سردية اللحظات الهاربة من جراب الحياة

آية طنطاوي في «احتمالات لا نهائية للغياب»

سردية اللحظات الهاربة من جراب الحياة
TT
20

سردية اللحظات الهاربة من جراب الحياة

سردية اللحظات الهاربة من جراب الحياة

في تهيئة تستحضر الوقع الثقيل للغياب، تستعير المجموعة القصصية «احتمالات لا نهائية للغياب» للكاتبة المصرية آية طنطاوي، في تصديرها صوت الشاعر اللبناني وديع سعادة: «وأية لحظة تكتشف الحياة أكثر من لحظة الغياب عنها؟».

في هذه المجموعة الصادرة عن «دار العين» بالقاهرة التي حازت منحة مؤسسة «المورد» الثقافي، وحصلت أخيراً على جائزة «ساويرس» الثقافية في مصر، تبدو الكاتبة وكأنها تتقصى اللحظات الهاربة من مضبطة الحياة، قبل أن يبتلعها المجهول في صندوقه الأسود، تاركاً وراءه بشراً يلهثون وراء أثر الغائبين، لا سيما النساء اللاتي تمنحهن المجموعة صوتاً متعدد المستويات، فتُسمع أنّات النساء ترتج داخل عربة ترحيلات، وتُوسّع حكاياتهن بصيصاً من نور داخل قبو تلك العربة المُقبضة، وأحياناً أخرى تصب حكاياتهن في نهر يسرن بمحاذاته، قبل أن يغرقن فيه. ورغم القهر الذي يُغلف أصواتهن، فإن نساء المجموعة يُدركن ما للحكايات من مهابة، فتراهن يتحدثن بنبرة جوقة المعابد القديمة، أو ربّات الإلهام في الجبال. إحدى قصص المجموعة «باب الأساطير» تبدأ هكذا: «فصل (موّال النهار) بصوت جمعي عليم يستعير إيقاع التراتيل المقدسة: (عرفنا ما كان وورثنا الحكاية، تناقلناها كتحيّة الصباح، وحفظناها كدقّ الوشم الأخضر على أذرع الرجال، نحكيها كما سمعناها، ونطلب من الله النجاة من شرورها والستر من أن تمسّنا فتتعثر أقدارنا)».

تحتفظ القصة بإيقاع الحكي الذي يوحي بأنه لا يُلامس الأرض، وإن كان يكشف زيفها وجرائمها، فالراوي يظّل يُسائِل الغياب عن نساء غرقن في النهر دون أثر قاتل، ليورثن الحي كله لعنة الغياب؛ فغياب النساء دائماً شر لا يُفسّر سوى بالإثم؛ ما يضع الغياب في كفة موروث الأحكام «الذكورية» أو «القبلية» التي تُخضِع تحت مقاصلها حكايات الغياب، في حين تمنح القصة ملامح شِعرية عن ظلمات الاختفاء، فالراوي يحكي عن مرثية للنهر والفتاة الأولى التي جلست على ضفته وغابت، والنساء اللاتي لحقن بها، والوصم الذي يُلاحقهن في كل المرّات: «أصبح الحي خاوياً من نسائه ومن النهر الذي يرويه ويحميه. بيوت الحي تئن، الصدور شقها الحزن، يأكل الصمت ألسنة الرجال، ويخشى العجائز أن يصبحوا حكاية في فم الزمن، لا تغيب النساء إلا لشر، لم يلقموا الخطيئة إلا من يد امرأة. أصبح الحي ملعوناً بسبب نسائه (...) لماذا ابتلع النهر أجسادهن دون أن يترك أثراً لمائدة القتل؟ يسكت الراوي، يرفع قلمه ولا يجيب».

سلطة الأسرار

تبدو المرويّة الشفاهية مادة عضوية في المجموعة، فالقصص تُقلّب تربة سردياتها التي يُخلّقها غياب أحدهم، إما بالنزع، أو الاختفاء، أو الهجر والنسيان، كما أن الحكايات التي لا نفهمها عبء مُقيم، ربما يستدعي حكاية بدء الخلق بعد تدويرها في قصص لا نهائية الحصر، فبطلة إحدى القصص تتساءل: «من خلق أول حكاية وزرعها في حيّنا؟ ومتى بدأت الكلمة فعبدها الناس وتقاتلوا من أجلها؟»، تُنازع البطلة مشقة حكايات الغياب التي تحاصرها، فتدونها وتتركها أسفل عتبة شقة كاتِبة روائية طالما افتتنت بخيالها الجريء فتمنت أن تُحرر تلك الحكايات من هامش النسيان، فتصير تلك الأوراق هلاكاً لكلتيهما: «تواطأنا على السر والعهد، وبقيت شبحاً خفياً لا تعرف عنه سوى اسمه وحكايته المجهولة. وأخذني الحُلم، وتموّجت في خيال شهي يُضاجع حكايتي التي أطلقتها حُرة لأسلّم بعدها نفسي للغياب».

يتراوح إيقاع القصص بين أحلام العودة والهروب، ويظهر الرحيل كتمرين شاق يدفع أصحابه صوب كل الاحتمالات، في حين يبدو المكان في المجموعة ذريعة لإطلاق الحكايات المكبوتة، سواء كان مُحكماً كـ«عربة ترحيلات» مُكدسة بالحكايات الخرساء، أو مكاناً يجترح رمزيته من سلطة الموروث مثل «مقام خضرا عطية» الذي يظهر في المجموعة كشاهد على توسلات النساء وحكاياتهن الباكية، أو مجرد مجاز كمتن «قصيدة» تسقط داخلها البطلة ميتة: «لم أخبرها أن الشعراء مثلي يُجيدون الموت بقدر ما يُجيدون الكتابة، ولم أخبرها أني تركت القصيدة بدون شطر أخير».

«رمشة عين»

أما الأحلام في المجموعة، فهي تُخضِع الواقع لسُلطتها، فيبدو بطل قصة «يقظة من حلم» وكأنه غارق داخل حلم يتمثّل بنية «الفيلم»، يتتبع فيه أثر امرأة تزوره في المنام كل ليلة، ويتصاعد فضوله لمعرفة ما وراءها من أسرار، ولكنه يُحبط من عدم قدرته على تحريك دفّة أحلامه كما يريد وهو يتتبع طيف تلك المرأة، فيتساءل البطل: هل هو مجرد ضيف داخل رأسه؟

ولكن في قصة «رمشة عين» تُهدم تلك التبعية للأحلام، فتمنح الكاتبة لبطلتها سلطة ميتافيزيقية تُروّض بها «المنام» الذي يبدو طيّعاً ورهن إشارة صاحبته: «أطير دون جناح بين البيوت أدخلها من باب وأخرج من آخر»، ويبدو هذا الحس السوريالي الذي ربما يحيلنا لأبطال «مارك شاغال» المحلقين في سمائهم؛ يبدو محكوماً عليه بالخفاء والتحجيم، فالبطلة هنا تخشى من التصريح بتلك الهبات «الربانية» كالرؤى وترويض المنامات؛ خشية سلبها، فتصبح الأحلام أيضاً مرهونة بالغياب القسري لأهون الأسباب.



ثلاث قطع نحتية من موقع سمهرم الأثري في سلطنة عُمان

ثلاث قطع فنية حجرية من «متحف أرض اللبان»
ثلاث قطع فنية حجرية من «متحف أرض اللبان»
TT
20

ثلاث قطع نحتية من موقع سمهرم الأثري في سلطنة عُمان

ثلاث قطع فنية حجرية من «متحف أرض اللبان»
ثلاث قطع فنية حجرية من «متحف أرض اللبان»

خرجت من موقع سمهرم الأثري في سلطنة عُمان مجموعة من المجامر الحجرية المتعدّدة الأشكال، أشهرها مجمرة حجرية يزيّن واجهتها نقش تصويري ناتئ يتميّز برهافة كبيرة في الصناعة الفنية. تُعرض هذه المجمرة في «متحف أرض اللبان» في مدينة صلالة التابعة لولاية ظفار، حيث تتوسّط منحوتتين حجريّتين عُثر عليهما كذلك في سمهرم.

ظهر موقع سمهرم في خور روري الذي يقع على الشريط الساحلي، بين ولاية طاقة وولاية مرباط، وتبيّن أن اسمه يعود إلى مستوطنة من الطراز الحضرمي، تحوي واحداً من أهم موانئ جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية، خلال مرحلة زمنية طويلة تمتد من نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، إلى القرن الخامس للميلاد. بدأ استكشاف هذا الموقع في منتصف القرن الماضي، وتولّت بعثة إيطالية تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة أعمال المسح والتنقيب فيه منذ عام 1997، وأسفرت هذه الحفريات عن الكشف عن مجموعة كبيرة من المجامر، منها مجمرة تميّزت بقيمة نحتية استثنائية، مصدرها معبد صغير الحجم اكتُشف خلال حملة أجرتها هذه البعثة بين عام 2008 وعام 2010.

يبلغ طول هذه المجمرة 33 سنتيمتراً، وهي مكوّنة من قاعدة هرمية مجرّدة من أي زينة، يعلوها مكعب عريض تحوي واجهته نقشاً تصويرياً يتألف من ثلاثة عناصر حيوانية متوازية. يتوسّط سطح هذا المكعب حوض دائري يبلغ عمقه نحو 3 سنتيمترات، ويشكّل هذا الحوض الإناء المخصّص للجمر واللبان وما شابه من أنواع الطيب والبخور. النقش ناتئ، ونتوؤه البارز بقوّة يسكب عليه طابع النحت، وقوام هذا النحت أسد يحضر في وضعيّة المواجهة وسط وعلين في وضعية جانبية. يقف هذا الأسد بثبات منتصباً على قائمتيه الأماميتين المستقيمتين، وتشكّل هاتان القائمتان عمودين تستقر فوقهما كتلة الرأس الدائرية الكبيرة. يطل وجه الأسد من وسط هذه الدائرة، فاتحاً شدقه إلى أقصى حدّ، وكأنه يزأر في جمود تام.

تحيط بهذا الوجه المزمجر لبدة عريضة مكوّنة من خصلات شعر عمودية متوازية، ويعلو هذه اللبدة شقّ عريض يفصل بين خصلتين عريضتين تستقرّان فوق الجبين. العينان بيضاويتان، ويتوسّط كلاً منهما ثقب دائري يمثّل البؤبؤ. الأذنان ضخمتان، وهما دائريتان، وكل منهما محدّد بإطار مقوّس ناتئ. الأنف عريض وأفطس، وتعلوه فتحتان بيضاويتان كبيرتان. الفم فارغ، ويتمثّل بشدق عريض يكشف عن نابين مسنّنين. القدمان محدّدتان، وتتميّزان كذلك بضخامتهما، ويتكوّن كل منهما بثلاث طبقات متوازية من الكتل المرصوصة.

بدأ استكشاف الموقع في منتصف القرن الماضي وتولّت بعثة إيطالية تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة أعمال المسح والتنقيب فيه منذ عام 1997

يقف هذا الليث بين وعلين متقابلين في شكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر. يدير كل من هذين الوعلين رأسه إلى الخلف في حركة واحدة جامعة، وكأنه يحدّق بالأسد الرابض في الوسط. النسب التشريحية متوازنة، والعناصر التشكيلية متآلفة ومتناغمة. يقف كل وعل على أربع قوائم حدّدت مفاصلها بدقّة، ويعلو رأس كل منهما قرنان مقوّسان مزيّنان بسلسلة من الوحدات المستطيلة المرصوفة. ملامح الوجه الواحد مختزلة، وتتكون من ثقب غائر يمثل العين، وشق بسيط يمثّل الفم. تتبنى صورة هذين الوعلين قالباً معروفاً شاع في جنوب جزيرة العرب، وشواهده في هذا الميدان عديدة، منها ما هو منقوش، ومنها ما هو منحوت. في المقابل، تخرج صورة الأسد عن القوالب الفنية المتعدّدة الخاصة بهذا الحيوان، وتهب هذا التأليف طابعاً فريداً خاصاً تتميّز به هذه المجمرة.

تُعرض هذه القطعة الفنية في «متحف أرض اللبان» بمدينة صلالة، بين منحوتتين من الحجر الجيري، تتميّزان كذلك بخصوصية كبيرة في التكوين الفني، ومصدرهما كذلك موقع سمهرم. عن يمين المجمرة، يحضر وجه آدمي شكّل في الأصل جزءاً من تمثال كبير على الأرجح. العينان واسعتان، وهما مفتوحتان ومحدقتان، مع بؤبؤ دائري غائر في الوسط. الأنف قصير، وهو مدمّر، وما بقي منه لا يسمح بتحديد شكله الأصلي. الفم عريض، مع شق طويل في الوسط يفصل بين شفتين مكتنزتين غابت حدودهما في الكتلة الجيرية. وعن يسار المجمرة، يحضر أسد فقدَ قوائمه الأربع للأسف، كما فقد الجزء الأكبر من ملامح وجهه، وما تبقّى منها يتمثّل في أنف بارز، وفم مفتوح، يحدّه شدقان مجوّفان.

تشهد هذه القطع لتقليد فني نحتي ضاعت آثاره على ما يبدو؛ إذ لا نجد ما يشابهها في ميراث سمهرم الفني بروافده المتعدّدة. في المقابل، يعكس هذا التقليد بنوع خاص أثر جنوب الجزيرة العربية الفني الذي طبع جزءاً كبيراً من هذا الميراث الذي كشفت عنه عمليات التنقيب والمسح المستمرة منذ سبعة عقود.