الباحث متحف عايد ترابين يروي قصة حلمٍ عمره مائة عام

من صحراء النقب إلى باريس رحلة أول متحف تراث فلسطيني

متحف «من عبق التراب الفلسطيني» في باريس
متحف «من عبق التراب الفلسطيني» في باريس
TT

الباحث متحف عايد ترابين يروي قصة حلمٍ عمره مائة عام

متحف «من عبق التراب الفلسطيني» في باريس
متحف «من عبق التراب الفلسطيني» في باريس

عندما اختارت الطبيبة الفلسطينية حليمة عايد ترابين (1894-2014) أحد أحفادها لتطلق عليه اسم «متحف» كانت تمضي في تحقيق أحلامها بإعادة افتتاح متحف «تراث من عبق التراب» الذي أسسته جدتها حاكمة العايد ترابين (1775-1885) في قرية غزالة شمال بئر سبع، عام 1790. وتعرض للتخريب، ونهب الكثير من مقتنياته عام 1948، وفق ما يرويه الباحث الأكاديمي الفلسطيني متحف عايد ترابين بقوله إن جدته حليمة أخذته من كنف العائلة بعمر مبكر، وأرسلته إلى روسيا لدراسة علم المتاحف، والتعمق فيه، ليكون أحد «حراس التراث والثقافة الفلسطينية»، وأن حليمة، التي ورثت مهنة الطب العربي والبدوي عن جداتها، كرست شبابها لدراسته، ونالت درجة الدكتوراه بالجراحة من القسطنطينية عام 1916، وسافرت خلال حياتها إلى دمشق، وعدة مدن مصرية، وصنعاء في اليمن، ومكة، وسيناء، والنقب. وخلال وجودها في القسطنطينية كانت تلتقي ابن عمها الطبيب الشهير في دمشق أحمد منيف عثمان محمد عايد ترابين (1886-1962) مؤسس معهد الطب والكلية العلمية بدمشق، وهو من الفرع الفلسطيني المصري عائلة «أباظة العايد» التي استقرت في سوريا عام 1831، وعرفت في سوريا باسم العائدي، وعرفت في مدينة يافا بـ«عائلة هيكل».

د. متحف العايد ترابين في مكتبة أكاديمية «علم المتاحف الفلسطيني والعربي» في باريس

خلال اللقاءات كانا يناقشان الأفكار، ويتبادلان الخبرات، واتفقا على ضرورة تعريف الأوروبيين بالثقافة الفلسطينية والعربية. ومثّل ذلك دافعاً لإرسال حليمة حفيدها (متحف) إلى روسيا لتهيئته من قبل معارفها من المختصين لدراسة فن إدارة الدبلوماسية الثقافية الدولية من خلال علم المتاحف والتربية المتحفية. وبدوره اعتنى منيف العائدي بإرسال أبنائه وإيفاد طلابه للدراسة في أوروبا، ومنهم الراحل الدكتور عثمان العائدي الذي له مساهمات مهمة على مدار أكثر من خمسين سنة في تطوير قطاع السياحة والثقافة والاقتصاد في سوريا.

والباحث الأكاديمي متحف عايد ترابين هو اليوم الممثل الأوروبي للاتحاد العام للمؤرخين الآثاريين في فلسطين، والمنسق الدولي في المجلس الدولي للمتاحف التابع لمنظمة «اليونيسكو» الدولية نيابة عن «إيكوم فلسطين». وقد تمكن من تحقيق حلم جدته بعد وفاتها بستة أعوام وأسس «أكاديمية علم المتاحف الفلسطيني والعربي» في العاصمة الفرنسية باريس عام 2022، والتي ضمت «متحف تراث من عبق التراب» الذي جمع ما تبقى من مقتنيات المتحف التي تبعثرت نتيجة الأحداث التي شهدتها فلسطين عام النكبة 1948، إلى جانب وثائق وموجودات تحمل قيمة تاريخية معرفية وتراثية منها نحو 250 ثوباً فلسطينياً من كافة المناطق، وحلي، وأدوات طب شعبي، وطوابع، ونقود، وأوراق مالية، وغيرها، بالإضافة إلى مكتبة تحوي أكثر من 1000 كتاب، وأرشيفات من القرن السابع عشر إلى القرن الحادي والعشرين، وإلى جانبها دار نشر تعنى بنشر الدراسات والأبحاث المتعلقة بالتراث والثقافة الفلسطينية، بهدف تطوير ومأسسة علم المتاحف الفلسطيني والعربي، ونيل الاعتراف الدولي بهذا العلم بوصف أنه مفهوم أكاديمي، وقد نجح في ذلك، ونال اعتراف العديد من الدول الأوروبية في المفهوم الأكاديمي.

قطعة من الحلي الفلسطينية كانت ترتديها نساء قبيلة العايد ترابين أواخر القرن التاسع عشر

ويعبر متحف عايد ترابين عن اعتزازه بعائلته التي لم تكن «مجتمعاً مغلقاً؛ فلأكثر من ألف عام، استكشف الرجال والنساء الثقافة والطب والقانون وطرق التجارة، وحماية الضعفاء»، كما يفخر بجداته، لا سيما جدته حليمة التي ربتّه قائلاً: «تخيل امرأة شابة من الشرق، تبلغ من العمر سبعة عشر أو ثمانية عشر عاماً، تذهب إلى تركيا في بداية الحرب العالمية الأولى لتتعلم، وتطلع على ثقافات مختلفة، بعقل منفتح».

ويحضّر الباحث الأكاديمي متحف عايد ترابين لإصدار دراسة أخذت من عمره خمسة عشر عاماً من البحث والتدقيق والجمع، بمشاركة من الفرنسية الباحثة كلمنتينا بولي، حول تاريخ عائلته المتحدرة من قبيلة العايد ترابين، والأدوار الريادية التي لعبتها في مناطق وجودها عبر التاريخ بين مصر وبلاد الشام على مدى مائتي وثلاثين عاماً. ليكون بحثه «وثيقة» تركز بشكل رئيس على الروابط بين المساهمات الثقافية والتاريخية للقبائل العربية التي تنقلت عبر الجغرافيا الممتدة من اليمن والحجاز ومصر، وحتى بلاد الشام.

وتتناول الدراسة تجربة الطبيبة حاكمة التي تعلمت الطب في الإسكندرية، وتخصصت بطب العيون، وكانت «صاحبة أفكار ثورية في زمانها، فقد تمكنت من إقناع البدو في محيطها بالاحتفاظ بمقتنيات المتوفين بدل دفنها معهم كما جرت العادة». ثم أسست «متحف تراث من عطر الأرض» ليكون وسيلة «لـتعزيز المعرفة، وشفاء الذاكرة»، انطلاقاً من مبدأ «العقل السليم في الجسم السليم»، ومفهوم «الحكيم والفهيم» في ربط بين صحة الجسد وسلامة الذاكرة باعتبارها هوية حية تتنقل عبر الأجيال، بما يعكس السياق الفريد لفلسطين باعتبار أنه جزء لا يتجزأ من التراث الإنساني.


مقالات ذات صلة

في الحبّ... وفلسفته

كتب إيريس مردوك

في الحبّ... وفلسفته

الحب! ليس بيننا على الأغلب من لم يعِشْه فيما مضى، أو يعيشه اليوم. نراه في كل مكان يُحتفى به على أساس أنه «التجربة الأكثر أهمية في الحياة الإنسانية».

لطفية الدليمي
كتب  جون كاسيدي في محاضرة له

جون كاسيدي يؤرّخ للرأسمالية بلسان منتقديها

في عصر تزداد فيه التساؤلات الجوهرية حول ماهية أزمات النظام الاقتصادي العالمي بفعل تحديات مثل الذكاء الاصطناعي، وتغير المناخ، وازدياد عدم المساواة، والحروب...

ندى حطيط
ثقافة وفنون عيسى مخلوف

الكتابة على الحافة بين أدب الرحلة ورثاء الراحلين

لعلني لا أجافي الحقيقة في شيء إذا نوهت في بداية هذه المقالة بأن مسارعتي لقراءة إصدار عيسى مخلوف الجديد «باريس التي عشت» لا تعود إلى جاذبية المدينة المعنية

شوقي بزيع
ثقافة وفنون مشطان من العاج مصدرهما موقع دبا الحصن الأثري في إمارة الشارقة

مشطان عاجيان من موقع دبا الحصن الأثري

تحوي دولة الإمارات العربية سلسلة من المواقع الأثرية، منها موقع دِبَا الحصن الذي يحمل اسم المدينة الساحلية التي تُشرف على ضفاف الشاطئ الغربي لخليج عُمان

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الأكاديمية الإسبانية تستذكر يوسا وتكشف أعمالاً له غير منشورة

الأكاديمية الإسبانية تستذكر يوسا وتكشف أعمالاً له غير منشورة

تحتفل الأكاديمية الملكية للغة الإسبانية يوم الأحد المقبل بذكرى مرور 3 أشهر على رحيل الكاتب الكبير ماريو فارغاس يوسا في مسقط رأسه ليما عاصمة البيرو

شوقي الريّس (مدريد)

الكتابة على الحافة بين أدب الرحلة ورثاء الراحلين

عيسى مخلوف
عيسى مخلوف
TT

الكتابة على الحافة بين أدب الرحلة ورثاء الراحلين

عيسى مخلوف
عيسى مخلوف

لعلني لا أجافي الحقيقة في شيء إذا نوهت في بداية هذه المقالة بأن مسارعتي لقراءة إصدار عيسى مخلوف الجديد «باريس التي عشت» لا تعود إلى جاذبية المدينة المعنية بالكتابة وسحرها الاستثنائي، أو إلى اهتمامي المزمن بكل ما يمت لأدبي الرحلة والسيرة بصلة أو نسب فحسب، بل كان دافعي الأهم للقراءة هو قدرة صاحب «رسالة إلى الأختين» العالية على أن يوائم في كتاباته بين عمق المعرفة وجماليات السرد وإشراقة اللغة والأسلوب.

وإذا كان مخلوف لا يتوانى عن تحويل العديد من إصداراته إلى «معرض» شديد الثراء لثقافته الواسعة وعلاقاته المباشرة برموز الثقافة العالمية المعاصرة، فإن ما يبدو عند بعض الكتاب نوعاً من التبجح المعرفي، يتخذ عند عيسى طابعه التلقائي، ويبدو جزءاً لا يتجزأ من الموضوع المتناول بالمقاربة والبحث، بعيداً عن الادعاء والاستعراض المتعسف للكتب المقروءة.

ولا بد من التنويه إضافة إلى ما تقدم بأن تعامل مخلوف مع الكتابة بوصفها مولّداً للمتعة، إضافة إلى شغفه المفرط بالحرية، هو ما جعله يخرج عن فكرة التجنيس الأدبي النمطي. فهو إذ جانب في كتابه السابق «ضفاف أخرى» الامتثال لمفاهيم السيرة الشخصية المألوفة، لم يتقيد في عمله الأخير بالمفهوم السائد لأدب الرحلات. فبدلاً من التنزه في جغرافيا العاصمة الفرنسية وأماكنه، آثر مخلوف القادم إلى باريس من كاراكاس لمتابعة تحصيله العلمي، أن يحتفي بروح المدينة الكوزموبوليتية التي تحوّلت عبر الزمن إلى مساحة نادرة للتنوير والتجريب الحداثي، وإلى منصة مفتوحة للاندماج الثقافي الكوني.

يتحدث مخلوف في مقدمته المسهبة لكتابه عن أن تصوره لباريس قبل القدوم إليها، كان بالدرجة الأولى ذا منشأ ثقافي وإبداعي. وإذا كان ذلك التصور منقسماً بين الرومانسية والواقعية، فلأن قراءاته الأولى كانت هي الأخرى مزيجاً من كتابات فيكتور هيغو وموباسان ولامارتين وبلزاك وإميل زولا، وصولاً إلى بودلير الذي انقلب على التقاليد السائدة في عصره. وقد جهد صاحب «أزهار الشر» في البحث عن صورة للمدينة تتعدى جمالها الهندسي الخلاب، لتتصل بالأبعاد الروحية والشهوانية للمدينة الغامضة، وصولاً إلى مخاطبته لها بالقول «لقد أعطيتِني طينكِ فصنعتُ منه الذهب».

وإذ يشير المؤلف إلى الدور الرائد الذي لعبه نابليون الثالث في تغيير ملامح باريس وإنارتها وشق طرقاتها وتزيينها بالحدائق، وتأهيلها بالمكتبات والمقاهي والمسارح وقاعات الأدب والفن، يشير في الوقت نفسه إلى أن المدينة لم تكن في القرنين الفائتين صناعة فرنسية صرفة، بل هي ثمرة التفاعل الخلاق بين مبدعيها المحليين من أمثال رامبو ومالارميه وسارتر وأراغون وبونفوا وبارت وفوكو، وبين القادمين إليها من أربع رياح الأرض ليعثروا في كنفها على ما ينقصهم من نيران الشغف أو هواء الحرية. ومن بين هؤلاء كتّاب وفنانون عالميون من أمثال بورخيس وماركيز وبيكاسو ودالي، وعرب ولبنانيون من أمثال جبران وآسيا جبار وصليبا الدويهي وشفيق عبود والطاهر بن جلون وصلاح ستيتية وإيتيل عدنان وفاروق مردم بك وغيرهم.

على أن احتفاء مخلوف بالمدينة التي كانت قبل عقود، الحاضنة الأمثل لمغامرة الكتابة والفن، التي شكلت الملجأ والكنف والملاذ لكل الهاربين من وطأة التخلف والجهل والاستبداد في بلدانهم الأم، لم يمنعه من الإقرار بتقهقرها المأساوي إزاء ما سماه إريك أورسينا، عضو الأكاديمية الفرنسية، غول الرأسمالية المفترس، الذي عمل بنهم مرَضي على افتراس كل إبداع خلاق وتفريغه من مضمونه، وإخضاعه لسوق الشراء والبيع ومنطق العرض والطلب. وقد عبّر بيار بورديو من جهته عن هذه الظاهرة بالقول «إن المنتج الثقافي أصبح يُعامل اليوم بوصفه سلعة وأداة لهو وتسلية، فيما بات أصحاب المال والنفوذ هم رعاة الثقافة وأسيادها وراسمي القواعد الجديدة للاجتماع البشري وقوانينه».

وفي تلك البورتريهات الملتقطة للكتاب الباريسيين، مقيمين ووافدين، ثمة ما يبدأ من لحظة اللقاء الختامي ثم يعود على طريقة «الفلاش باك» إلى لحظة البدايات، كما في الفصل المتعلق بإيتيل عدنان، الشاعرة والرسامة اللبنانية المعروفة. فالمؤلف يستهل الفصل بالحديث عن اللقاء الأخير الذي جمعه بإيتيل قائلاً: كانت إيتيل جالسة في قاعة الاستقبال، حيث نلتقي عادة، وكانت متعبة ومتألمة. لقد توقفت عن تناول الدواء الذي سبّب لها الدوار. قلت لها سنتصل بالطبيب، ونطلب منه أن يصف لك دواء آخر. وكان ردها حاسماً ما من أدوية للشيخوخة. إلا أنه ما يلبث، إثر عرض مكثف لأبرز محطات حياتها ووجوه تميزها الإبداعي، أن يقول لا أدري متى التقينا، إيتيل وأنا، أول مرة. فبعض اللقاءات سابقة لأوان حدوثها، وموجودة حتى قبل أن توجد.

ومن بين ما يلفتنا في الكتاب حرص صاحبه على المواءمة بين فكرة المثقف المتخصص التي لازمت الحداثة في بعض حقبها الأخيرة، وفكرة المثقف الموسوعي الذي لا تحول هويته الشعرية الأساسية، دون اهتمامه بشؤون الفكر والفلسفة والأدب والتاريخ، وتفاعله النقدي العميق مع فنون الشعر والرواية والموسيقى وفنون التشكيل. على أن المعرفة هنا لا تظل أسيرة التنظير الممل واللغة الباردة، بل ثمة على الدوام تيار من العاطفة الدافئة والحماس المكتوم، يسري في شرايين الكتابة، بعيداً عن الإنشاء الرخو والمبالغة الميلودرامية.

أما الأمر الآخر اللافت، فيتعلق بحرص مخلوف على تقديم الثقافة والإبداع بوصفهما جسور التواصل الأهم بين طرفي العالم اللذين باعدت بينهما الضغائن السياسية وتضارب المصالح والعصبيات العرقية والدينية المختلفة. فحيث تطلع الكثير من المبدعين المشرقيين والعرب إلى الغرب، باعتباره موئل الحرية الأرحب، والكنف الأمثل لصقل التجارب الأدبية والفنية، كان كتاب وفنانون غربيون يتطلعون بالمقابل إلى الشرق، بوصفه الظهير الأكثر صلابة لنداءات الروح، والينبوع الأولي للبراءة الملهِمة.

وفيما يتقاسم المؤلف مع الكتاب والفنانين الذين تناولهم في كتابه، الكثير من شؤون الإبداع وشجونه، وصولاً إلى الأسئلة الممضة المتعلقة بالحياة والفن والزمن والموت، يحرص على أن يقدم لقارئه أعمق ما لدى محاوريه من الكنوز المعرفية التي يملكونها، عبر برقيات ولقىً وحدوس إنسانية شديدة التكثيف، بحيث نقرأ لإيف بونفوا قوله «إن القرن الحادي والعشرين هو على الأرجح القرن الذي سيشهد على اختناق الشعر تحت الأنقاض التي تغطي العالم». ونقرأ لبورخيس، الذي تمكن مخلوف أن يلتقيه لدقائق معدودة في باريس، قوله: «أعمى أنا ولا أعرف شيئاً ولكنني أتوقع أدَقّ المسالك»، ولجان جينيه «الجرح وحده أصل الجمال». كما نقرأ لشفيق عبود، الفنان التشكيلي اللبناني: «الهواة يلعبون، يتسلّون، يركضون وراء الواجهات. وحده الفنان الحقيقي ينتحر في صناعة المستقبل».

تعامل مخلوف مع الكتابة بوصفها مولّداً للمتعة هو ما جعله يخرج عن فكرة التجنيس الأدبي النمطي

وإذا لم يكن بالأمر السهل التوقف عند المحطات المختلفة للكتاب، الذي شاءه مخلوف أن يأخذ شكل المقاربات النقدية والشخصية لمن احتضنه وإياهم كنف المدينة العريقة، فإن ما يلفتنا في الكتاب، الذي يقع بين اليوميات والسيرة الشخصية وأدب الرحلة، هو إبعاد السرد عن البرودة والتقعر والنمذجة الجامدة، ومهره بقدر غير قليل من الحب، وبلمسة إنسانية متأتية عن علاقة المؤلف المباشرة بمن كتب عنهم. وسواء أخذت تلك العلاقة شكل الصداقة الحميمة أو اللقاء الصحافي البحت، فثمة في الحالين ما يعطي الكتابة عند صاحب «عزلة الذهب» سمات الصور والرسوم، التي تحاول تأبيد اللحظات العابرة ومنعها من الإمَحاء.

والواقع أن الشعور الذي يمنحه كتاب «باريس التي عشت» لقارئه، هو مزيج من الانتشاء بلغة مخلوف التي تشع نضارة وعذوبة، وبين لسعة الأسى الشجي المتأتية عن كون معظم لقاءات المؤلف مع المبدعين المعنيين، كانت تتم في المراحل الأخيرة من أعمارهم، أو في اللحظات القاسية التي تسبق الموت. ففي حين كان مرض السرطان قد فتك بأجساد البعض، كما في حالة إدوار سعيد وسعد الله ونوس وأمجد ناصر، كان البعض الآخر منهكاً ومهيضاً تحت مطرقة الشيخوخة، كما في حالة خورخي بورخيس وصلاح ستيتية وإيتيل عدنان.

وثمة، أخيراً، ما يُخرج الكتاب من الخانة المتعلقة بأدب الرحلة التقليدي، ليجعله تقصياً لمسالك الذات الإنسانية، شبيهاً بما قصده خليل حاوي في قصيدته المعروفة «رحلة السندباد الثامنة». كما يبدو من بعض وجوهه نوعاً من أدب «الرحيل»، والرثاء التأبيني المضمر لمن رحل من المبدعين، وضرباً من ضروب التلفت بالقلب نحو نوعين من السحر متلازمين: سحر المدينة المنقضي وسحر الحياة الآفل.