المكان بوصفه حالة شعرية

شمس المولي تعايشه وتستحضره كتميمة ضد الموت والزمن

المكان بوصفه حالة شعرية
TT
20

المكان بوصفه حالة شعرية

المكان بوصفه حالة شعرية

تتكئ الشاعرة الشابة شمس المولي على المكان بوصفه حالة شعرية، يكتسب من خلالها سمات خاصة، تخترق أنساقه الجغرافية القارة المحددة، ليصبح صيرورة حياة وشكلاً من أشكال الوجود المغاير، فالمكان ليس مجرد رحم للبشر والعناصر والأشياء، فحسب، إنما هو رحم للزمن، وتجليات الروح والجسد أيضاً.

يطالعنا هذا على نحو لافت في ديوان الشاعرة «العبور إلى البر الغربي» الصادر حديثاً عن دائرة الثقافة بالشارقة وبيت الشعر بالأقصر. حيث يشي العنوان بأننا أمام رحلة في الزمن، تتعدد فيها تشكيلات المكان جغرافيا وإنسانياً وحضارياً، ومن خلالها يتحول العبور إلى فعل كينونة وهوية، ويصبح جسراً بين حياتين وزمانين، أحدهما ابن الراهن المعيش، والآخر ابن الماضي السحيق الضارب في القدم، ناهيك عن أن رمزية العبور ضاربة في الميثولوجيا الفرعونية، حيث يمثل الموت عتبة للعبور إلى الحياة الأبدية... هنا تبرز البيئة الحاضنة بتمثلاتها المتنوعة كبؤرة إيقاع حية تجمع اللاحق بالسابق، وفي تواشج شعري، يستولد من ظلالهما لغة ذات طبيعة خاصة، وإحساساً شفيفاً بالذات، وخصوصية فضائها المكاني، ووعيها بأبعاده الجمالية والحضارية.

ببساطة مغوية يحيلنا هذا العنوان إلى مدينة الأقصر مسقط رأس الشاعرة، وهي المدينة التي تشكل المخزن الأكبر لتراث الحضارة المصرية القديمة العريقة، وتحتوي على ضفتي نيلها الكثير من كنوز هذا التراث، منها المعابد ومقابر الملوك والملكات، يكمن معظمها في البر الغربي، حيث يحتضن الجبل الأموات في مقابرهم ومعابدهم، والأحياء الذين يزورنها ويتحسسون في نقوشها ورموزها معنى الأثر الباقي الخالد، ومن أبرزها مقبرة توت عنخ آمون، ومعابد الرامسيوم، وحتشبسوت، وهابو، بالإضافة إلى معبدي الأقصر والكرنك في البر الشرقي.

تلعب الشاعرة بقصائدها في هذا البراح الثري الخصب، تمزج مراهقة الخيال برسوخ الفكرة والمعرفة واللغة، وفي ظل وعيها بصوتها الخاص تطرح مفارقات عالمها الأنثوي المثقل بحزن وشجن عاطفي مباغت، مفتوح بطفولة وحيوية على المكان، وهو ما يبرز بشكل لافت في القصيدة الأولى «فكرة في الخيال» التي تستهل بها الديوان، وفيها تقول:

«أنام على فكرة في الخيال

أداوي بها حزن قلبي قليلاً

أجيب السؤال الذي خفت منه

أقول الكلام الذي لن أقولا

أمدد حلمي مسافة شَعري الحزين

فقد عاش تحت السواد خجولاً

ولم ينسدل مرة فوق ظهر الطبيعة

أو ينتعش بالنعومة إن لا مسته غّفَولا»

وفيما يشبه المتوالية الوجودية تشكل الشاعرة ديوانها الأول الواقع في (85 صفحة) من خلال خمسة عناوين رئيسية: «خيال، جمال، قلق، رحيل، حزن». تبدو هذه العناوين بمثابة كتل نصية، تفيض عنها 16 قصيدة تشكل متن الديوان، تنتمي أغلبها إلى بنية قصيدة التفعيلة التي دشن من خلالها الشعر العربي الحديث ثورته على بنية الشعر التقليدي الراسخة. اللافت هنا أن هذا التشكيل لا يتوقف عند جسد النص وبنيته، إنما يحفظ له امتداده الروحي والجمالي في المكان، بما يحمله من عناصر متميزة، تجعله مفتوحاً على قوس الزمان كحلقة وصل بين دوراته المتعاقبة، فمن الخيال يبزغ الجمال، ويتنوع في الطبيعة وخطى البشر والأشياء، لكنه جمال مسكون دوماً في مرآة الذات الشاعرة بالقلق والحيرة والرحيل والحزن. لا شيء يحرسه سوى الشعر، وهوما يتجسد في الإهداء التي تصدر به الشاعرة الديوان بمقولة خاطفة، جاعلة من الشعر طوق النجاة: «إلى كل يد عاثت حزناً في قلبي إلى أن عرفت الشعر»، أيضاً يتضافر معه - على سبيل التصدير - مقولة للشاعر المهجري ميخائيل نعيمة يقول فيها «اعلموا أن جو هذي الأرض التي أنتم عليها ينعكس بكل ما فيه على صفائح قلوبكم، إنه يموج بذكريات كل ما شهده منذ تكوينه»... ينعكس هذا المعنى بظلال من الحيرة في قصيدة بعنوان «جرح بظهر الكون» تقول فيها:

«قربت عيني نحو مرآتي

شربت سوادها ورأيت ظلاً كالحطامْ

ها أنا الآن أبصر سوأة الدنيا على وجهي

ويذبل في فمي شجر الكلام

والوقت يسعى كالعناكب فوق جلدي

تاركاً حذراً كئيباً وانهزام.

أتذكر الآن الطريق وقد خلت من نفسها،

مبسوطة نحو الحياة يدي،

تعانقني الزهور، أطير يتبعني الحمام».

يتنوع الوعي بإيقاع المكان في قصائد الديوان، كما أن الشاعرة تعايشه وتستحضره كتميمة ضد الموت والزمن، تترك له جسدها وصورتها وطفولتها، وتتحسس في تضاريسه ملامح وجهها، ونبرة صوتها، وأشواقها وهمومها العاطفية، وكأنه مرآة خاصة تنعكس على صفحتها الطينة الأولى التي تتشكل منها هواجسها وأحلامها.

ومن ثم، فالوعي بالمكان كأثر ورحم لا ينفصل عن الوعي بالجسد ككينونة خاصة، بيد أنه ليس وعياً خالصاً لذاته، فأحياناً تصنعه لحظة عابرة، أو لقطة خافتة في مشهد ابن المصادفة المحضة، وأحياناً أخرى يتحول إلى مرثية، لوجود هش مثقل بالعزلة والوحدة والحزن. وأحياناً أخرى يعطل نموه الجمالي تتالي القافية بشكل يقرِّبها أكثر من مجاز السجع، فتبدو مقحمة على الحالة الشعرية، تحد من إيحاءات الصورة والدلالة والمعنى.

وبرغم هذه الهنات الطفيفة، تكشف أغلب القصائد عن هذا النزوع بسلاسة شعرية ولغوية، بل إن الذات الشاعرة تبث في ثنايا هذا الوعي رسائلها وأشواقها العاطفية الملتاعة، وتعلن موقفها من الوجود وانكسارها وتمردها على الواقع، كما تعتصم به كحصن أمان خشية الوقوع في شباك الحب المراوغة. مثلما يطالعنا على سبيل المثال في قصيدة «ليلة من خيال»، تقول في مطلعها:

«في ليلة

كان الخيالُ يلفُّ أغلفة الهواءْ

متسللاً رئة المكان،

باب المدينة مشرعٌ للزائرين

والليل يجلسُ

مثلَ قطٍّ أسودٍ ببهاء مصري قديم

وعلى ضفاف النهر أشجارٌ تسابق بعضَها

والسّنط يغرق في مشاهدة الصغار

وهم يجيدون التخفي،

والبنايات القديمة

سحرها ينساب حيَّاً في مخيلة الزمان».

بهذا الالتقاط الحي لعصب العلاقات الخفية بين الأشياء يبلغ المكان ذروته الدرامية والمشهدية، ويصبح معولاً لكشف فجوات المع والضد، واستشراف الوعي الإنساني الزائف بذاكرة المكان نفسه... لذلك تلح الشاعرة في قصيدة «وأنت تلوِّح لي» على أن تذكر صديقها - وهو يهم بالرحيل - بالمكان، ببشره وتفاصيله الحميمة «القرية طفلة النيل، الشمس وهي تنهش سطح البيوت، كفوف الصغار وهي تلهو بالغيوم، صورة الأم المريضة التي تنام كملاك». وفي قصيدة «عبور إلى البر الغربي»، التي تشكل خاتمة الديوان تربط الشاعرة عبور النهر بالذكرى، «بعاصفة من الذكرى عبرت النهر»، والذي يتحول بدوره إلى «بورتريه» شيق لوجه إنسان، تداعب أنفه، وتتحسس لفحة الموج على جبهتها. «كأن الشمس تلقي نفسها في الماء تدفئني، أحس دوائر ذهبية حولي تمسِّدني وتطرد لعنة الأفكار».

في الختام، أؤكد فرحي بهذا الديوان، وأنه يبشر بصوت شعري يعد بالكثير من العطاء المثمر في شجرة الشعر والحياة.


مقالات ذات صلة

كنوز غزة.... قصة القطع الأثرية التي نجت من الدمار

ثقافة وفنون تدمير المسجد العمري

كنوز غزة.... قصة القطع الأثرية التي نجت من الدمار

قبل أن تشرح السيدة إلودي بوفار، المشرفة على معرض «كنوز غزة التي أنقذت، 5000 سنة من التاريخ»، أهمية هذا الحدث الثقافي الذي يحتضنه معهد العالم العربي في باريس

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون وفود من المدارس المغربية تزور المعرض

«معرض الرباط للنشر والكتاب»... اللقاءات الفكرية حظيت بالحضور الأكبر

شهد معرض الرباط الدولي للنشر والكتاب هذه السنة إقبالاً واسعاً من الزوار الذين توزعوا على أروقته طيلة هذا الأسبوع. قُرّاء من مختلف الفئات العمرية والطبقات الاجتم

عمر الراجي (الرباط)
ثقافة وفنون «إنهم حقاً رجال شرفاء»... الشيخوخة من منظور نسائي

«إنهم حقاً رجال شرفاء»... الشيخوخة من منظور نسائي

تتناول رواية «إنهم حقاً رجال شرفاء» الصادرة أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة للكاتبة ابتسام شوقي قصة سيدة عجوز تعيش وحيدة معزولة عن الآخرين،

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
ثقافة وفنون البابا في العراق (أ.ب)

أنوار البابا الطيب

لماذا ننعته بـ«الطيب»؟ لأنه جعل من الانفتاح على الإسلام والمسلمين أحد المحاور الأساسية لعهدته البابوية. وقد لقيتْ مبادراته أصداء واسعة

هاشم صالح
ثقافة وفنون محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

كل قراءة أو «إعادة» قراءة لشاعر هي قراءة جديدة. ما مِن إعادة بمعنى التكرار إزاء النصوص المخترقة لزمنها، المتقدمة عليه.

باسم المرعبي

أسامة المسلم يكشف عن مشاريع فنية وسينمائية قادمة مستوحاة من رواياته

أسامة المسلم: الأدب سيظل نافذتنا الأولى لفهم العالم (معرض أبوظبي للكتاب)
أسامة المسلم: الأدب سيظل نافذتنا الأولى لفهم العالم (معرض أبوظبي للكتاب)
TT
20

أسامة المسلم يكشف عن مشاريع فنية وسينمائية قادمة مستوحاة من رواياته

أسامة المسلم: الأدب سيظل نافذتنا الأولى لفهم العالم (معرض أبوظبي للكتاب)
أسامة المسلم: الأدب سيظل نافذتنا الأولى لفهم العالم (معرض أبوظبي للكتاب)

كشف الروائي السعودي أسامة المسلم عن قرب إطلاق مسلسل مقتبس عن روايته الشهيرة «بساتين عربستان»، كما كشف عن التحضير لمسلسل آخر مستوحى من رواية «خوف»، إضافةً إلى بدء تصوير فيلم رعب جديد بعنوان «جحيم العابرين»، كما كشف عن مشروعين سينمائيين آخرين بالتعاون مع مجموعة (MBC).

المسلم كان يتحدث في ندوة بعنوان «من صفحات الرواية إلى الواقع: كيف تلهمنا القصص وتشكِّل مسارات حياتنا؟»، ضمن أمسيات فعاليات معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2025، الذي ينظمه مركز أبوظبي للغة العربية، وقدّم الندوة عبد الله الرئيسي وسط حضور كبير من عشاق الأدب والفانتازيا.

وأعلن المسلم عن قرب إطلاق مسلسل مقتبس عن روايته الشهيرة «بساتين عربستان»، مشيراً إلى أنه جرى بالفعل تصوير عشر حلقات منه قبل اتخاذ قرار بتحويله إلى فيلم فانتازي متوقَّع صدوره أواخر هذا العام.

كما كشف عن عمله على مسلسل آخر مستوحى من رواية «خوف»، إضافةً إلى بدء تصوير فيلم رعب جديد بعنوان «جحيم العابرين» في الشهر السادس من هذا العام.

وأكد أنه يعمل كذلك على مشروعين سينمائيين آخرين بالتعاون مع مجموعة «MBC»، مشدداً على أن «التحضير للكتابة وصناعة النص أصعب بكثير من عملية التنفيذ»، لما يتطلبه من عمق وبناء محكم للشخصيات والعوالم السردية.

وفي سياق الحديث عن الأدب والذكاء الاصطناعي، قال أسامة المسلم: «لا أرفض أي شيء جديد. الذكاء الاصطناعي اختراع بشري، لكنه يفتقر إلى اللمسة الإنسانية». مؤكداً أن «نكهة الكاتب» تظل ميزة الأدب الحقيقي، مشيراً إلى أن النقص الإنساني أحياناً ما يكون سر الجمال في الإبداع.

وأكد المسلم أن الأدب سيظل نافذتنا الأولى لفهم العالم، وأن الخيال، مهما تطورت التكنولوجيا، سيبقى فعلاً إنسانياً خالصاً لا غنى عنه.

وفي إجابة عن سؤال حول أهمية الراوي، أجاب المسلم بتساؤل لافت: «هل المتعة مهمة؟»، مؤكداً أن الأدب يمنح القارئ فسحةً للتنفس اليومي، بالإضافة إلى إثرائه بالمعرفة وتوسيع آفاق التجربة الإنسانية.

وعن تجربته في بناء الشخصيات، قال المسلم: «ليس هناك مصدر واحد؛ أحياناً تكون معالجة لواقع آخر، وأحياناً تكون خيالاً صرفاً»، موضحاً أن تنوع مصادر الإلهام كان وراء إبداعه لأكثر من 32 إصداراً أدبياً.

وحول طقوسه الخاصة في الكتابة، كشف عن التزامه بالهدوء والعزلة، وحرصه على الكتابة في غرفة ذات إضاءة خافتة وعلى معدة خالية من الطعام، مما يخلق له بيئة مثالية للتركيز والابتكار.

وعن روايته الأشهر «خوف»، قال المسلم إن الخوف غريزة إنسانية يجب توظيفها قوة دافعة لا اعتبارها مصدر شلل، مؤكداً أن الرواية تتيح للقراء معايشة مصائر وتجارب متعددة في حياة واحدة.