً معبر للسياسيين والفنانين. من هنا مرّ الرئيس رفيق الحريري وزوجته نازك، ورئيس الوزراء الأسبق تمام سلام، والنائب إبراهيم منيمنة، والفنانات نانسي عجرم، وفلة، كما أصالة ووردة الجزائرية، وكثر لا يتسع المكان لذكرهم جميعهم.

يبدأ الكتاب بقصة حب وألفة بين الراوي وامرأة ترتاد المقهى. تنشأ بين الاثنين عاطفة تنمو بروية، وهما يتشاركان هذا النبض البيروتي الحي في المقهى. «يضحكان معاً كطفلين. يعيدهما المقهى إلى أيام البراءة واحتمال الأحلام. يتبخّر الوقت بينهما كالبخار الصاعد من فنجان الشاي».

لكن الحبيبة ذات الملامح الضبابية التي تشبه بيروت بتناقضاتها، وخياراتها، سرعان ما تضطر إلى الرحيل، تاركةً كاتبنا يبحث عن مزيد من المعاني في مكان تختلط فيه المشاعر كما تمتزج ضحكات الأطفال، بقرقعة النرجيلات، وصوت النرد بحفيف ورق الشجر، أمام مشهد البحر الممتد.

حين تخبره الحبيبة بنيّتها السفر، لا تطلب منه البقاء ولا الرحيل، لكنها تضع حبّهما في اختبار. «الحبّ والوقت لا يتّفقان»، يقول الكاتب. وإذا كان الحبّ قد انتصر على الزمن لوهلة، فالفراق سيفرض منطقه في النهاية. فإما زواجاً وسفراً، وإما بقاءً وانفصالاً. لذا، ينسحب بصمت، ويتركها تذهب، مخلّفة وراءها «لوعة الفقدان»، وظلّ عطر لا يزول من على الطاولة التي كانت لهما.

حكايته مع الحبيبة انتهت لكنها بقيت قابعة في الروح، فهو يستمر في ارتياد المقهى، متأملاً الوجوه، وأحوال العابرين، يراقب كل حركة وصوت، كأنما لم تعد المرأة هي صورة الوطن، وإنما هذه البقعة الصغيرة التي تختصر ببلاغة، كل ما يدور خارجها.

فالمقهى في موقع زحفت إليه الأبنية الشاهقة والمطاعم الفخمة والفنادق الفاخرة، وبقي صامداً بروائحه، وبساطته وأناسه العاديين، وكتابه الريفيين، ومثقفيه الباحثين عن واحة وسط الكتل الإسمنتية. «أوليس المقهى هو (العروس) الناجية من الاجتياح العُمراني والباطوني المتوحِّش، عروس صُمِّمت بقوَّة لتبقى متمسِّكة بطرحتها البيضاء وبفستانها الأخضر الذي لطالما زيَّن (رأس بيروت)؟».

ولإعطاء نكهة واقعية يترك المؤلف الكلام، لمثقفين أدمنوا المكان، ولا يزالون يرتادونه يومياً. المخرج رفيق علي أحمد، يعدّ المقهى، صباحاً، مكتباً، ومكاناً لإنهاء أشغاله أو لقاء صحافيين، وبعد الظهر للاستمتاع والجُلوس مع النَّاس وسماع أخبارهم ولعب طاولة الزَّهر. «دوامه ثابت لا يتغيَّر، وحالُه كحال المنارة البحريَّة، ودولاب مدينة الملاهي القريبة».

لقاءان يوميان لا يفوِّتهما هذا الفنان الذي استوحي غالبية مسرحياته من أجواء المقهى، وكتبها على طاولاته، بين الأشجار، وأمام البحر؛ يجلس أمام «أفُقٌ حُرّ مفتوح، حيث تتحرر مخيِّلتُه الريفيَّة من كلّ قيود. يكتُب ويمزِّقُ ويحفظُ ويُردِّدُ».

رفيق علي أحمد لا ينظر إليه على أنه مقهى، بل حديقةٌ، بستانٌ، والمكانُ الوحيد في بيروت «يلّي بتحطّ أجريك ع الأرض، بتحسّ بالتراب. بعد فيه أشجار، بتطلع بتشوف السَّماء والبحر». لا بل المقهى «حديقتَه السريَّة»، وليس كما يمكن أن نتخيله مكاناً للهروب من النَّاس.

كثيرون مروا من هنا، بينهم الشاعر عصام العبد الله، الذي يستذكره في الكتاب الصحافيُّ والمَسرحيُّ والمُخرجُ، عبيدو باشا، ويقول عنه إنه في خضمِّ الحوارات الحادة التي كانت تدور، حول مواضيع سياسية خلافية «كان يُديرُ النِّقاشات بحرفيِّة واقتدار، ولا يسمحُ بالصُّراخ أو تبادُل الشَّتائم. حافظ على قواعِد اللُّعبة».

عبيدو باشا هو الآخر ركن من أركان المقهى. مداوم مخلص، يعدّ الروضة «صومعته المفضلة». هنا يشعر بالألفة، والبساطة، وببيروت أيام زمان، ويتمتع بعلاقات إنسانية «غير رأسمالية». احتفظ لنفسه بزاوية خاصة ومكان يجلس فيه كل صباح. «يأتي للكِتابةِ والقِراءةِ والتأمُّلِ ولِقاء الأصدِقاء والأحبَّة. تقع زاويتُه الثقافيَّةُ إلى يمين المدخَل، قرب حافَّة تُطلّ على بحر (المسبحِ العسكري) والأُفق البعيد حيث يسرح نظره. يختار تلك الزاوية، التي لا يجلس عليها أحد غيره قبل الظُّهر». يشعر هنا بنبض حي، بينما «المطارح الثانية جُثث».

ولا ينقضي السرد دون أن تعرف القصة المفصلة لعائلة شاتيلا التي أسست المقهى، وتناوبت أجيالها المتعاقبة على إدارته. البداية كانت مع عبد الرحمن زكريا شاتيلا، رجل بسيط من رأس بيروت، ورث عن والده الفلّاح، الأرض وحب العائلة. مطلع عشرينات القرن الماضي افتتح مقهى متواضعاً قرب البحر. بالنسبة إليه، كان مساحة فرج توفّر له قوت يومه مع عائلته.

عندما سقط الحكم العثماني وجاء الفرنسيون، تبدّلت ملامح المدينة: لبس الناس غير ما كانوا يلبسون، وجاءت النساء إلى الشاطئ بلباس السباحة، وصار الزبائن يتحدثون لغات مختلفة. أمام هذه التحولات، لم يتردّد عبد الرحمن في تطوير المقهى. ابنه البكر بدأ التوسعة بهدوء، وأضاف طاولات جديدة، وطوّر قائمة المأكولات، وخفّض الأسعار ليستقبل العائلات والطلاب والفقراء تماماً كما الأغنياء.

في أحد الأيام، دخل المقهى رجل أنيق آتٍ من مدينة حمص، وأُعجب بجمال المكان، واقترح عليه: «سمّوه الروضة، تيمّناً بالروضة التي في بلدي». لم يتردّد عبد الرحمن. ومنذ ذلك الحين، صار الاسم جزءاً من الذاكرة.

على مدى عقود، تناوب أبناء العائلة على تسلم مفاتيح المقهى وأداروه بحب؛ حافظوا على الأشجار، وزيّنوا الزوايا بالأصداف، واعتنوا بالنُدُل، وحفظوا أسماء الزبائن، واستفسروا واطمأنوا على مَن يتغيب منهم عن الحضور. وعُرف محمد شاتيلا ومعه الحاجة «أم عبد»، بحكمتهما وبساطة الروح وحسن الضيافة.

صمد المقهى في وجه كل الأعاصير: من أحداث 1958، إلى الحرب الأهلية، إلى اجتياح المقاهي الحديثة والمولات. وفي كل مرحلة، ظلّ مقهى الروضة فسحةَ تنفُّس لأبناء المدينة.

يرسم الكاتب بالكلمات ملامح المقهى الاستثنائي بصموده، بناسه، بتفاصيله، بتاريخه، ويبدع في بث الروح في نصّه، وهو يجعلك تشعر بأنك تعيش اللحظة التي يتحدث عنها، فتتابع ما يدور في المقهى من تجديدات وتحولات؛ تتذوق أطباقه، وتشرب الشاي على طاولاته. وفي حرص على الاحتفاظ بروح التشويق يترك لك مفاجأة في نهاية الكتاب حول قصة ماسح الأحذية الذي يبدو غامضاً ويثير التساؤلات خلال السرد، لنكتشف خفاياه، ونعرف قصته المثيرة وأسراره المؤثرة.


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.