في تهيئة تستحضر الوقع الثقيل للغياب، تستعير المجموعة القصصية «احتمالات لا نهائية للغياب» للكاتبة المصرية آية طنطاوي، في تصديرها صوت الشاعر اللبناني وديع سعادة: «وأية لحظة تكتشف الحياة أكثر من لحظة الغياب عنها؟».
في هذه المجموعة الصادرة عن «دار العين» بالقاهرة التي حازت منحة مؤسسة «المورد» الثقافي، وحصلت أخيراً على جائزة «ساويرس» الثقافية في مصر، تبدو الكاتبة وكأنها تتقصى اللحظات الهاربة من مضبطة الحياة، قبل أن يبتلعها المجهول في صندوقه الأسود، تاركاً وراءه بشراً يلهثون وراء أثر الغائبين، لا سيما النساء اللاتي تمنحهن المجموعة صوتاً متعدد المستويات، فتُسمع أنّات النساء ترتج داخل عربة ترحيلات، وتُوسّع حكاياتهن بصيصاً من نور داخل قبو تلك العربة المُقبضة، وأحياناً أخرى تصب حكاياتهن في نهر يسرن بمحاذاته، قبل أن يغرقن فيه. ورغم القهر الذي يُغلف أصواتهن، فإن نساء المجموعة يُدركن ما للحكايات من مهابة، فتراهن يتحدثن بنبرة جوقة المعابد القديمة، أو ربّات الإلهام في الجبال. إحدى قصص المجموعة «باب الأساطير» تبدأ هكذا: «فصل (موّال النهار) بصوت جمعي عليم يستعير إيقاع التراتيل المقدسة: (عرفنا ما كان وورثنا الحكاية، تناقلناها كتحيّة الصباح، وحفظناها كدقّ الوشم الأخضر على أذرع الرجال، نحكيها كما سمعناها، ونطلب من الله النجاة من شرورها والستر من أن تمسّنا فتتعثر أقدارنا)».
تحتفظ القصة بإيقاع الحكي الذي يوحي بأنه لا يُلامس الأرض، وإن كان يكشف زيفها وجرائمها، فالراوي يظّل يُسائِل الغياب عن نساء غرقن في النهر دون أثر قاتل، ليورثن الحي كله لعنة الغياب؛ فغياب النساء دائماً شر لا يُفسّر سوى بالإثم؛ ما يضع الغياب في كفة موروث الأحكام «الذكورية» أو «القبلية» التي تُخضِع تحت مقاصلها حكايات الغياب، في حين تمنح القصة ملامح شِعرية عن ظلمات الاختفاء، فالراوي يحكي عن مرثية للنهر والفتاة الأولى التي جلست على ضفته وغابت، والنساء اللاتي لحقن بها، والوصم الذي يُلاحقهن في كل المرّات: «أصبح الحي خاوياً من نسائه ومن النهر الذي يرويه ويحميه. بيوت الحي تئن، الصدور شقها الحزن، يأكل الصمت ألسنة الرجال، ويخشى العجائز أن يصبحوا حكاية في فم الزمن، لا تغيب النساء إلا لشر، لم يلقموا الخطيئة إلا من يد امرأة. أصبح الحي ملعوناً بسبب نسائه (...) لماذا ابتلع النهر أجسادهن دون أن يترك أثراً لمائدة القتل؟ يسكت الراوي، يرفع قلمه ولا يجيب».
سلطة الأسرار
تبدو المرويّة الشفاهية مادة عضوية في المجموعة، فالقصص تُقلّب تربة سردياتها التي يُخلّقها غياب أحدهم، إما بالنزع، أو الاختفاء، أو الهجر والنسيان، كما أن الحكايات التي لا نفهمها عبء مُقيم، ربما يستدعي حكاية بدء الخلق بعد تدويرها في قصص لا نهائية الحصر، فبطلة إحدى القصص تتساءل: «من خلق أول حكاية وزرعها في حيّنا؟ ومتى بدأت الكلمة فعبدها الناس وتقاتلوا من أجلها؟»، تُنازع البطلة مشقة حكايات الغياب التي تحاصرها، فتدونها وتتركها أسفل عتبة شقة كاتِبة روائية طالما افتتنت بخيالها الجريء فتمنت أن تُحرر تلك الحكايات من هامش النسيان، فتصير تلك الأوراق هلاكاً لكلتيهما: «تواطأنا على السر والعهد، وبقيت شبحاً خفياً لا تعرف عنه سوى اسمه وحكايته المجهولة. وأخذني الحُلم، وتموّجت في خيال شهي يُضاجع حكايتي التي أطلقتها حُرة لأسلّم بعدها نفسي للغياب».
يتراوح إيقاع القصص بين أحلام العودة والهروب، ويظهر الرحيل كتمرين شاق يدفع أصحابه صوب كل الاحتمالات، في حين يبدو المكان في المجموعة ذريعة لإطلاق الحكايات المكبوتة، سواء كان مُحكماً كـ«عربة ترحيلات» مُكدسة بالحكايات الخرساء، أو مكاناً يجترح رمزيته من سلطة الموروث مثل «مقام خضرا عطية» الذي يظهر في المجموعة كشاهد على توسلات النساء وحكاياتهن الباكية، أو مجرد مجاز كمتن «قصيدة» تسقط داخلها البطلة ميتة: «لم أخبرها أن الشعراء مثلي يُجيدون الموت بقدر ما يُجيدون الكتابة، ولم أخبرها أني تركت القصيدة بدون شطر أخير».
«رمشة عين»
أما الأحلام في المجموعة، فهي تُخضِع الواقع لسُلطتها، فيبدو بطل قصة «يقظة من حلم» وكأنه غارق داخل حلم يتمثّل بنية «الفيلم»، يتتبع فيه أثر امرأة تزوره في المنام كل ليلة، ويتصاعد فضوله لمعرفة ما وراءها من أسرار، ولكنه يُحبط من عدم قدرته على تحريك دفّة أحلامه كما يريد وهو يتتبع طيف تلك المرأة، فيتساءل البطل: هل هو مجرد ضيف داخل رأسه؟
ولكن في قصة «رمشة عين» تُهدم تلك التبعية للأحلام، فتمنح الكاتبة لبطلتها سلطة ميتافيزيقية تُروّض بها «المنام» الذي يبدو طيّعاً ورهن إشارة صاحبته: «أطير دون جناح بين البيوت أدخلها من باب وأخرج من آخر»، ويبدو هذا الحس السوريالي الذي ربما يحيلنا لأبطال «مارك شاغال» المحلقين في سمائهم؛ يبدو محكوماً عليه بالخفاء والتحجيم، فالبطلة هنا تخشى من التصريح بتلك الهبات «الربانية» كالرؤى وترويض المنامات؛ خشية سلبها، فتصبح الأحلام أيضاً مرهونة بالغياب القسري لأهون الأسباب.