«البحث عن مصطفى سعيد»... رحلة التيه السوداني

«البحث عن مصطفى سعيد»... رحلة التيه السوداني
TT

«البحث عن مصطفى سعيد»... رحلة التيه السوداني

«البحث عن مصطفى سعيد»... رحلة التيه السوداني

في روايته الجديدة «البحث عن مصطفى سعيد» الصادرة عن دار إبييدي في مصر، يضع الكاتب السوداني الزميل عماد البليك القارئ أمام مرآة مأزق الإنسان السوداني في العقود الأخيرة، حيث يتقاطع السياسي مع الشخصي، والحلم مع الكابوس، في رحلة سردية عميقة تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة والوقائع والكوابيس.

تدور الرواية حول شخصية «محمود سيد أحمد»، الشاب السوداني الذي يغادر بلاده في البداية إلى الخليج، هارباً من وطن لم يعد يحتمل أبناءه في ظل الفساد والاستبداد، ليعود لاحقاً بعد الثورة التي أنهت حكم الإسلاميين، مؤملاً أن يشارك في بناء الوطن الجديد. إلا أن الآمال تتبدد سريعاً مع تكرار سيناريوهات الإقصاء والانتهازية السياسية، ليجد نفسه في قلب تجربة مريرة من الإحباط والخيانة السياسية.

ومصطفى سعيد، كما هو معروف، هو بطل رواية الطيب صالح الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال» التي كانت تشريحاً لعقدة الهوية ما بين الشمال والجنوب، الشرق والغرب. إلا أن «البحث عن مصطفى سعيد» لا تسعى لإعادة إنتاج رواية الطيب صالح، بل تقدم قراءة محدثة لانكسارات ما بعد الاستقلال في صيغته المعاصرة، حيث صار الوطن ذاته متاهة من الحروب والانقلابات المتعاقبة

كتب الناشر: «في أجواء سردية كثيفة، يستعرض الكاتب رحلة محمود في الداخل والخارج: من الخرطوم إلى لندن، مروراً بمطار هيثرو الذي يتحوّل إلى نقطة مفصلية يتلاقى فيها قدره الشخصي مع مصير وطنه الممزق بالحرب الأهلية والصراعات السياسية المعقدة. فبعد أن منعه ضابط الجوازات من السفر في لحظة كانت البلاد تنزلق إلى أتون معركة مسلحة طاحنة، يجد نفسه ضائعاً وسط العاصمة المنكوبة، قبل أن تبدأ سلسلة من الأحداث التي تقوده في النهاية إلى اللجوء السياسي في بريطانيا».

في النهاية، تقدم رواية «البحث عن مصطفى سعيد» شهادة مؤلمة وعميقة عن الإنسان السوداني الذي ظل عالقاً لعقود بين فكيّ الاستبداد والحلم المؤجل.


مقالات ذات صلة

شعراء سوريون... ابتداع «لغة ثالثة»

ثقافة وفنون نزار قباني

شعراء سوريون... ابتداع «لغة ثالثة»

منحت سوريا الأدب العربي عبر السنين قامتين من أعلى القامات الشعرية في اللغة العربية: المعري قديماً، وأدونيس حديثاً. على أن هذين الاثنين –وإن احتلّا منزلةً رفيعةً

د. ماهر شفيق فريد
ثقافة وفنون رواية «أيتام الجبال» للسورية نجاة عبد الصمد

رواية «أيتام الجبال» للسورية نجاة عبد الصمد

«الحالم بلا كلل، لا ينتبه إلى أنّ مغامرته الكبرى، منذ وُلد حلمه بها، بدأت»، بهذه العبارة تفتتح نجاة عبد الصمد روايتها «أيام الجبال» التي صدرت أخيراً عن دار «ضفا

«الشرق الأوسط» (برلين)
ثقافة وفنون هل كتب توفيق الحكيم ويوسف السباعي أدب «الفنتازيا»؟

هل كتب توفيق الحكيم ويوسف السباعي أدب «الفنتازيا»؟

يتناول العدد الثالث (يوليو / تموز) من مجلة «الإيسيسكو»، موضوعاً مهماً هو علاقة الأدب العربي بأدب «الميتافيرس» و«الفنتازيا».

ميرزا الخويلدي (الدمام)
ثقافة وفنون ف. ر. ليفيز

هل ما زال الأدب قادراً على تغيير العالم؟

كان الناقد والأكاديمي الإنجليزي الأشهر ف. ر. ليفيز يؤمن أن الأدب لا يجب أن يقف بمعزل عن الحياة، وإنما يجب أن يغذيها بقيمها الحضارية والأخلاقية،

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون سردية القتل الأول

سردية القتل الأول

في روايتها «فوق رأسي سحابة» الصادرة أخيراً عن «دار العين» بالقاهرة تشيّد الكاتبة الروائية المصرية دعاء إبراهيم عالماً تخييلياً ينهض على واحدة من أقدم قصص التراث

منى أبو النصر (القاهرة)

شعراء سوريون... ابتداع «لغة ثالثة»

نزار قباني
نزار قباني
TT

شعراء سوريون... ابتداع «لغة ثالثة»

نزار قباني
نزار قباني

منحت سوريا الأدب العربي عبر السنين قامتين من أعلى القامات الشعرية في اللغة العربية: المعري قديماً، وأدونيس حديثاً. على أن هذين الاثنين –وإن احتلّا منزلةً رفيعةً لدي مؤرخي الأدب والمتضلعين في اللغة العربية وآدابها وأنصار الحداثة من شعراء ونقاد وقراء- لم يكونا قط شاعرين «جماهيريين» ولا جزءاً من وعي الرجل العادي أو رجل الشارع، إن كان هذا الأخير يقرأ الشعر أساساً.

فوعورة لغة رهين المحبسين ولزومه ما لا يلزم، وحداثة شاعر التحولات والهجرة في أقاليم الليل والنهار وحفول لغته بالإشارات الأسطورية والتاريخية والشخصية، إلى جانب ما اتسم به عمل الرجلين من عمق فلسفي وتأمل ميتافيزيقي كانت كلها بمثابة حائط صلب يَحول بين المتلقي وبين ولوج عالمهما، ويجعلهما شاعرين للنخبة المثقفة او الصفوة القليلة من أصحاب الذائقة الرفيعة والمعرفة الواسعة.

ولأن لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويضاده في الاتجاه، كما يقول علماء الطبيعة، فقد كان من المتوقع أن يولِّد هذا اللون من الشعر بعيد التناول رد فعل عكسياً، وأن يحدو بشعراء آخرين إلى استخدام لغة قريبة من لغة الحياة اليومية، والحكي العادي، وتطعيم الفصحى بالعامية، واجتناب مفردات القواميس وكتب الأدب القديمة.

بندرعبد الحميد

رد الفعل هذا موضوع كتاب صدر في هذه الأيام عنوانه «شعراء سوريون والحداثة الشفوية أو المحكية»، Syrian Poets and Vernacular Modernity، من تأليف دانيل بيهار Daniel Behar الأستاذ المساعد للأدب العربي الحديث في قسم اللغة العربية وآدابها بالجامعة العبرية في القدس.

والكتاب هو أحدث إصدارات سلسلة «دراسات إدنبره في الأدب العربي الحديث» التي تصدر في اسكوتلندا، ويشرف عليها الدكتور رشيد العناني.

وبصدور كتابها الجديد هذا تكون قائمة إصدارات السلسلة قد ضمت ثلاثين كتاباً عن مختلف الأجناس الأدبية؛ شعراً وقصاً ومسرحاً ونقداً ومقالاً منذ مطلع القرن التاسع عشر حتي يومنا هذا.

أهم معالم الطريق التي يتوقف عندها الكتاب ثلاثة: نزار قباني (1923 - 1998)، ومحمد الماغوط (1934 - 2006)، وشعراء قصيدة النثر مثل منذر المصري، ورياض الصالح الحسين، وبندر عبد الحميد،، وعادل محمود، وصالح دياب.

فنزار قباني هو الشاعر واسع الانتشار (خصوصاً وقد ترنَّم بشعره عبد الحليم حافظ وكاظم الساهر ونجاة الصغيرة وماجدة الرومي) الذي لمس وترين حساسين في نفوس القراء: الوتر الأول هو الإيروسية والحوار بين الجنسين وتحليل عاطفة الحب والحديث من منظور المرأة (كما في قصيدة «شؤون صغيرة»)، والآخر هو مخاطبة الروح القومية والعاطفة الوطنية واستجاشة الهمم كما في قصائده عن المقاومة الفلسطينية والفدائيين وهوامشه على دفتر نكسة يونيو (حزيران) 1967. وإلى هذين الوترين أضاف وتراً ثالثاً هو النقد الجريء لجوانب من المجتمع العربي كما في قصيدة «خبز وحشيش وقمر».

محمد الماغوط

رمى نزار إلى نحت لغة جديدة وحدد منهجه بقوله: «بعد أن كانت اللغة الشعرية إقطاعية وطبقية ومتجبرة ومتكبرة وغليظة وثقيلة الدم علَّمتُها فن العلاقات العامة، وطريقة الحوار الديمقراطي، وأجبرتُها على النزول إلى المقاهي والمطاعم الشعبية والشوارع الخلفية والاختلاط بالبروليتاريا».

ويتمثل إنجاز نزار في إقامته جسراً بين الشفوي والكتابي، الموروث والحديث، الشرق والغرب، ومحاولته القضاء على الازدواجية اللغوية، ورفعه التكلفة بين الشعر والشعب، فهو يمثل مرحلة انتقالية بين الشفوية والفن العالي.

أما محمد الماغوط فقد أسس الشفوية في سبعينات القرن الماضي، متأرجحاً بين الحداثة والواقعية الاشتراكية، على نحو يذكِّرنا بالشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي. كان شعره محاولة جريئة للجمع بين الشفوية وحدة الانفعال النفسي، والانبثاق العضوي التلقائي، والتمرد الفردي. وهو في قصائده يفيد من تقنيات الفن السينمائي، ومن معطفه خرجت ما يسميها عباس بيضون «السلالة الماغوطية».

وشعراء قصيدة النثر بتمردهم على العروض الخليلي وإمعانهم في استخدام مفردات الحياة اليومية يمضون خطوة أبعد في الربط بين الفن والحياة وكتابة شعر واقعي يعكس هموم المواطن العادي ومعاناته ومسراته المتواضعة. إنه شعر - ضد، وكتابة «تحت سقف واطئ» تبتعد عن سبحات الخيال العالية.

رفض هؤلاء الشعراء النظرة الرومانسية إلى الشاعر على أنه بطل خارق للعادة، أو بتعبير علي محمود طه: كائن هبط الأرض كالشعاع السنيّ بعصا ساحر وقلب نبي. فالشاعر إنسان عادي يجول في الأسواق، ويعاني مشكلات الحياة اليومية مثل أبسط مواطن.

ولا يفوت المؤلف أن يشير إلى الصلة بين استخدام هؤلاء الشعراء السوريين اللغة المحكية ومحاولة الكاتب المسرحي المصري توفيق الحكيم في خمسينات القرن الماضي ابتداع «لغة ثالثة» تقوم في منزلة وسط بين الفصحى والعامية.

وكتاب بيهار قائم على أطروحة دكتوراه أُجيزت من جامعة هارفارد الأميركية في 2019، ومن ثم فهو عمل محكم يستوفي شرائط البحث العلمي من دقة وإحاطة ورجوع إلى الأصول. ومؤلفه واسع العلم باللغات يترجم إلى الإنجليزية من العربية والعبرية والألمانية والفرنسية والإسبانية. وكتابه إضافة قيمة إلى سلسلة جليلة ستظل لآماد كثيرة مقبلة مرجعاً لا غنى عنه لكل دارس جاد للأدب العربي الحديث.