حسن المطروشي: بعض «الأعمال الكاملة» للشعراء مجرد عبء على رفوف المكتبات

قال لـ«الشرق الأوسط»: «المعلقة» علمتني «صناعة الشاعر النجم»

الشاعر حسن المطروشي: أمنح القارئ مشاركة في الاستمتاع بالنص والجرأة على ابتكار تأويله الخاص (الشرق الأوسط)
الشاعر حسن المطروشي: أمنح القارئ مشاركة في الاستمتاع بالنص والجرأة على ابتكار تأويله الخاص (الشرق الأوسط)
TT

حسن المطروشي: بعض «الأعمال الكاملة» للشعراء مجرد عبء على رفوف المكتبات

الشاعر حسن المطروشي: أمنح القارئ مشاركة في الاستمتاع بالنص والجرأة على ابتكار تأويله الخاص (الشرق الأوسط)
الشاعر حسن المطروشي: أمنح القارئ مشاركة في الاستمتاع بالنص والجرأة على ابتكار تأويله الخاص (الشرق الأوسط)

يمثل الشاعر العُماني حسن المطروشي، تجربة شعرية ناضجة عبرّت عن تميزها بالفوز في فبراير (شباط) الماضي، بالمركز الأول في برنامج «المعلقة» عن فئة «الشعر الفصيح»، التي تنظمها وزارة الثقافة السعودية، وقيمة الجائزة مليون ريال.

المطروشي (1963) شاعر لديه العديد من المجموعات الشعرية، أصدرها مؤخراً في مجموعة كاملة، كما أنه مترجم وإعلامي، وخبير في التطوير الثقافي، وقد حصل على العديد من الجوائز من أهمها جائزة «توليولا» الإيطالية للشعر العالمي.

«الشرق الأوسط»، التقت الشاعر حسن المطروشي في مسقط بسلطنة عُمان، بمناسبة معرض مسقط الدولي للكتاب، وتحدث في هذا الحوار عن تجربته في مسابقة «المعلقة»، واصفاً ما مرّ به على مسرح «المعلقة» بأنه «كان أشبه بالأعاصير والطوافين الجارفة».

وقال إن الانفتاح على مختلف الفنون والدراسات النقدية ساهم في إنضاج تجربته الشعرية، واعتبر أن «الترجمة إحدى الضرورات الكبرى على مستوى التجربة الفردية وعلى المستوى الجمعي». وأكد أنه لا يكتب الطلاسم... وأنه يمنح القارئ مشاركة في الاستمتاع بالنص والجرأة على ابتكار تأويله الخاص، كما أوضح أن بعض نصوصه تفتش عن «القارئ النوعي»، كما تحدث عن الحداثة الشعرية في بلده عُمان، معتبراً أن هناك «حداثة واعية وعميقة مدركة لخصوصيتها رغم انفتاحها على منجز الحداثة».

فيما يلي الحوار مع الشاعر حسن المطروشي:

الشاعر العُماني حسن المطروشي عند إعلان فوزه بالمركز الأول في برنامج «المعلقة» عن فئة «الشعر الفصيح» فبراير الماضي (الشرق الأوسط)

أعاصير «المعلقة»...

* ماذا يعني لك الفوز بجائزة «المعلقة»، ماذا أضاف لك هذا الفوز؟

- لعلي لا أبالغ إذا قلت إنني بعد «المعلقة» غير الذي كنته قبلها. فهذه الجائزة تحظى بحضور إعلامي كثيف، ويتم نقلها عبر عدة قنوات فضائية عامة وثقافية من التي تحقق أعلى المشاهدات عربياً. وهنا تكمن صناعة الشاعر النجم، وهذا لم يتحقق لي عبر مسيرتي السابقة، رغم حضوري في المحافل والمهرجانات ومعارض الكتب طيلة أكثر من ربع قرن. وإلى جانب الحضور الإعلامي والقيمة المادية المجزية لهذه الجائزة، فهي أيضاً ذات قيمة أدبية عالية كونها تحتكم إلى المعايير الأدبية والفنية البحتة. كما لا أنسى أن الجهة المنظمة والراعية لهذه الجائزة هي وزارة الثقافة السعودية. كل ذلك يمنح الشاعر إحساساً عالياً بأنه أضاف إلى رصيده جائزة مرموقة جديرة بالفخر والاعتزاز.

* أين موقع المجازر الشعرية بالنسبة لما حدث في مسابقة «المعلقة»؟ أنت قلتَ بعد الفوز «وصفتُ نفسي بأنني مثل الناجين من أحد الحروب أو الكوارث الكونية لأن هذه مجازر شعرية»

- بكل تأكيد أنني بعد انتهاء الفصل الأخير من الجائزة وتحقيق الفوز، تملكني ذلك الشعور، بأنني ناجٍ أكثر من كوني فائزاً. لأن ما مررت به وما واجهته على مسرح المعلقة كان أشبه بالأعاصير والطوافين الجارفة. كانت لحظات هائلة من القلق والتوجس. لأن الشعراء الذين واجهتهم في كل مراحل الجائزة لم يكونوا شعراء عاديين، بل كانوا كباراً وصائدي جوائز ولهم تجاربهم الكبيرة ومن الأسماء المعروفة على خريطة الشعر العربي. كان الرهان صعباً، والتحدي ضخماً ومرعباً. لذلك فإنني عند إعلان النتيجة في كل مرحلة من مراحل الجائزة لا أشعر بأنني فزت بقدر شعوري بأنني نجوت من مجزرة شعرية هائلة.

* قبل جائزة «المعلقة» حصلتَ على جائزة «توليولا» الإيطالية للشعر العالمي عن قصيدتك «النسل المطرود»، ما علاقة الجوائز بالإبداع؟

- الجوائز لها علاقة بالمبدع ذاته وبالإبداع أيضاً. ففيما يتعلق بالمبدع فإن الجوائز تمنحه مكاسب كثيرة من السطوع والشهرة وفرص الحضور والانتشار أكثر من غيره، ناهيك عما تقدمه بعض هذه الجوائز من مكاسب مالية تعين الأديب على الاستقرار الحياتي والمعيشي. أما فيما يتعلق بالإبداع، فإن الجوائز تشكل مؤشراً عملياً على قدراته الإبداعية، إذ لولا ذلك لما تمكن من منافسة كبار الكتاب والأدباء واقتناص الجوائز، لا سيما إذا ما تعددت هذه الجوائز في أكثر من منافسة وبلد.

«الأعمال الشعرية» لحسن المطروشي صدرت الشهر الحالي وتضم خمسة دواوين وهي «وحيداً... كقبر أبي» و«على السفح إيّاه» و«لدي ما أنسى» و«مكتفياً بالليل» و«ليس في غرفتي شبح» (الشرق الأوسط)

الأعمال الشعرية

* لماذا أسقطتَ أول ديوانين شعريين صدرا لك حين جمعتَ أعمالك الشعرية عام 2023 هما: ديوان «فاطمة»، و«قَسَم»، هل هذا تعبير عن عدم رضاك عن بداياتك الشعرية؟

- البدايات غالباً ما تكون بسيطة. التجربة الشعرية تبدأ مثل طفولة الكائنات غضة، مرتبكة وبسيطة، ثم تنمو رويداً كما تنمو الورود، حتى تبلغ نضجها في مرحلة ما. شخصياً أتأمل الأعمال الشعرية الكاملة للكثير من الشعراء، فأشعر أن الكثير مما دونوه لم يكن شعراً يستحق أن يصرف عليه المال وتملأ به الأوراق. هو مجرد عبء على رف المكتبة، بعيداً عن مسوغات الباحثين والنقاد. وعلى كل حال فأنا حاولت الإفلات من فكرة الأعمال الكاملة فاخترت أن يكون العنوان (الأعمال الشعرية: 2003 - 2019م)، وهذا يعني أنه يمكن أن يكون هناك أعمال قبل هذه المرحلة، وكذلك يفتح الباب لأية أعمال قادمة.

* يرى نقادٌ أن مجموعاتك الشعرية: «وحيداً... كقبر أبي»، و«على السفح إيّاه»، و«لَدَيَّ ما أنسى»، و«مكتفياً بالليل»، و«ليس في غرفتي شبح»، مثلّت مرحلة النضج في مسيرتك الشعرية؛ ما العوامل التي ساهمت في إنضاج هذه التجربة؟

- أبرز العوامل التي أسهمت في نضج التجربة لديّ تتمثل في القراءة الكثيرة، والانفتاح على مختلف الفنون والدراسات النقدية في المجالات الإبداعية الأخرى. كما لا أنسى تأثير مشاركاتي الكثيرة في المهرجانات واحتكاكي بالكثير من شعراء العالم والاستماع إلى وجهات النظر حول الشعر عامة وشعري خاصة، وعدم التعجل والاندفاع في البحث عن الشهرة.

آخر إصدارات المطروشي «شبابيك الكلام» وهي مجموعة مختارة من المقالات الأدبية، تبدأ عناونيها بكلمة «عن» لتصبح هذه العنعنة «مجازاً» بمنزلة العتبة الأولى للدخول إلى فضاءات النص (الشرق الأوسط)

الشعر والترجمة

* تُرجم العديد من أعمالك إلى لغات مثل الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وصدرت ترجمة إسبانية لمختارات من شعرك بعنوان «أطلّ عليكم من هذه الكوة» عن وزارة الثقافة بكوستاريكا. ماذا تضيف الترجمة لرصيد الشاعر؟

- ثمة مقولة ترى بأن الأدب المكتوب بلغته الأم هو أدب محلي، أما الأدب المترجم فهو أدب عالمي. وفي الحقيقة، وإن لم يحقق شعري صفة العالمية، فإنني أعتبر الترجمة هي الباب الوسع للوصول إلى الآخر ونقل صوتك الإبداعي وثقافتك وقيمك والتعريف بحضارتك. الترجمة إحدى الضرورات الكبرى على مستوى التجربة الفردية وعلى المستوى الجمعي.

* يظهر في نصوصك تأثر بالتراث العربي... إلى أي مدى يمثل التراث معيناً في ثقافتك وتجربتك الشعرية؟ ماذا يمنحك المكان والبيئة والتراث؟

- التراث العربي يجسد مرجعيتي الثقافية بشكل عام. أنا ابن المكان العربي واللسان العربي والتاريخ العربي. أنا عربي الوجه والدم واللسان، فكيف أتجرد من كل هذا وأنسلخ من هويتي؟ أنا بكل تأكيد أنفتح على ثقافات العالم وأقرأ الشعر الذي تكتبه كل الشعوب ويُقال في مختلف العواصم، ولكني أجد في تراثي العربي ثروة عظيمة تمنحني الخصوصية والفرادة عن غيري، كما أجد أنني مسؤول عن خدمة هذا التراث وإيصاله للعالم بلغة حديثة يفهمها الآخر.

القارئ النوعي

* تمتاز بعض أعمالك بالغموض، يصف ذلك الشاعر اللبناني الراحل محمد علي شمس الدين، قائلاً إن «المطروشي يكتب قصائده بضبابية موحية، والضبابية في الشعر تقدّم منطق الاحتمالات الخصب على منطق اليقين المحدد»، ما رأيك؟

- الغموض هو أحد الظواهر الأسلوبية في الشعر عموماً، وقد وُجِدت له جذور وتأصيلات في شعرنا العربي منذ القدم. فها هو أبو إسحاق الصابي أحد نقاد العصر العباسي يقول: «أفخم الشعر ما غمض، فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه». وهناك طائفة ترى عكس ذلك تماماً. أنا شخصياً أجد في «الغموض الشفيف» متعة خاصة. فلا أذهب إلى التعمية والترميز والإغلاق التام للنص ليصبح كالطلسم، وإنما أترك بيني وبين القارئ شعرة قائمة لأمنحه المشاركة في الاستمتاع بالنص والجرأة على ابتكار تأويله الخاص. رغم أنه هناك بالفعل لدي قصائد تتطلب قارئاً نوعياً. الشعر في نظري يدور في فضاء اللغة الإشارية أو ما يطلق عليه المجاز، ويذهب باتجاه الابتكار والتجديد، بعيداً عن القوالب القاموسية الجاهزة للألفاظ.

* كيف ترى صورة المشهد الشعري والابداعي في عُمان؟ أين موقع التجربة الحداثية في هذا المشهد؟

- أستطيع القول إن نهر الشعر في عمان يتدفق منذ الأزل ولم فتر يوماً أبداً. والمشهد الشعري في عمان يجسد الامتداد الطبيعي لسلالته الشعرية المجيدة منذ أقدم العصور. الشعر في عمان مواكب لكل تحولات الشعر في العالم، وقد أفرز تجربة حداثية كان لها حضورها وتأثيرها في المشهد العربي بشكل عام. ثمة حداثة واعية وعميقة مدركة لخصوصيتها العمانية ومخلصة لهويتها المكانية بامتياز، رغم انفتاحها الواسع على منجز الحداثة في سياقها الإنساني الكبير.

نص شعري

حِيَلٌ لغزواتٍ خاسرة

أَبَتاهُ... سَلِ الطرقاتِ عن ابنِكَ يا أبتي، سترى بَحَّاراً خَطَّاء،

لا ذكرى، لا امرأةً، لا صحبَ لديه هُنا

أبتي... أنا هذا الهاربُ مِنْ قَسَماتِكَ مُذْ نَبَذَتْني كُلُّ كتاتيبِ الحاراتِ،

أُسَمّي الغيمَ حقيبتَنا

أَتَسَكَّعُ وحدي مَذْعوراً، أُخْفي وحْشِيةَ أسلافٍ غرباءَ بدائيينَ، جبيني يَرْشَحُ مِلْحاً، يفْضَحُني

ويدلُّ الحُرّاسَ عَلَيَّ،

ولكني لَمْ أبرحْ مُدَّخِراً أحزانَكَ يا أبتي

كيْ أفتَحَ منزلَنا

سأخونُ أسانيدَ التاريخِ وأشْطُبُ مِنْ زمني الزمَنا

سأَشنُّ رحيلاً، فَلْيَصِفوا وَطَنا

هيّأْتُ الليلةَ مُتَّكَأ الغَوّاصِ الكَهْلِ،

عَثَرْتُ بسَحْنتِهِ فَتَطايَرَ سِرْبُ نوارسَ هاجعةٍ، أيقظْتُ البحْرَ وهيّأْتُ الشطآنْ هيّأْتُ سلاماً للجيرانْ

هيّأْتُ مواسمَ للبحَّارةِ والغرقى، هيّأْتُ «عريشَ القيظِ» أحاديثَ السُّمارِ،

حَكايا الجِنِّ، وقَهْوَتَنا

هيّأْتُ رياحيَ والسُّفُنا

أحْضَرْتُ نُباحَ الليلِ الصاعدَ مِنْ آبارٍ نائيةٍ، ومُواءَ الظُّهْرِ يعَكِّرُ قَيْلولةَ صَيَّادٍ مُضْنى

هيّأْتُ ُلِيُتْمي أدعيةً

وعباءَةَ أُمّي... بَسْمَتَها الأشهى، إبريقَ وضوءِ أبي، وبَكَيْتُ كعاداتِ الأشجارِ طويلاً

أحْضَرْتُ سماءً دافئةً ونخيلا

هيّأْتُ حظائرَ فارِغَةً لنُرَبّي أحلاماً لنْ تُشْبِهَنا

هيّأْتُ طريقي الضائعَ نَحْو مُصَلّى الحَيِّ،

جَلَبْتُ قصائديَ الأولى للبنتِ،

قصائديَ المنحولةَ مِنْ موسيقى ضِحكتِها العصماءْ

هيّأْتُ دُروباً ماطرةً للمنسيّين بلا أسماءْ

أَنْجَبْتُ لِذاتيَ أشْباهاً كُثراً وغَزوْتُ بِهمْ مُدُنا

أحْضَرْتُ رُعودَ الأزمنةِ الأولى، ورأَيْتُ الدهرَ بِرُمَّتِه ينهارُ على بابي، والأرضُ مهيأةٌ كيْ تخْرُجَ للتجْوالِ معي عَلَنا

المشهدُ مُكْتَمِلٌ، والآن سأنْفُخُ مِنْ روحي، وأُعيدُ العالَمَ سيرتَه الأولى،

لكنَّ المفقودَ الأوْحَدَ كان... أنا!



رحيل الدكتور محمد السيد إسماعيل... صاحب العطاء الوافر في النقد والشعر

رحيل الدكتور محمد السيد إسماعيل... صاحب العطاء الوافر في النقد والشعر
TT

رحيل الدكتور محمد السيد إسماعيل... صاحب العطاء الوافر في النقد والشعر

رحيل الدكتور محمد السيد إسماعيل... صاحب العطاء الوافر في النقد والشعر

فقدت الحياة الثقافية في مصر والعالم العربي واحداً من النقاد المتميزين المتابعين بدأب ومحبة لفعالياتها وحراكها الإبداعي. فقد غيَّب الموت الشاعر والناقد الدكتور محمد السيد إسماعيل، بعد معاناة مع مرض الكبد، وشُيعت جنازته الثلاثاء بقريته عن عمر يناهز 63 عاماً، بعد أن وهب أكثر من ثلثي سنوات حياته للأدب والثقافة، شاعراً وناقداً وباحثاً أكاديمياً وكاتباً مسرحياً، وترك للمكتبة العربية الكثير من الكتب المهمة.

وُلد إسماعيل عام 1962 في قرية طحانوب (30 كيلومتراً شمال القاهرة)، وبدأ مشروعه الثقافي مع مطلع الثمانينات وهو لا يزال طالباً في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، لحق أخيراً برفاق جيله من مبدعي الثمانينات وأصدقاء رحلته، الشعراء محمود قرني، وشريف رزق وفتحي عبد الله، وغيرهم من الذين سبقوه في الرحيل، ويبدو أن شعراء جيل الثمانينات في الشعر المصري مُنذَرون للموت مبكراً، دون أن يحصلوا على ما يوازي عطاءهم الشعري والنقدي.

لم يكن غريباً أن تتحول صفحات المثقفين المصريين في مواقع التواصل الاجتماعي سرادق عزاء مفتوحاً، يعزون فيه بعضهم بعضاً في فقيدهم، فهم يعرفون قيمته وقدره جيداً، رغم أنه ليس من المنتشرين في اللجان وتحكيم الجوائز والسفريات لمعارض الكتب والمؤتمرات بالخارج، وكان منشغلاً بأن يضع بصمته في الداخل، يتابع المبدعين الشبان، يكتب عنهم في بداياتهم، يشجعهم ويشد على أيديهم، ويكتب عن المبدعين الكبار بغض النظر عن شهرتهم، أو ما سيجنيه من ورائهم من مكاسب كما يفعل كثيرون، فالراحل تقريباً له يد بيضاء على معظم مبدعي مصر، شعراء وروائيين، ويندر أن تجد مبدعاً مصرياً لم يكتب إسماعيل مقالاً عن روايته أو ديوانه، أو على الأقل يذهب ليناقش هذه الأعمال في ندوة هنا أو هناك، دون حتى سابق معرفة أو مصلحة.

كان محمد السيد إسماعيل يسافر إلى كل محافظات مصر تقريباً، بلا مقابل، ليناقش مبدعاً في بداية طريقه، ولم يعرفه أحد بعد، لمجرد أنه يتوسم في كتابته الموهبة، فيأخذ بيده، ويرشده إلى بدايات الطريق. وكان يشارك بأبحاثه في مؤتمرات قصور الثقافة بكل المحافظات، متجشماً عناء السفر، إيماناً منه بأهمية وصول الثقافة إلى القاطنين في الهامش، هناك في المدن والقرى البعيدة عن مركزية العاصمة.

هذا الخط الذي انتهجه، كان نابعاً من إيمانه بأن المثقف ليس دوره فقط أن يبدع الكتب وينشرها؛ بحثاً عن شهرة أو مال، أو جائزة هنا أو هناك، بل كانت قناعته أن وظيفة المثقف الأولى أن يساهم في نشر الوعي في محيطه القريب، ودائرته الأولى الصغيرة، ثم تتسع هذه الدائرة إلى دوائر أكبر، ولعل فهمه هذا لطبيعة المثقف ودوره ووظيفته، كان دافعه لأن يعدّ رسالة الدكتوراه عن موضوع «المثقف والسلطة في الرواية السياسية»، ولعل هذا التصور هو الذي جعله محافظاً على الإقامة في قريته، دون الانتقال إلى العاصمة بكل أضوائها، وكان كثيراً ما يقيم ويشارك في ندوات في مكتبة صغيرة بها، ويدعو لها كبار المثقفين من أصدقائه، محاولاً إضاءة شمعة وسط عتمة الليل في فضاء القرية.

محمد، القروي، ظل يتعامل مع الثقافة والأدب كفلاح يرعى الأرض ويحرثها، ويغرس النبتة ويرويها؛ أملاً في أن تزهر وتؤتي ثمارها، دون أن يكترث بمن الذي سيحصد ثمارها في نهاية المطاف، فالمهم لديه أن تطرح شجرة الثقافة والوعي، أما جني الثمار فلا يشغل حيزاً من تفكيره، ويترك الآخرين ليتسابقوا على الحصاد، مستمتعاً بأن غرسه أثمر. كل هذا نتيجة تكوينه الشخصي، وتركيبته النفسية وقناعاته الآيديولوجية، فقد كان اعتناقه أفكار اليسار عن العدالة الاجتماعية هو المرجعية العقلية لمساره الثقافي. وإضافة إلى عقله يساري التوجه، كان يتحرك بروح متصوف زاهد، لا يسعى إلى مكاسب الدنيا، ويعيش كأنه ناسك، لا يلهث وراء مكاسب زائلة. العقل اليساري والروح المتصوفة، امتزجا بقلب الشاعر الحالم، الباحث دوماً عن عالم أفضل، والحالم بالمدينة الفاضلة، مؤمناً بأن نشر الثقافة والجمال والإبداع والشعر هو أقصر طريق لمقاومة القبح والتطرف وكل سلبيات العالم.

حصل الراحل على الماجستير والدكتوراه في الدراسات الأدبية من كلية دار العلوم جامعة القاهرة، وعمل طوال حياته مدرساً للغة العربية، بدأ كتابة الشعر في مرحلة مبكرة، ورغم النزعة المحافظة التي تسم خريجي دار العلوم، فإنه اختط لنفسه مساراً مغايراً، فكان أحد المبشرين للحداثة الشعرية والنقدية، حتى أنه كان أحد أهم شعراء قصيدة النثر، وأحد نقادها البارزين أيضاً.

نُشرت قصائد الشاعر الراحل ودراساته النقدية في مجلات مصرية وعربية، وشارك في مهرجانات شعرية متعددة. وأصدر الكثير من الأعمال الإبداعية، منها سبعة دواوين، هي: «كائنات في انتظار البعث»، و«الكلام الذي يقترب»، و«استشراف إقامة ماضية»، و«تدريبات يومية»، و«قيامة الماء»، و«أكثر من متاهة لكائن وحيد»، و«يد بيضاء في نهاية الوقت». هذه الدواوين جعلته واحداً من أهم الأصوات الشعرية في جيل الثمانينات، ولا يمكن لباحث أو ناقد عمل مقاربة شعرية لهذا الجيل دون أن يتوقف طويلاً عند هذه الدواوين. كما أصدر أربعة أعمال مسرحية: «السفينة»، و«زيارة ابن حزم الأخيرة»، و«وجوه التوحيدي»، و«رقصة الحياة».

كما أصدر إسماعيل الكثير من الكتب النقدية التي رسّخت اسمه واحداً من أهم العقول النقدية الفاعلة في المشهدين الأدبي والنقدي، ولم تتوقف أعماله النقدية عند نوع أدبي بعينه، بل تناولت الشعر والقصة والرواية، منها: «رؤية التشكيل»، و«الحداثة الشعرية في مصر»، و«غواية السرد»، و«حداثة النص الشعري: الوعي النظري والاستجابة الجمالية»، و«شعرية شوقي»، و«الخروج من الظل: قراءة في القصة النسائية القصيرة في مصر»، و«بناء فضاء المكان في القصة العربية القصيرة»، و«أساليب السرد في الرواية الأفريقية»، و«الرواية والسلطة»، و«دلالات المكان السردي»، و«التراث والحداثة: قراءة في القصيدة العربية المعاصرة». إضافة إلى ثلاثة كتب فكرية، هي: «التراث والحداثة» و«نقد الفكر السلفي» و«تنوير المستقبل».

حاز الراحل جوائز عدة تقديراً لجهده المتواصل على مدار أربعة عقود، منها جوائر في النقد من المجلس الأعلى للثقافة، وهيئة قصور الثقافة، ودائرة الإبداع بالشارقة، ومجمع اللغة العربية، وجائزة في الشعر من صندوق التنمية الثقافية، وأخرى في المسرح من اتحاد الكتاب، وجائزة إحسان عبد القدوس. كُرم بصفته أفضل ناقد أدبي في مؤتمر أدباء مصر، واختير شاعراً في معجم البابطين، وتولى أمانة مؤتمر القاهرة الكبرى وشمال الصعيد الثقافي. لكن بعيداً عن هذه الجوائز، فإنه حاز جائزة أكبر، وهي تقدير الأوساط الثقافية المصرية لدأبه وتجرده، ومسيرته الإبداعية والنقدية الناصعة.