هل هناك مدرسة لبنانية في الأدب؟

شعراء وناثرون واكبوا حقبة الاستقلال

هل هناك مدرسة لبنانية في الأدب؟
TT

هل هناك مدرسة لبنانية في الأدب؟

هل هناك مدرسة لبنانية في الأدب؟

لم يكن الأدب في مختلف تجلياته ومراحله، حالة هجينة ومنبتة عن الواقع، بل هو نتاج أرضي لا بد له أن ينطلق من مكان وزمان محددين، قبل أن يحلّق في فضائه المتخيل وغير المحدود. وقد يكون في عبارة الكاتب اللبناني يوسف حبشي الأشقر: «لا تنبت جذورٌ في السماء»، التي جعلها عنواناً لإحدى رواياته، ما يؤكد الفكرة القائلة بأن شجرة الإبداع تحتاج لكي تثمر إلى تربة ملائمة وشروط محلية المواصفات. وأياً تكن المتغيرات اللاحقة بمذاهب النقد الأدبي ومدارسه، فإن الثابت الذي لا يتبدل هو أن النتاجات الأدبية العظيمة لا تدين لمواهب أصحابها الفردية فحسب، بل ثمة ما يتصل بالتقاطع الخلاق بين الزمان والمكان، حيث يُفرج الأول عن كنوزه في المنعطفات الملائمة، وحيث للآخر عبقريته الخاصة، كما ذهب الكثير من المفكرين.

وإذا كانت هذه التوطئة بمثابة المدخل الضروري للحديث عن الأدب اللبناني، في مرحلتي الانتداب الفرنسي والاستقلال، فإن ما يجب تأكيده هو أن الحديث عن أي نتاج أدبي محلي في العالم العربي، لا ينبغي أن يُقرأ من زاوية التشرذم الكياني أو الانهمام النرجسي بالذات؛ لأن الانتماء الوطني ليس في حالة تعارض مع الانتماء القومي والإنساني، ولأن لكل بيئة عربية تعبيراتها الأدبية والإبداعية الخاصة، بحيث تسهم الأساليب المتنوعة في إثراء الحديقة الأوسع للغة الضاد.

أمين نخلة

كما يجب التأكيد من جهة أخرى على أن الأدب اللبناني ليس واحداً بالقطع، بل هو يختلف باختلاف الحقب والمراحل، ويتعدد بتعدد الكتّاب والشعراء والأساليب. والأدل على ذلك هو أن النماذج التي قدمها الجيل النهضوي الأول ممثلاً بجبران والريحاني ونعيمة وشعراء المهجر، وصولاً إلى إلياس أبو شبكة، تختلف تمام الاختلاف عن النموذج الجمالي الذي جسَّده شعراء وأدباء الحقبة اللاحقة من أمثال أمين نخلة، والأخطل الصغير، وصلاح لبكي، وفؤاد سليمان وسعيد عقل، الذين عملوا على تظهير صورةٍ للبنان أقرب إلى الأساطير واليوتوبيا الفردوسية منها إلى أي شيء آخر. كما أن هؤلاء الأخيرين يختلفون بالقدر نفسه عن التجارب الحداثية اللاحقة، التي توزعت بين مجلتي «شعر» و«الآداب» على نحو خاص.

ولعل الظروف الصعبة التي عاشها الجيل الأول في ظل الحكم العثماني وما رافقه من تنكيل وبطش وتجويع، واضطرار الكثيرين إلى الهجرة باتجاه الغرب، هي التي تفسر مسحة التشاؤم والتمزق الروحي والتبرم بالواقع التي حكمت نتاج ذلك الجيل، حتى إذا أعلنت سلطة الانتداب الفرنسي قيام دولة لبنان الكبير، وصولاً إلى الاستقلال التام عام 1943، راح شعراء الجيل اللاحق يرسمون صورةً للكيان الوليد، مفعمة بالزهو والتفاؤل والطرب الحسي بالجمال.

على أن شعراء تلك المرحلة وناثريها لم يكتفوا بإسناد كتابتهم إلى واقع البلاد الفعلي، بل راحوا ينقّبون في الأساطير والمرويات القديمة والكتب المقدسة و«أحافير التاريخ»، عن كل ما يضاعف من مساحة الوطن الصغير، ويعمل على تظهير حضوره في العالم، بوصفه وطن المغامرة الإنسانية والثراء الإبداعي. ولم ينسَ هؤلاء الكتّاب بالطبع أن لبنان قد ذُكر عشرات المرات في العهد القديم، وبخاصة في«نشيد الأناشيد» حيث لا يجد العاشق المولّه ما يشبّه به رائحة حبيبته سوى قوله: «رائحة ثيابك كرائحة لبنان»، وما يشبّه به أنفها سوى قوله المماثل: «أنفكِ كبرج لبنان الناظر تجاه دمشق».

بشارة الخوري

ولا يمكن في الوقت نفسه أن نقرأ ذلك الإفراط في الترصيع الجمالي والنمنمة اللفظية، بمعزل عما أصابه لبنان في تلك الفترة من ازدهار ورخاء، في ظل الطفرة النفطية غير المسبوقة التي شهدتها البلدان المجاورة، وفي ظل مناخ الحرية والانفتاح الثقافي والاجتماعي الذي رافقه لعقود كثيرة، فضلاً عن طبيعته الخلابة ورحابة أهله؛ الأمر الذي جعل منه مقصد الباحثين عن المتعة والفرح، وقِبلة أنظار الكثيرين في العالمين العربي والغربي.

هكذا بدا الأدب اللبناني في الثلث الثاني من القرن العشرين بمثابة احتفال كرنفالي بالحياة، واستثمار لأكثر ما في اللغة العربية من جماليات البلاغة وأناقة المفردات وفتنة الإيقاع. كما بدت صورة لبنان الزاهية خليطاً من التاريخ المطعّم بالأساطير، والجغرافيا المتوسطية التي تقدم أفضل ما لديها من عروض الجمال، حيث الطبيعة مسرفة في تنوعها، وحيث الكلفة مرفوعة بين الجبال والشواطئ.

وفي هذا العالم الأثيري المفعم بالتفتح، عالم ما قبل تلوث المدن وفساد الأيام، راحت كوكبة من النخب اللبنانية، تبعث إلى المطابع بإصدارات مختلفة المشارب، يؤالف بينها انتصارٌ للّغة الأنيقة و«الأرستقراطية» والبعيدة عن الشوائب. وفي حين كان غليان الحياة مدفوعاً إلى تخومه القصوى، وأصبح الشعر والنثر نوعين من الطرب والانتشاء الطربي بجمال الطبيعة، أو تغنياً بالأنوثة المطلقة، راح الأخطل الصغير، يهتف بامرأته المعشوقة:

الصبا والجمال ملْك يديكِ أيُّ تاجٍ أعزُّ من تاجيكِ

نصبَ الحسنُ عرشه فسألنا مَن تُراها له فدلَّ عليكِ

وإذا كان الأخطل الصغير قد حرص على المواءمة بين البعدين الريفي والمديني في الكتابة، محولاً القصيدة العمودية التقليدية مقطوعاتٍ قصيرة وأغنياتٍ رشيقة، فإن سعيد عقل قد آثر البقاء في المربع الفحولي للكتابة، حيث الشعر رديف الذرى الأكثر ارتفاعاً للبلاغة العربية. وهذه الميزة لم تفارق صاحب « قدموس» في معظم أعماله، كما لو أنه كان يرى في الليونة التعبيرية نوعاً من التأنُّث أو «الخنوثة» التعبيرية التي لم يكن يستسيغها بالمطلق. وإذا استثنينا بعض مقطوعاته الغزلية، فقد ظل الشاعر وفياً لفكرته عن الشعر حتى في قصائد الرثاء، كقوله في رثاء أمين تقي الدين:

سليل الأُلى قيلوا السيوفُ رنتْ لهمْ جبالٌ، وقال الحقُّ من بعضهمْ جندي

على ريف لبنانٍ نموا مثلما نما الضياء، وسال الفجرُ في القمم الجُردِ

أنا اليومَ منهم في قصيدة شاعرٍ لَتَسْكنني كالريح تَلفحُ من بردِ

ولم يكن نثر تلك الثلة من مبدعي الوطن المزهو باستقلاله ليختلف كثيراً عن الشعر، بل كان موازياً له في الصنيع البارع والترصيع البلوري والتأليف المحكم. وهو ما بدا واضحاً في نثر فؤاد سليمان وصلاح لبكي وأمين نخلة، على سبيل المثال لا الحصر. ومع أن سليمان كان ينتمي على المستوى العقائدي إلى أحد الأحزاب القومية، إلا أن أدبه ومعجمه اللغوي كانا يتغذيان من مصادر لبنانية وريفية بحتة، شأنه في ذلك شأن أقرانه الآخرين. ولا تبتعد مناخات سليمان النثرية عن مناخات لبكي ونخلة، من حيث الاستلهام الرومانسي للطبيعة اللبنانية، فكتب في «درب القمر» مخاطباً صديقاً له: «أين لي عشيةٌ في كرْم، تحت قبة عشية خضراء. أغني حتى أجرح حنجرتي. ولكنْ لا عرزال ولا ضباب، لا راعٍ ولا خيمة ولا مطلّ على الدروب. أنا هنا في موكب التائهين، أمشي على براكين تغلي نيرانها تحت رجليّ». ولم يختلف شعر صلاح لبكي ونثره عن مناخات أقرانه من كتاب ذلك الجيل، وهو الذي عمل في «أرجوحة القمر» و«لبنان الشاعر» وغيرهما، على خلق عالم أثيري مصنوع من جماليات التخيل وبهاء التصورات.

وكما هو شأن رفيقيه، حرص أمين على تحميل لغة النثر كل ما تحتاجه من قوة السبك وطاقة الإيحاء. وإذ تداوى أبو نواس بالخمرة، قبله بقرون عدة، جهد نخلة عبر «المفكرة الريفية»، في تحويل الطبيعة منتجعاً للفرح، وتحويل الجمال علاجاً مجانياً، فكتب قائلاً: «إن عصر المداواة بالزهر كان عصراً شهياً؛ إذ كان بالأرج يُداوى، وبالمَلاحة يُطَبَّب، وكان صاحب العلّة من الناس يُقبل على الطبيعة وهي قائمة على ساقها، أو هي طحينٌ في علبة وعجينٌ في حُقّ».



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.