«سيرة هشّة ليوم عادي»... رواية تستعيد حميمية الريف المصري

«سيرة هشّة ليوم عادي»... رواية تستعيد حميمية الريف المصري
TT

«سيرة هشّة ليوم عادي»... رواية تستعيد حميمية الريف المصري

«سيرة هشّة ليوم عادي»... رواية تستعيد حميمية الريف المصري

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت حديثاً رواية «سيرة هشّة ليوم عادي» للكاتب المصري عبد الكريم الحجراوي، التي تدور أحداثها في 24 ساعة فقط. يرتكز العمل في بنيته السردية على التفاصيل البسيطة التي تتمتع بملامسة خاصة، وتصنع عالماً واسعاً ومتشعباً، على غرار لوحات الفسيسفساء لمشاهد حميمية من الريف المصري في نسخته الصعيدية بجنوب البلاد.

يسعى المؤلف إلى تحويل ما هو عادي ومألوف، مثل طقوس الاستيقاظ من النوم وتربية الطيور ولحظات انفلات الأعصاب وملابس الرجال والنساء، إلى مشاهد تحمل معاني إنسانية أكثر رهافة وعمقاً، لكن بعض المشاهد جاءت محملة بحسّ تقريري مباشر ولغة وصفية فوتوغرافية، أفقدت السرد الدهشة المطلوبة.

واللافت أنه يمكن قراءة الرواية من أي فصل من فصولها، التي تم تقسيمها زمنياً على نحو يتخذ من الوقت وحركة الشمس المتدرجة على مدار اليوم علامات دالة تصنع عنوان كل فصل، مثل «الفجر»، «الصبح»، «الشروق»، «البكور»، «الغدوة»، «الضحى»، «الرواح»، «الأصيل»، «الشفق».

يصدّر المؤلف روايته بكلمة لافتة، يقول فيها: «هذا يوم رتيب بذلت قصارى جهدي في أن يبدو كذلك»، كما يتوجه في موضع آخر إلى القارئ قائلاً: «لك أيها القارئ الحرية الكاملة في قراءة هذه السيرة الهشّة ليوم عادي من أي وقت تختاره من أوقاته الأربعة والعشرين دون الالتزام بالتسلسل الموجود هنا، ولن يؤثر ذلك في حبكة النصّ الخالي من الحبكة تماماً».

وفي موضع ثالث يستعيد مقولة للأديب الروسي الأشهر: «يقول أنطون تشيخوف إن المسدس الذي يظهر في المشهد الأول لا بد أن يطلق النار في المشهد الأخير، أما هنا فتظهر مئات المسدسات في كل مشهد لكنها لا تطلق النار أبداً».

يذكر أن عبد الكريم الحجراوي كاتب وأكاديمي حاصل على درجة الدكتوراه في النقد المسرحي من كلية الآداب جامعة القاهرة، وتعدّ «سيرة هشّة ليوم عادي» روايته الأولى المنشورة، بعد روايتين لم ينشرا بعد، هما «ما قبل الرحيل» و«هند»، وله مساهمات أدبية ونقدية متنوعة، منها: «المسرحية الشعرية العامية في مصر - دراسة تحليلية»، «تجليات السير الشعبية في المسرح العربي - دراسة تداولية»، «صدمة التوحش - صورة (داعش) في المسرح العربي»، «الهوية - رؤية مأساوية للعالم»، وله تحت الطبع «معجم المسرح السيري - ببليوغرافيا شارحة لاستلهامات السير الشعبية في المسرح العربي من 1847 إلى 2022».

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«البرد شديد هنا، لقد انتصف شهر (طوبة) والعشرة الأواسط منه أشدّها زمهريراً، والسّحر أشد أوقات الليل صقيعاً يجمد الأطراف. إنه برد الأربعين يوماً القارسة في كياك وطوبة. ترفع (سورية) الغطاء المحبوك بمغزل من الصوف بهمة لا تتناسب مع سنواتها التي قاربت السبعين، متحدية الصقيع الذي يدبّ صداه في العظم مباشرة.

أطلق عليها والدها هذا الاسم إبان الوحدة بين مصر وسوريا من عقود خلت. تذكر (سورية) الله بصوت خافت وتناجيه باسمه الفتاح العليم، وحينما تنتهي من المناجاة تقبل يديها وتمسح بها على وجهها الذي ينكمش من صقيع اليدين اللتين تلامسانه. وجه لا يبين منه شيء في الظلام، ولا يسمع سوى خشخشة حراكه، تسند يدها إلى الحائط الطيني كي ترفع نفسها من على الحصير الذي تفترشه على الأرض.

ما إن تكتمل قامتها في الانتصاب وينزلق الغطاء الصوفي حتى تسري البرودة في جسدها أكثر فأكثر، تسير بخطوات وئيدة عاقدة العزم على أن تشعل ناراً لعلها تدفئ برد هذا الشتاء وتطرد صقيعه متنبئة بصيف شديد الحرارة سيأتي، لا تعرف هل ستكون من أهله أم من أهل القبور.

تخرج من غرفتها الطينية الكائنة في الجانب الجنوبي من المنزل متجهة إلى الغرف الطينية في الجانب الشمالي منه حيث يهجع ابنها الأصغر (شيبان) وزوجته (شادية). وفي البهو غير المسقوف الواصل بين الجانبين، تردد (سورية) وهي ترتعد فرائصها برداً: طوبة تخلي الصبية جلدة والعجوزة قردة، طوبة تخلي الشابة كركوبة».


مقالات ذات صلة

هل ما زال الأدب قادراً على تغيير العالم؟

ثقافة وفنون ف. ر. ليفيز

هل ما زال الأدب قادراً على تغيير العالم؟

كان الناقد والأكاديمي الإنجليزي الأشهر ف. ر. ليفيز يؤمن أن الأدب لا يجب أن يقف بمعزل عن الحياة، وإنما يجب أن يغذيها بقيمها الحضارية والأخلاقية،

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون سردية القتل الأول

سردية القتل الأول

في روايتها «فوق رأسي سحابة» الصادرة أخيراً عن «دار العين» بالقاهرة تشيّد الكاتبة الروائية المصرية دعاء إبراهيم عالماً تخييلياً ينهض على واحدة من أقدم قصص التراث

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون موسيقى البشر إعادة إنتاج لموسيقى الطبيعة؟

موسيقى البشر إعادة إنتاج لموسيقى الطبيعة؟

في كتابه «الموسيقى والعقل» الصادر أخيراً عن «دار العربي» بالقاهرة، ترجمة أماني مصطفى، يطرح الباحث والملحن الكندي ميشيل روشون تساؤلات تغوص في عمق تلك العلاقة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب إيريس مردوك

في الحبّ... وفلسفته

الحب! ليس بيننا على الأغلب من لم يعِشْه فيما مضى، أو يعيشه اليوم. نراه في كل مكان يُحتفى به على أساس أنه «التجربة الأكثر أهمية في الحياة الإنسانية».

لطفية الدليمي
كتب  جون كاسيدي في محاضرة له

جون كاسيدي يؤرّخ للرأسمالية بلسان منتقديها

في عصر تزداد فيه التساؤلات الجوهرية حول ماهية أزمات النظام الاقتصادي العالمي بفعل تحديات مثل الذكاء الاصطناعي، وتغير المناخ، وازدياد عدم المساواة، والحروب...

ندى حطيط

هل ما زال الأدب قادراً على تغيير العالم؟

ف. ر. ليفيز
ف. ر. ليفيز
TT

هل ما زال الأدب قادراً على تغيير العالم؟

ف. ر. ليفيز
ف. ر. ليفيز

كان الناقد والأكاديمي الإنجليزي الأشهر ف. ر. ليفيز يؤمن أن الأدب لا يجب أن يقف بمعزل عن الحياة، وإنما يجب أن يغذيها بقيمها الحضارية والأخلاقية، وأن دراسة الأدب ينبغي أن يكون لها تأثير نافذ على الإحساس والفكر ومعايير الحياة، ومن ثم على القوى التي تحكم العالم أجمع، وإلا كانت بلا طائل.

ولد ليفيز F.R.Leavis (1895 - 1978) في كمبريدج وتلقى تعليمه بجامعتها العريقة إلى أن صار أستاذاً فيها وقضى عمره المديد يبث أفكاره ويؤسس مدرسته النقدية من موقع الأستاذية وحتى تقاعده في سنة 1962. وفي سنة 1932 أصدر مجلته النقدية الشهيرة وأطلق عليها اسم «Scrutiny» أو «تمحيصات» واتخذ منها منبراً لنشر أفكاره النقدية وتقويماته الأدبية هو وأتباعه وتلامذته. استمرت المجلة تصدر لمدة واحد وعشرين عاماً إلى أن توقفت عام 1953، واليوم تعد مجلداتها صرحاً شامخاً من صروح النقد الأدبي الحديث في العالم الغربي.

كان ليفيز فارساً من فرسان الزمان القديم وكانت نقمته على مظاهر الحياة في القرن العشرين عظيمة. ومن هنا صبّ جام غضبه على عصر الصناعة والتكنولوجيا وعلى ضروب الثقافة السلعية التي تسعى لتملق جهل الجماهير. اعتقد ليفيز أن هذا العصر بسماته الصناعية الفاسدة قضى على الحياة الاجتماعية العضوية في إنجلترا (وهو ما نستطيع بلا شك تعميمه على مجتمعاتنا العربية). ونراه يتحسر في كتاباته على خصائص تلك الحياة التي مضت إلى غير عودة من قبيل الأغاني والرقص الشعبي والعيش في الأكواخ الرعوية ومنتجات الحرف اليدوية إلى غير هذا من مظاهر الحياة في عصر ما قبل الثورة الصناعية، التي اختفت لتحل محلها الأفلام والصحف ووسائل الإعلام والإذاعة والتلفزة إلى آخر هذه القائمة التي أنحى عليها ليفيز باللائمة لإشاعة الابتذال في الحياة العصرية. ولنذكر أن هذا كله كان قبل عصر الحاسوب والإنترنت والهاتف الذكي والذكاء الاصطناعي إلى آخر القائمة التي استجدت منذ وفاة ليفيز قبل أربعين سنة ونيف. أتصوره لو عاد إلى الحياة اليوم لسارع يطلب رحمة الموت من جديد.

درج النقاد على إلحاق ليفيز بمدرسة معلم كبير من معلمي الإنجليز في القرن التاسع عشر، ذلك هو الشاعر الناقد توماس آرنولد (1795 - 1842). يظهر تأثير آرنولد على ليفيز في إصراره الدائم على أهمية الأدب والنقد في تنمية الوجدان والذوق الأخلاقيين في نفوس الناس. فآرنولد هو رسول القرن التاسع عشر الذي نادى بأن الشعر ينبغي أن يكون «نقداً للحياة»، وأن النقد يجب أن يكون له دور تربوي. كان آرنولد يعتقد أن الثقافة هي القوة التي بوسعها أن تنقذ العالم من التردي في مهاوي المادية، وكان هو أول من سعى في مقالاته النقدية إلى التأكيد على أهمية الشاعر في المجتمع وليس فقط في إطار حرفته الفنية. ووصل آرنولد إلى حد الربط بين وظيفة الدين ووظيفة الشعر في تقويم الوجدان البشري. هذه الأهمية التي يضفيها آرنولد على دور الشعر في المجتمع هي الأرضية التي يلتقي فيها مع ليفيز.

يقول ليفيز إن وظيفة الناقد هي أن يحاول أن يرى شعر الزمن الحاضر باعتباره استمراراً ونمواً للماضي. بمعنى أن القصيدة التي يكتبها شاعر ما اليوم لا تنشأ في فراغ ولا تنقطع صلتها بجذور التقاليد الأدبية الراسخة في الزمان، وإنما تُعتبر صورةً من صور الحياة العصرية التي تكتسبها تلك التقاليد. أما حين ينظر الناقد إلى شعر الزمن الماضي فمهمته تتحول إلى إرساء الماضي في صلب الحاضر بمعنى أن شعر الأجيال الماضية يستمر في إنارة وجداننا المعاصر ويواصل إضفاء المعنى على حياة البشر عبر الأجيال، فلا حياة للماضي إلا في الحاضر. وبذلك فإن الناقد عن طريق إقامة جسر بين الماضي والحاضر يوفر للبشرية نوعاً من الذاكرة الحية اللاشخصية، التي تتطلع نحو المثل الأعلى وتمثل معياراً أخلاقياً صالحاً.

ما هو السبيل إذن الذي يسلكه الناقد للوفاء بهذه المهمة؟ إن أداة الناقد عند ليفيز هي التحليل الدقيق أو «التمحيص» إذا شئنا استخدام كلمته الأثيرة، التي أطلقها عنواناً لمجلته النقدية المذكورة. حين يتناول الناقد شاعراً ما بالدراسة ينبغي أن يكون أسلوبه في البحث هو النظر التحليلي الدقيق في نص القصائد بحيث لا يصدر أحكاماً نظرية أو تعميمات إلا إذا كان يمكن تحقيقها بالرجوع إلى النص والاستشهاد به. ولا سبيل للناقد إلى ذلك إلا بالحد من حريته الشخصية وإنكار ذاته إنكاراً بيّناً بمعنى أن تحليلاته واستنتاجاته لا بد أن تكون قائمة على أسس موضوعية صرفٍ وتكون مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنص. بذلك يبتعد النقد عن مزالق الذاتية ويتطلع إلى مراتب العلم الموضوعي.

غنيٌّ عن القول إن مهمة الناقد تكون ناقصة إذا انحصرت في دراسة الشاعر الفرد باعتباره فرداً فحسب. إنما تتمثل رسالة الناقد في إقامة الصلة بين الشاعر الفرد والتقليد الأدبي الذي ينتمي إليه والممتد عبر العصور. ذلك أن الشاعر الفرد لا يعيش خارج التقليد وإنما هو جزء عضوي منه. بعبارة أخرى هو يعيش في التقليد والتقليد يعيش فيه. وإذا كان سبيل الناقد إلى دراسة شاعر معين هو أن يلجأ إلى اختيار مقتطفات من أعماله تدل عليه وتمثل خواص أسلوبه ورؤياه، فإن سبيله إلى دراسة تقليد أو عصر أدبي بعينه هو اختيار بضعة من شعرائه تبرز في قصائدهم السمات المشتركة لذلك العصر أو التقليد. ويعتقد ليفيز أن تبعة الناقد تنحصر في أن يكتشف لنفسه الحقائق البينة في موضوع بحثه وأن يفصح عنها بوضوح وإحساس بالمسؤولية.

غير أن ليفيز كان ناقداً لا يعرف في الحق – أو فيما يعتقد أنه الحق – لومة لائم. وكانت معاييره النقدية معايير مثالية متعالية لا تقنع إلا بجلائل الأعمال الأدبية ولا تلتفت سوى إلى خلاصة الخلاصة وما يتدنى عن ذلك قيد أنملة فهو من سقط المتاع ولغو المقال ولا نجاة له بحال من هراوة ليفيز النقدية الغليظة التي لا تعرف شفقة ولا رحمة. ومن أمثلة شطط ليفيز وتطرفه في أحكامه النقدية القاطعة أنه أدان الروائي الإنجليزي الأشهر تشارلز ديكنز باعتبار رواياته، باستثناء «زمن عصيب» (Hard Times)، خلواً من أي قيمة اللهم إلا تسلية جمهور القراء. وأصدر حكمه على الروائية المحدثة فرجينيا وولف، التي أسهمت في ابتداع الأسلوب السردي المعروف بتيار الشعور، قائلاً إن اهتماماتها لا تتجاوز تفاهات الاستجابة الانطباعية لتجربة الحياة. حتى جون ميلتون فخر الشعر الإنجليزي الذي صاغ قصة الخلق في الملحمة الكبرى المعروفة بـ«الفردوس المفقود» لم ينجُ من حكم قاسٍ يدين شعره بالآلية ويقرن صياغته للشعر بعمل البنّاء الذي يضع قالباً من الطوب فوق آخر.

هكذا تنهال ضربات ليفيز القاصمة ذات اليمين وذات اليسار. وإذا كان أساطين القص والشعر التاريخيون لا ينجون من نقده الباطش ولا شفيع لهم بين يديه، فلا عجب أن صرعاه من معاصريه كانوا أسوأ حظاً. ولنطالع نموذجاً من أسلوبه الجارح الذي يتجاوز الموضوعية إلى ضرب من السب والإهانة الشخصية، إذ يقول في نقده للروائي البارز المعاصر له سي. بي. سنو (C. P. Snow): «يظن سنو أنه روائي لكني أقول إنه لا وجود له بصفته روائياً، ولن يكون له وجود. بل لا يمكن القول إنه على دراية بماهية الرواية. إن كل صفحة من قصصه تنضح بالتفاهة التي تتكشف لنا على الدوام في كل زاوية من زوايا قصصه. إني أحاول أن أتذكر أين سمعت (أم أني حلمت؟) أن رواياته إنما يكتبها له عقل إلكتروني يُزود بالتعليمات في هيئة عناوين فصول. إن الحكم الذي توصلت إليه هو أن سنو يخلو تماماً من أي شيء يميزه عقلياً».

كان ليفيز ناقداً عظيماً، ومثل كل العظماء اختلف الناس فيه وانقسموا ما بين مؤيد ومعارض. ولعل أفضل كلمة تلخص ما صار في عالم الأدب والنقد في عصر ما بعد ليفيز هو ما تنبأ به الناقد الإنجليزي جون كاري والأستاذ الفخري في جامعة أكسفورد في تأبين ليفيز وقت وفاته: «إنما هو احتمال بعيد أن نشهد ناقداً بحجم ليفيز مرة أخرى، ذلك أننا لم نعد نملك إيمانه بقدرة الأدب في التأثير على القوى التي تحكم العالم. إن العالم الذي نعيش فيه اليوم هو مصداقٌ لقول الشاعر أودن (W. H. Auden) إن «رجال الشرطة السرية وليس الشعراء هم سلطة التشريع غير المعلنة في هذا العالم» كانت نبوءة تخلو من التفاؤل، لكن للأسف لم تكذّبها الأيام، ما يدعونا اليوم للتشبث أكثر بمثالية ليفيز وإيمانه بقدرة الأدب على تغيير المجتمع والعالم والضمير البشري. كان ليفيز يصر دائماً على أهمية الأدب والنقد في تنمية الوجدان والذوق الأخلاقيين في نفوس الناس