أربعة ألحان

أربعة ألحان
TT
20

أربعة ألحان

أربعة ألحان

في حديقة «المنارة» القريبة من قلعة أربيل، مرّ فوقي سرب طيور شملني بظلِّه الواسع، مع حفيف الأجنحة الذي كان قريباً وبعيداً. لأن الحدث كان مفاجئاً لي، فكّرتُ عندها بمعنى الفعل «غشى»، وطرقت بالي الآية من سورة لقمان: «وإذا غشِيَهم موجٌ كالظُّلَلِ دعوا الله مخلصين». الظُّلل هو السّحاب، وتشبيه موج البحر به دلالة عجز الإنسان عن ردّ أذاه، مثلما أنا قاصر عن بلوغ سرب الطّيور الذي خطَف من فوقي، وغشِيَني بظلّه وبرفيف أجنحة بثّ الرعب في مفاصلي، ولا أقدر على منعه.

هل يجيء الموت بهذه الصورة؟

من أجل أن أطرد هذه الفكرة عن بالي قمتُ أتمشَّى في الشّوارع القريبة من القلعة. لا شيء يمكن أن يقدم فكرة جيدة عن المدينة سوى القيام بجولة في سوق التحف. ثم دخلتُ محلّا لبيع «الأنتيكات»، ولم أجد شيئاً ذا قيمة غير خنجر قديم مقبضه مرصّع بالجواهر، وعلى نصله نقش لطائر يفرش جناحيه، فهو سوف «يغشى» من يطعنه بالموت، وهذا تفسير واقعي للفعل «غَشِيَ» وليس قاموسيَّاً. كما أن صورة الطَّائر على النَّصل مفروش الجناحين تذكّرنا بالآية 13 من سورة الإسراء: «وكلَّ إنسانٍ ألزمناهُ طائرَه في عنقه»، كأنّ صانع الخنجر كان يقوم بعمل سيميائيّ، تبعاً للآية الكريمة، يرمز إلى كيفيّة طعن العدوّ في نحره، من أجل القضاء عليه بالموت الأكيد.

ثمَّة فصول خاصَّة في كتب التراث تبحث في فنِّ الخطِّ على السُّيوف والأسلحة القديمة. لمَّا عدتُ إليها لم أعثر على ما نُقِش على سيف اقتنيته من تاجر تحف في حي الميدان في بغداد. السَّيف مع مقبضه بطول ذراع، والمعروف أنَّ السُّيوف القصيرة تكون قديمة جدَّاً ونادرة وباهظة الثّمن، أو تُطلب أحياناً أسعارٌ غير معقولة ثمناً لها. تعلّمتُ من تاجر التحف الذي صار بمرور السنين صديقي، كيف أتأكّد من أن نصل السّيف أصيلٌ وقديم، بأن تنظر إلى ظُبَتِه (أي حدّه) في ضياء الشّمس، وسوف ترى حُبيْبات تتخلّل حافّة الظُّبَة. كريّات دقيقة تتلوّن بالأحمر الذّهبي، هي ذكرى دماء الذين سالت أرواحهم إلى الأرض بواسطته. مقبض السّيف حديدي وعليه غطاء من خشب مثلوم ومتكسّر من كثرة الطِّعان. الغمدُ مصنوع من جلد تهرَّأ وبَلِي بسبب القِدم، والنّصل مستقيم ومحتوت بالصّدأ، لكن النّقشَ عليه ظاهر:

«عبدٌ بلا سلاح | كالطّير بلا جناح».

معنى العبدِ في القاموس: الإنسان حُرَّاً كان أم مملوكاً. مرّة أخرى مع الفعل «غَشِيَ» فالمحارب سوف يغشى عدوَّه بسلاحه مثل الموج أو السّحاب، ومثل الطَّير، ولا قدرة له على ردِّه.

أشدُّ أنواع السيوف هي ذات الحدَّين، وتكون عريضة النّصل، وعقفاء، فهي مخصّصة ليحملها المقاتل فوق الفرس، وتكون ثقيلة وتُمسك بكلتا اليدين. ضربة واحدة من سيف ذي حدّين بإمكانها شطر العدوّ إلى نصفين. كتبتُ مرّة في دفتري الشّعريّ:

يا لبهجته،

حجرٌ يُحدّ به السيفُ

وكان السيفُ عريضَ النصلِ

ذا حدّينِ

أحدبْ.

في لغة أصحاب هذه المهنة، وهم يرغّبون زبوناً عند عرضهم إحدى التحف، يقولون له: «انظر إليها، إنها تحكي،» أي تروي ما جرى في ذلك الزمان. معنى هذا أن الفنّ يمكنه أن يسكن قطعة قديمة فتصير جزءاً من الأدب، ونراها عندما نتأملها قصّة ورواية. يقول فلوبير: «بما أن القصص تدور في الماضي، كلّما كان الماضي أبعد، كانت القصّة أجمل».

في ذلك الأصيل الذي جعل الحَرُّ سماءه مائلة إلى البياض، كان أبناء العشيرة وبناتها يملَأون ساحة الاحتفال، وبلغ عدد الحاضرين أكثر من ألف، رغم أنّ الفتى ليس ابن رئيس العشيرة أو أحد أقاربه.

رعاة إبل هُمُ، وخيمتهم الدّائمة هي الصّحراء، أُغلقت دونهم وصارت تمنحهم استقلالاً ذاتيَّاً تكتنز به حياتهم، مع أنهم يقضون أغلب أيام السنة في الجوع والفاقة. قام الفتى عامر من مكانه، وراح يلاعب رمحين، يرميهما إلى الأعلى، ويتلقّفهما بسهولة، ثمّ أسرع في رقصته، وعازفا الرّبابة والمزمار يحاولان أن يلحقا بقفزاته على الرّمل الذي أحرقته الشّمس بلهيبها.

كان الفرسان يدورون وسط النّار المشتعلة بعلوّ شجرة، يتبارزون بالسيوف ويحاولون أخذ قلوب المحتفلين إلى مقاصدها؛ عندما تُقرع السيوف ببعضها من فوق صهوات الخيل، فإن رايات العشيرة ترفرف بصورة مختلفة، والطّبول والدبادب تعزف أنغاماً أخرى. ومع أن الرّقصة بدت كأنّها لن تنتهي، لكن الفتى قطعها فجأة، وجلس في المكان الذي أعد له على الأرض. ثبّت الرّمحين على مقدمي قدميه، وسكتت الموسيقى، وكفّ الجميع عن التصفيق والرقص. ودّ عامر أن يقول شيئاً، لكنّه ظلّ صامتاً، وقد بدت سمرته الخفيفة سعيدة في ضياء الشّمس القّوي، مع عينيه النّجلاوين وشاربه الخفيف.

في هذه الأثناء كان (المُطهِّر) يحضّر أدواته، والنّساء يطلقن الهلاهل، ورايات القبيلة الحمراء ترفرف في الرّيح. أمسكت أصابعه المغطّاة بكشتبانات جلديّة عضوَ عامر الذكريّ، وفرشت الغُلفة على حافة صفيحة معدنية. صاح الفتى، وهو يغرز الرّمحين في مقدمي قدميه أكثر كي يكبح حركتهما: «اقطع، اقطع، وأنْهِ عملَك سريعاً. أنا عامر بن محمد بن عمر بن علي بن جاسم بن محسن بن كريم...».

وظلّ الفتى يصرخ بأسماء أسلافه، لدى كلّ اسم ينشأ هتاف للحاضرين ويحسّ الفتى بهبّة حماس إضافيّة، إلى أن بلغ الجدّ العشرين، وقطع المطهّر الجلدة من عضو الفتى بضربة واحدة. لم تصدر عنه ولا آهة. بالعكس، كان الفتى مبتسماً، ويشعر بأنّ إحساساً جميلاً يخنقه، لأن مذاق هذه اللّحظة كان يتشهّاه منذ زمن بعيد، وهو ما يبحث عنه الآن تماماً. لقد صار في عُرف العشيرة رجلاً يحقّ له حمل عدّة الحرب.

يمكن للغريب تمييز شيخ العشيرة بواسطة عباءته المقلّمة الصّفراء والسّوداء، وكان يحمل مسدَّساً. أطلق النّار، وترك هذا الفعل على الحاضرين تأثيراً مباشراً وهَذَيانيَّاً، حيث تحوّل الحفل من استعراض إلى رقصة حرب. اصطفّ الرّجال الواحد وراء الآخر، ثم ظهرت السيوف اللامعة فوق الرؤوس، وكانت النساء يضربن على الصوان والطبل، ورفع أترابُ الفتى الغُلفة وسط إطلاق الرّصاص الكثيف، وعلَّقوها في رأس رمح مزيّن بألوان من الأقمشة والأغصان والأزهار. ظلّ الفتى يتأمّل المشهد، وصارت سمرته من شدّة الحماس حمراء كاللهب. أغمض عينين مترعتين بدموع السَّعادة، وفتحهما على عالم جديد يدشِّن العيش فيه الآن، عالم لا يخاف فيه من شيء أبداً، لأنه صار يحمل السّلاح.

في الأفق الذي لم يتبيّنْه أحد كانت هناك سبع غزالات يمرقن في البعيد بسرعة كبيرة، ظلّ الفتى يتابعها إلى أن غيّبها المدى، ثم أخذ الجميع يرقصون، ومعهم رئيس العشيرة وأمُّ الفتى وأبوه. عند الغروب فرشت النساء العشاء في سفرات واسعة للجميع. بعد تقديم القهوة أخذ عازف الرَّبابة يؤدي في كلِّ مرَّة بواحد من أربعة نماذج من الألحان، لحن الحبِّ والسَّعادة والحرب والموت.


مقالات ذات صلة

«مشروع 25» وفيلسوف وراء الترمبيّة

كتب روبرت نوزيك

«مشروع 25» وفيلسوف وراء الترمبيّة

لم تعد تصريحات الرئيس الأميركيّ دونالد ترمب ومواقفه تثير القلق الشديد عند نصف مواطنيه أو الحماس الصاخب عند نصفهم الآخر فحسب، بل وتحولت إلى ما يشبه عرضاً يومياً

ندى حطيط
ثقافة وفنون شوقي ضيف

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

من مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون ذهبيات ساروق الحديد في إمارة دبي

ذهبيات ساروق الحديد في إمارة دبي

تحوي إمارة دبي مواقع أثرية عدة؛ أبرزها موقع يُعرف باسم ساروق الحديد، يبعد نحو 68 كيلومتراً جنوب شرقي مدينة دبي، ويجاور حدود إمارة أبوظبي.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون Instagram, Facebook and WhatsApp/ /dpa

كيف تقتلنا شبكة الإنترنت؟

قبل أن ينتشر التنوير بمختلف أرجاء أوروبا، ويُلهم أمثال توماس باين وتوماس جيفرسون داخل أميركا في عهد الاستعمار، كان يجري النظر إلى أغلب الناس

فرانك ماكورت
ثقافة وفنون «عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية

«عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية

من خلال رؤية فانتازية تطرح رواية «عملية تجميل» للروائية المصرية زينب عفيفي مفهوم الجمال من خلال لعبة مع الزمن، حيث العُمر يعود أدراجه الأولى، مخالفاً سنن الحياة

منى أبو النصر (القاهرة)

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف
TT
20

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف

«ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها. والأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد. وإذا فسد الإنسان في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة».

لم أعثر على استهلال لهذه المقالة التي تتناول شؤون الحب والعشق في العصر العباسي أفضل مما كتبه ابن خلدون في مقدمة «كتاب العبر»، الذي رافق بالنقد والتحليل انتقال المجتمعات البشرية من طور إلى طور. ذلك أن أي قراءة معمقة لمآلات الحب وتعبيراته، لا يمكن أن تتجاهل الخلفية العقائدية والسياسية للسلطة الجديدة، إضافة إلى النسيج الفسيفسائي المعقد للمجتمع العباسي.

ففي حين شكل العرب العمود الفقري للدولة الأموية، وطبعوها بطابعهم على المستويات كافة، بدت التركيبة السكانية للدولة العباسية خليطاً متنوعاً من الإثنيات والأعراق التي شملت، إضافة الى العرب، كلاً من الفرس والترك والروم وغيرهم. وإذ انخرطت هذه الإثنيات في نسيج الدولة الفتية، وصولاً إلى المشاركة الفاعلة في نظام الحكم، فإن كلاً منها قد أدخل معه عاداته وتقاليده، بحيث اختلط حابل المذاهب والمعتقدات بنابل الحياة اليومية.

ومع الغلبة الواضحة للفرس في عقود الخلافة الأولى، كان لا بد للثقافة الفارسية أن تتغلغل في مفاصل ذلك المجتمع المترع بالتباينات، وأن تعمل على وسمه بطابعها الخاص، بما يتضمنه ذلك الطابع من عناصر وتقاليد محلية ما قبل إسلامية.

طه حسين
طه حسين

وإذا كان العصر العباسي الأول هو عصر التحولات الكبرى فهو في الوقت ذاته عصر المفارقات بامتياز، حيث تنافست على الأسبقية حركات التجديد والمحافظة، العقل والنقل، الفلسفة والفقه، كما تعايشت نزعات الزهد والتنسك مع نزعات التهتك والاستهتار.

ولعل من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن السلطة الحاكمة التي أحاطت نفسها برعيل حاشد من الشعراء والفلاسفة والفقهاء وعلماء الكلام والمترجمين، هي نفسها التي شرعت الأبواب واسعة أمام شتى صنوف اللهو والمجون واصطياد الملذات، كما لو أنها أرادت إرساء توازنٍ ما، بين روح الحضارة وجسدها، أو بين أثينا المعرفة وروما الرغبات.

ومع أن باحثين كثراً قد أسهبوا في تناول تلك الحقبة بالدراسة، فقد حرص طه حسين على رد ظاهرة العبث وطلب الملذات إلى عاملين اثنين، يتعلق أولهما بما تستدعيه الحضارة من مظاهر الترف والمجون، فيما يتعلق ثانيهما بدور العقل النقدي والفلسفي في زحزحة اليقين من مكانه، الأمر الذي دفع البعض إلى زرع بذور الشك في الثوابت، والحث على المجون والحياة اللاهية.

وليس من الغريب تبعاً لحسين «أن يظهر في لهو هؤلاء وعبثهم، كل من مطيع بن إياس وحماد عجرد وابن المقفع ووالبة بن الحباب، إنما الغريب أن يخلو منهم ذلك العصر، ولا يظهر فيه سوى الفقهاء وأهل الزهد والنساك».

كما لا بد من ملاحظة أن التفاوت الاقتصادي والاجتماعي البالغ بين الحواضر الكبرى، ومناطق الأطراف الفقيرة، قد انعكس تفاوتاً مماثلاً في مراعاة سلّم القيم وقواعد السلوك وأحكام الدين. ففي حين تحولت عاصمة الخلافة، في ظل الرخاء والازدهار اللذين رافقا اتساع الدولة، إلى برج بابل جديد من الهويات والرطانة اللغوية وأشكال الفسق، كان ثمة في أحيائها الفقيرة، وفي الأطراف المتباعدة للإمبراطورية، من يتمسك بأهداب الفضائل والاعتدال السلوكي وأحكام الدين الحنيف.

وإذا كان تصيد الملذات قد بات عنوان الحياة في بغداد في العصر العباسي الأول، فاللافت أن الخلفاء أنفسهم قد انخرطوا في هذه الورشة الباذخة، دامغين إياها بالأختام الرسمية، ومحولين قصور الخلافة إلى مرتع للشعر والمنادمة والغناء. وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يحتفي المحظيون من الشعراء والمغنين بالحياة الجديدة أيما احتفاء، بعد أن وفرت لهم الإقامة في كنف البلاطات كل ما يحتاجونه من متع العيش وأطايبه وملذاته.

ومع اتساع رقعة الإمبراطورية المنتصرة، استطاعت مدينة المنصور أن تجتذب إلى حاناتها ودور لهوها أعداداً كبيرة من الجواري والقيان، سواء اللواتي جيء بهن كغنائم حرب، أو اللواتي اجتذبهن طوعاً ازدهار المدينة ورخاؤها المتسارع.

وقد ازدهرت في تلك الحقبة تجارة الرقيق ودور النخاسة والقيان إلى الحد الذي جعل أبا دلامة يحث الشعراء الباحثين عن الربح على ترك الشعر والاشتغال بالنخاسة، كما يظهر في قوله:

إن كنتَ تبغي العيش حلواً صافياً

فالشعر أتركْهُ وكن نخّاسا

وهو عين ما فعله أبو سعيد الجزار في حقبة التدهور العباسي اللاحق، حين تأكد له أن الشعر، بخاصة الذي لا يمتهن التكسب في البلاطات، لا يطعم خبزاً ولا يغني من جوع، فاختار أن يهجره ويعمل في الجزارة لكي يتمكن من توفير لقمة العيش. وحين عُوتب على فعلته قال:

كيف لا أهجر الجزارة ما عشتُ

حياتي وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلابُ ترجّيني

وبالشعر كنتُ أرجو الكلابا

على أن حرص الخلفاء والوزراء والنخب المحيطة بهم، على الإعلاء من شأن الأدب والفن، جعلهم يتطلبون من الجواري والقيان، مواهب ومواصفات لا تقتصر على شرطي الجمال والأنس، بل تتعداهما إلى الثقافة والاطلاع وحفظ الشعر، وصولاً الى نظمه. وهو ما حققته بشكل لافت كل من عريب جارية المأمون، ودنانير جارية البرامكة، وعنان جارية الناطفي، وأخريات غيرهن.

وحيث بدا الشعراء المشمولون برضا السلطة، وكأنهم قد أصابوا كل ما يتمنونه من الإشباع الجسدي، بات شعرهم تأريخاً شبه تفصيلي للحظات عيشهم وطيشهم وفتوحاتهم الغرامية، ولم يترك لهم الواقع المستجد، عدا استثناءات قليلة، ما يسوغ الحديث عن لوعة الحب أو مكابدات الفراق.

وفي ظل هذا العالم الذي استقى منه مؤلفو «ألف ليلة وليلة» العديد من الليالي المضافة، لم يكن مستغرباً أن يفضل الشعراء والكتاب، القيان على الحرائر، ليس فقط بسبب جمالهن المغوي والمتحدر من مساقط مختلفة، بل لأن الجواري بخضوعهن الكامل لهم كن يشعرنهم بالخيلاء والاستحواذ الذكوري ومتعة التملك.

وإذا كان من التعسف بمكان وضع نزعات الفسق برمتها في سلة الشعوبية، فإن تجاهل هذا العامل والقفز عنه لن يكون إلا نوعاً من قصر النظر المقابل. ولا حاجة إلى تكرار المقطوعات والأبيات التي نظمها أبو نواس وغيره في ذم العرب والغض من شأنهم، بوصفهم نبتاً بدوياً غارقاً في التصحر، لا تمكن مقارنته بالمنجز الحضاري الفارسي. كما أننا لا نستطيع التغاضي عن الجذور الفارسية لنزعات الزندقة والمجون التي تجد تمثلاتها الأصلية في المجوسية والمانوية والمزدكية، حيث النيران التي لا تنطفئ لرغبات الجسد وملذات الوجود الأرضي.

ولعلنا نجد في النقد العربي القديم والحديث، بدءاً من الجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وصولاً إلى شوقي ضيف، من يلقي المسؤولية الرئيسية عن «الهستيريا» الانحلالية التي اخترقت المجتمع العباسي في صميمه، على عاتق الفرس الراغبين في التقويض الكامل للحكم العربي. إلا أن من التعسف بمكان رؤية الأمور من الزاوية الشعوبية دون سواها من الزوايا.

وإذا كان علينا الأخذ في الحسبان المصادر الفلسفية الأبيقورية لهذه الظاهرة، خصوصاً وأن العرب قد ذهبوا بعيداً في التفاعل مع الفلسفات اليونانية المختلفة التي وصلتهم عن طريق الترجمة، فينبغي أن نتذكر في الوقت ذاته أن المغنين والشعراء لم يكونوا بأجمعهم من الفرس. فمقابل بشار وأبي نواس وابن المقفع، كان في الجوقة عرب كثيرون، من أمثال زرياب ووالبة ومطيع بن إياس والحسين بن الضحاك وحماد عجرد ومسلم بن الوليد.

ومع ذلك فقد كان من السهل على الكتاب المتعصبين للعرب أن يضعوا هؤلاء جميعاً في خانة الشعوبية، أو يردوا بعضهم إلى أصول فارسية بناءً على الشكل وملامح الوجه. ففي ذروة التهاجي المتبادل بين أبي العتاهية ووالبة بن الحباب، لم يجد الأول ما يهجو به الثاني سوى أنه في شقرته البادية وسحنته البيضاء، أشبه بالموالي المدسوسين على العرب، فيسأل متعجباً:

أترون أهل البدو قد مُسخوا

شقراً، أما هذا من المنكر؟