كيف يدمّر وحش الخوف حياة الإنسان؟

«الرجل الرفيع بالقميص الأبيض» للسوريّ ممدوح عزّام

كيف يدمّر وحش الخوف حياة الإنسان؟
TT

كيف يدمّر وحش الخوف حياة الإنسان؟

كيف يدمّر وحش الخوف حياة الإنسان؟

تصوّر رواية «الرجل الرفيع بالقميص الأبيض» للروائي السوري ممدوح عزّام مفارقات مستندة إلى عالم داخلي مشحون بالتناقضات والخوف، وتسلط الأضواء على كيفية تأثير التجارب الصعبة على تكوين الإنسان؛ حيث تتحول كل مواجهة مع الذات أو الآخرين إلى فرصة للتفكير في ماهية الحياة والوجود نفسه، وتُبرز كيف يمكن للتجارب القاسية أن تعيد تشكيل الإنسان، وتجعله يرى ذاته وواقعه بوضوح أكبر.

يشير ممدوح عزّام في روايته («سرد» و«ممدوح عدوان»، دمشق، 2024) إلى أنّ الخوف في «جمهورية الخوف» من المشاعر التي يصعب الاعتراف بها، ربما بسبب ارتباطه ثقافياً بالضعف أو العجز أو الجبن... فالشخصيات تخفي خوفها لأنها لا تجرؤ على الاعتراف به حتى أمام أنفسها، ما يكشف التناقض الداخلي الذي يصارع فيه الإنسان بين ما يشعر به وما يسمح لنفسه بقبوله أو التعبير عنه.

يفتح عنوان الرواية باباً للتأمّل إذ يبرز «الرجل الرفيع» كصورة غامضة تُلقي الضوء على البعد النفسي والاجتماعي للشخصية المحوريّة، ثمّ «القميص الأبيض»، بما يوحي به من صفاء ظاهريّ يتناقض مع التعقيدات الداخلية التي تلاحق الشخصية، وبهذا يصبح نافذة لرؤية العالم الداخلي للشخصيّة، في تضادّها مع العالم الخارجي المشبع بالفوضى.

تقدّم الرواية حكاية مركّبة تدور حول شخصية شاكر الصافي، الذي دأب على أن يتجنّب الصدامات الاجتماعية والسياسية، ويكتفي بدوره كمراقب غير مرئيّ، يتوارى عن الأنظار ويعيش على هامش الحياة اليومية. وهو يجسّد نموذج الإنسان الهامشي الذي يجد نفسه قسراً في مركز الأحداث بعد اختطافه، لكن تلك الهامشية لا تخفي صراعاته الداخلية العميقة. شخصيّته تتّسم بالخوف المستمرّ، من الآخرين، ومن ذاته، وهو بذلك مرآة للإنسان المأزوم، الذي يحاول فهم العالم من حوله، لكنّه يغرق في دوّامة التساؤلات المتردّدة في مواجهة ذاته؛ ما يجعل وجوده مزيجاً من محاولات الهروب والرغبة في فهم أعمق.

هذه النقلة الإجباريّة للبطل من الهامش إلى المركز تعكس فلسفة الرواية بأنّ الأزمات تجعل حتى أكثر الأشخاص هامشية محوراً للأحداث. في كلّ لحظة يواجه فيها شاكر خاطفيه أو يسترجع ذكرياته، يتحوّل من شخصية هامشية إلى رمز للإنسان الذي يجبر على تحمّل أعباء لم يخترها.

المدينة التي يعيش فيها شاكر تعكس الفوضى الاجتماعيّة والانهيار القيميّ، بينما البرية التي يُنقل إليها بعد اختطافه تصبح رمزاً للسجن والخطف والقهر والإذلال. وفي كل لحظة يجد فيها نفسه وحيداً، يتأمّل في حياته، في خوفه، وفي علاقاته مع محيطه.

هناك طيف سارة يحضر هنا وهناك ليغيّر بعضاً من أجواء شاكر السوداويّة، وهناك عصام نوح؛ صديق شاكر، وهو يمثّل صوت الحكمة أو المرآة الفلسفية التي تتردد فيها صدى أفكار شاكر. يظهر عصام في الرواية كشخص يفكّر في الحياة والخوف بطريقة تحليلية، ما يجعله في كثير من الأحيان النقطة التي يلجأ إليها شاكر لفهم ذاته. ومن خلاله، نرى وجهات نظر مختلفة عن الخوف والهامشيّة، وهو ما يضيف طبقة غنية من التأمل في الرواية.

أمّا الخاطفون في الرواية فيظلون غامضين، وهذا الغموض ذاته يجعلهم أكثر إثارة للقلق، لأنّهم يمثلون الجانب المظلم من السلطة؛ حيث لا تظهر لهم دوافع واضحة، مما يعزّز شعور العبثية الذي يسود الرواية. هم رموز للقوى القمعية التي تسيطر على الفرد وتسلبه حرّيته؛ سواء أكانت هذه القوى مرئية أم خفية، ووجودهم يعكس واقعاً اجتماعياً يتّسم بالتهديد المستمرّ وعدم الأمان.

المكان في الرواية عنصر فاعل يشكل الأحداث ويؤثر في الشخصيات. المدينة التي يعيش فيها شاكر تبدو وكأنها مسرح للفوضى والانهيار؛ حيث تختلط رموز الحرب بالاختطاف والموت العبثي. إشارات الكاتب إلى مواقع وأماكن محدّدة تشير إلى السويداء ومحيطها - مدينة الكاتب - التي تتبدّى كمسرح لأحداث الرواية.

تقدم الرواية الخوف كبطل روائيّ، وكمعضلة فلسفية تتعلق بمعنى الوجود ذاته، وما إن كان بإمكان الإنسان أن يعيش حياة كاملة في ظلّ خوف دائم. وتراها تتجاوز حدود الحكاية التقليدية، لتطرح أسئلة عن طبيعة الخوف وتأثيره على الكينونة البشرية، وكيف أنّه حالة داخلية تتراكم مع الزمن وتعيد تشكيل رؤية الفرد لنفسه وللعالم من حوله.

الأحداث التي تمرّ بها الشخصية المحورية تكشف النقاب عن قوى القمع والعنف العبثيّ، والاختطاف الذي تتعرّض له يبدو وكأنه يمثل عنفاً لا مبرر له، كاشفاً عن واقع اجتماعي وسياسي يفتقر إلى المنطقية. هنا، تطرح الرواية سؤالاً آخر: كيف يمكن للإنسان أن يتعامل مع عالم تهيمن عليه قوى عمياء؟ هذا السؤال يعيدنا إلى طبيعة السلطة في الرواية، التي تتجلّى بصورة مشوّهة موجودة في كلّ تفاصيل الحياة اليومية لشاكر، بدءاً من اختطافه وحتى السجن الذي حاصره.

يظهر ممدوح عزّام كيف أنّ الاغتراب النفسي انعكاس لفقدان التواصل مع الذات، وينجح في تقديم تجربة إنسانية تتجاوز الخاصّ إلى العامّ، وتجعل من التفاصيل غير المألوفة، مثل الاختطاف والعزلة والخوف، مألوفة في سياق الدمار المعمم، وأدوات للتعبير عن قضايا أكبر تتعلق بطبيعة الإنسان والمجتمع، كما يدعو للتفكير في قضايا تتعلق بالخوف، الهامشية، والبحث عن الذات وسط عالم يبدو في أحيان كثيرة غير منطقي وغير عادل.

لا يعدم صاحب «قصر المطر» الأمل في نهاية روايته، تراه يبقي رمزاً للأمل؛ حيث أضواء الفجر الخافتة التي ترسلها المدينة من بعيد، تمثّل وعداً ببداية جديدة وانبعاثٍ للحياة من وسط العتمة. والمشهد الأخير، بكلّ تفاصيله، يترك أثراً متجدّداً في القارئ؛ حيث يعكس صراع الإنسان مع الظلامين الداخلي والخارجيّ، لكنه يؤكّد في الوقت ذاته أنّ بارقة الأمل تبقى حاضرة وحيّة، ولو في صورة أضواء خافتة تلوح في الأفق البعيد، لتبعث رسالة عن قدرة الإنسان على التمسّك بالحياة والنور، حتى في أشدّ لحظاته يأساً وقهراً وظلاماً.



مجلة «القافلة» السعودية: عام الحرف اليدوية

مجلة «القافلة» السعودية: عام الحرف اليدوية
TT

مجلة «القافلة» السعودية: عام الحرف اليدوية

مجلة «القافلة» السعودية: عام الحرف اليدوية

في العدد الجديد من مجلة «القافلة» لشهري يناير (كانون الثاني)، وفبراير (شباط) 2025، التي تصدر عن شركة «أرامكو السعودية»، تناولت الافتتاحية موضوع الأمثال الدارجة والميل للاستشهاد بها في الأحاديث اليومية، «باعتبارها وعاءً للحكمة ورابطة لامتدادنا الثقافي، ولقدرتها على اختزال الحدث أو المشهد في بضع كلمات».

وفي زاوية «قول في مقال» عقّب الدكتور عماد الصيّاد على موضوع الكاتبة فاطمة البغدادي، الذي تناول عنوان «كيف غـيَّرت الخيول مجرى التاريخ؟»، متناولاً ما يثار حول التحديد المكاني لبداية استئناس الخيول في العالم القديم.

وناقشت «قضية العدد» موضوع التربية الأبوية، والتشدّد في القسوة، جسدية أم لفظية، التي يمكن أن تكون مسيئة أكثر مما هي ضابطة ومحسنة، كما أن التراخي الذي يترك الطفل والمراهق من دون حسيب أو رقيب، يمكن أن يعطي نتائج سلبية. وشارك في تناول هذه القضية ثلاثة من الكتاب المتخصصين في هذا المجال.

أما باب «أدب وفنون»، فتناولت خلاله الكاتبة يارا المصري موضوع الترجمة المتبادلة بين الثقافتين العربية والصينية، تزامناً مع انطلاق الدورة الأولى لجائزة الأمير محمد بن سلمان للتعاون الثقافي بين السعودية والصين، والتي تأتي في صميم العلاقات الثقافية الصينية العربية، وترسيخاً للتعاونُ الثقافي بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية، ورافعة للتعاون في مجالات ثقافية متعددة تشمل التعليم والفنون واللغة والترجمة.

كما تضمن الباب إضاءة على سيرة الدكتور عبد الرحمن الطيّب الأنصاري، وآثاره وإنجازاته في التاريخ وعلم الآثار، والتأسيس الأكاديمي وتدريس علم الآثار، والذي امتد إلى ميادين التنقيب والكشف عن مواقع أثرية مهمة مثل موقع «الفاو» في نجد، كتبها الدكتور سعد بن عبد العزيز الراشد.

وفي زاوية «فرشاة وإزميل»، سلّطت روان طلال الضوء على أعمال وإبداعات الفنانة منال الضويّان، ومسيرتها الفنيّة، والتي سنحت لها الفرصة بتمثيل بلدها في «بينالي البندقية 2024»، بعد اثني عشر عاماً من العطاء، وتتويجاً لرحلتها الطويلة في عالم الإبداع والفن.

أما الكاتب والمفكّر العراقي د. عبد الجبار الرفاعي، فكتب مقالاً في زاوية «رأي ثقافي» تحت عنوان: «الهويّة المغلقة».

وفي باب «علوم وتكنولوجيا»، تناول الكاتب حسن الخاطر، موضوع استغلال النفايات البلاستيكية في البناء القابل للنفخ، كآخر ما تفتَق عنه خيال تصميم الأبنية، وكواحد من الحلول المستميتة في محاولة معالجة النفايات وإنقاذ الأنظمة البيئية. كما كتب أمين نجيب عن آخر ما توصّل إليه العلم في استغلال التفاعل الإيجابي بين البشر والكائنات الدقيقة، وهو ميكروبيوم البيئة المبنية، وآثاره على الصحة العامة، ودوره في تشكيل الحيّز الحضري.

وحيث أعلنت وزارة الثقافة في المملكة تسمية العام الحالي 2025 «عام الحِرف اليدوية»، تعزيزاً لهذا القطاع؛ لما له من أهمية على المستويين الثقافي والاقتصادي، تناول فريق تحرير القافلة والكاتبة شروق المرزوق، في باب «آفاق»، موضوع «الأسر المنتجة... الغراس والحصاد والآفاق الواعدة».

كما ناقشت شيرين أبو النجا مصطلحاً غير مألوف في الأدبيات العربية، بخلاف الأدبيات الغربية التي جاء منها عبر «الميديا» الحديثة، وهو مصطلح «الأكل الأخلاقي»، فكتبت عن «مراوغة المصطلح وصعوبة التنفيذ»، متسائلة: كيف يمكن لهذا الأكل الذي نعرفه أن يكون أخلاقياً؟ أما الدكتور أشرف فقيه فيأخذنا في جولة سياحية مصورة ماتعة على معالم مدينة شانغريلا، التي يقترن اسمها بمعاني الرفاهية وسحر الشرق الأقصى.

وفي «ملف العدد»، يتناول الكاتب عزّّت القمحاوي كل ما يتصل بـ«اليد»، بدءاً من اعتمادنا على مهاراتها واستخداماتها المتعددة في حياتنا اليومية، إلى حضورها بدلالات لا حصر لها في الثقافة الإنسانية.

جديرٌ بالذكر أن القافلة مجلة ثقافية متنوعة، تصدر عن «أرامكو السعودية» منذ عام 1953. تصدر حالياً كل شهرين.