وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

في «طريق اللبان» المدرجة على لائحة التراث العالمي

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان
TT

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

يحتلّ موقع سمهرم مكانة مميزة في خريطة «طريق اللبان» العُمانية التي دخلت عام 2000 في قائمة اليونيسكو الخاصة بمواقع التراث العالمي، وهي طريق البخور التي شكّلت في الماضي معبراً تجارياً دولياً ازدهر على مدى قرون من الزمن. بدأ استكشاف هذا الموقع في مطلع الخمسينات، وأدت أعمال التنقيب المتواصلة فيه إلى العثور على مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية، منها بضعة أنصاب حجرية مسطّحة تحمل نقشاً غائراً يمثّل وجهاً آدمياً مختزلاً، تقتصر ملامحه على عينين واسعتين وأنف مستطيل.

يضمّ موقع سمهرم مستوطنة أثرية تجاور خوراً من أخوار ساحل محافظة ظفار يقع في الجهة الشرقية من ولاية طاقة، يُعرف محليّاً باسم «خور روري». يعود الفضل في اكتشاف هذا الموقع إلى بعثة أميركية، أسّسها عام 1949 في واشنطن عالم الآثار وينديل فيليبس الذي لُقّب بـ«لورنس العرب الأميركي». شرعت هذه البعثة في إجراء أول حفريّة في «خور روري» خلال عام 1950، وواصلت عملها على مدى 3 سنوات، وكشفت عن مدينة لعبت دور ميناء دولي، عُرفت باسم سمهرم، كما تؤكد النقوش الكتابية المدونة بخط المُسنَد العربي الجنوبي. من بين أطلال هذه المدينة المندثرة، خرجت مجموعة من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة زُيّن كلٌّ منها بنقش تصويري غائر طفيف يمثّل وجهاً آدمياً ذكورياً، كما يؤكّد الكشف العلمي الخاص بهذه البعثة.

عُثر على حجرين من هذه الحجارة على مقربة من أرضية مبنى من معالم سمهرم، وعُثر على ثالث على مقربة من المعبد الخاص بهذه المستوطنة، ممّا يوحي بأنه شكّل في الأصل جزءاً من أثاث هذا المعبد على الأرجح، كما رأى العالِم فرانك فيدياس أولبرايت في تقرير نُشر في عام 1953. استمرّت أعمال المسح والتنقيب في سمهرم، وتولّتها منذ عام 1997 بعثة إيطالية تابعة لجامعة بيزا، ومع هذه الأعمال، تمّ الكشف عن مجموعة أخرى من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة مشابهة لتلك التي عثرت عليها البعثة الأميركية.

يتكرّر النقش التصويري على هذه الأنصاب التي احتار أهل الاختصاص في تحديد وظيفتها، ويتمثّل بوجه آدمي مجرّد هندسياً إلى أقصى حد. اختُزلت ملامح هذا الوجه بعينين لوزيّتين واسعتين، وأنف مستطيل رفيع. خلت هاتان العينان الفارغتان من حدقتيهما، كما غابت عنهما الرموش والحواجب، فظهرتا على شكل مساحتين بيضاويتين حُدّدتا بخط ناتئ رفيع وبسيط في وضعية المواجهة. كذلك، ظهر الأنف على شكل مثلّث عمودي طويل يحدّده خط مماثل. يعود هذا الوجه ويظهر على واجهة مجمّرة مخصّصة لحرق البخور، عثرت عليها البعثة الإيطالية خلال عام 2014، إلى جانب مجمّرتين تتبعان الطراز المألوف المجرّد من النقوش. ويتميّز هذا الوجه بظهور حاجبين مقوّسين يمتدان ويلتصقان عند أعلى مساحة الأنف المستطيلة.

خرجت من موقع سمهرم مجموعة كبيرة من المجامر والمباخر، غير أن هذا الوجه المجرّد لا يظهر على أي منها، كما أنه لا يظهر على أي من عشرات المجامر التي عُثر عليها في نواحٍ عدة من جزيرة العرب الشاسعة. في الواقع، يتبع هذا الوجه طرازاً ارتبط على نحوٍ واسع بشواهد القبور، وعُرف باسم «المسلّة ذات العينين». خرج العدد الأكبر من هذه المسلّات من محافظة الجوف التي تقع في الجزء الشمالي الشرقي من صنعاء، وخرج عدد آخر منها من وادي بهيان في محافظة حضرموت. تجاوز هذا الطراز حدود جنوب الجزيرة العربية، وبلغ شمالها حيث ظهر في واحة تيماء في منطقة تبوك، وقرية الفاو في الجنوب الغربي من الرياض، كما تؤكّد شواهده التي كشفت أعمال التنقيب عنها خلال العقود الماضية.

حمل هذا الطراز طابعاً جنائزياً لا لبس فيه، وتمثّلت خصوصيّته بهذا الوجه التجريدي الهندسي الذي ظهر على شواهد قبور فردية، كما تشير الكتابات المنقوشة التي تسمّي أصحاب تلك القبور. يصعب تأريخ هذه المسلّات بدقة، نظراً إلى غياب أي إشارة إلى تاريخها في الكتابات المرفقة، والأكيد أن هذا الطراز الجنائزي ظهر في القرن الثامن قبل الميلاد، وشاع على مدى 5 قرون. يحضر هذا الوجه في سمهرم، ويشهد هذا الحضور لدخوله إقليم عُمان في مرحلة تلت فترة انتشاره في جنوب الجزيرة وفي شمالها، فالدراسات المعاصرة تؤكد أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، وارتبط بمملكة حضرموت في زمن نشوء التجارة البحرية وازدهارها في المحيط الهندي، وظلّ ناشطاً حتى القرن الخامس للميلاد، حيث تضاءل دوره وتلاشى تدريجياً نتيجة اندحار مملكة حضرموت.

حضر هذا الوجه التجريدي في سمهرم حيث ظهر على عدد من المسلّات، وانطبع بشكل استثنائي على مجمرة تبدو نتيجة لذلك فريدة من نوعها إلى يومنا هذا. خرج هذا الوجه في هذا الموقع العُماني عن السياق الجنائزي الذي شكّل أساساً في جنوب جزيرة العرب، وحمل هُويّة وظائفية جديدة، وتحديد هذه الهوية بشكل جليّ لا يزال يمثّل لغزاً وتحدّياً للباحثين في ميدان الآثار العُمانية.



«أسطورة إيلينا فيرانتي»... المؤلفة الغامضة وسحر المدينة

«أسطورة إيلينا فيرانتي»... المؤلفة الغامضة وسحر المدينة
TT

«أسطورة إيلينا فيرانتي»... المؤلفة الغامضة وسحر المدينة

«أسطورة إيلينا فيرانتي»... المؤلفة الغامضة وسحر المدينة

رغم أن كتاب «أسطورة إيلينا فيرانتي» الصادر عن دار «العربي» بالقاهرة للكاتبة آنا ماريا جواداجني، ترجمة ندى سعيد، يستهدف الكشف عن هوية أكثر أديبات العصر غموضاً وهي تلك الإيطالية التي حققت شهرة عالمية لكنها توقع باسم مستعار هو «إيلينا فيرانتي»، فإن جواداجني تخرج من الإطار الضيق لمغامرتها الصحافية، شديدة التشويق، إلى آفاق أرحب تتعلق بإعادة اكتشاف مدينة نابولي التي تُعد الوجهة المكانية المفضلة في نصوص الكاتبة المجهولة.

وتتعمق هالة الغموض حول «فيرانتي» كونها باعت أكثر من مليون نسخة من مجمل أعمالها التي تُرجمت إلى أكثر من 40 دولة حول العالم، لا سيما رباعيتها الشهيرة «نابولي»، التي تتكون من روايات: «صديقتي المذهلة»، و«حكاية الاسم الجديد»، و«الهاربون والباقون»، و«حكاية الطفلة الضائعة».

ورغم أن اللجوء إلى اسم مستعار هو تقليد قديم في ثقافات ولغات عدة لأسباب مختلفة أشهرها الخوف من مواجهة المجتمع أو الرغبة في التميز، فإن سبب لجوء كاتبة إيطالية إلى هذا الاسم المستعار ورغبتها القوية في عدم كشف هويتها إلا لوكيلها الأدبي يظل لغزاً يستعصي على الفهم.

من هنا جاءت فكرة هذا الكتاب الذي يمزج بين فنون الصحافة، وتحديداً التحقيق الاستقصائي وبين لغة السرد الأدبي؛ حيث تذهب جواداجني في رحلة إلى نابولي مقتفية أثر «فيرانتي» في مدينتها المفضلة لتقترب جداً من عالم الروائية ورباعيتها المذهلة وتعيد اكتشاف الأماكن، والأصوات والشخوص لتخرجها من الصفحات التي كتبتها «فيرانتي» وأذهلت بها العالم إلى الحياة الحقيقية وتتركها تتحدث هي عن نفسها.

لم يكن بحوزة المؤلفة عند نقطة الانطلاق سوى بعض المعلومات الشحيحة؛ منها أن «إيلينا فيرانتي» ولدت عام 1943 في مدينة نابولي، ونشرت عملها الأول عام 1992، وهو كتاب «حب غير مريح»، ثم توالت أعمالها الأدبية ومنها «رباعية نابولي»، التي تروي قصة صديقتين تعيشان في إحدى حارات نابولي الفقيرة، وتشكّلان علاقة إنسانية ثرية ومليئة بالتفاصيل الملهمة.

نجحت المؤلفة في إعادة اكتشاف الكثير من النماذج الحقيقية التي شكلت «مادة خام» لشخصيات «فيرانتي» الحقيقية، لتقدم في النهاية ما يشبه «نصاً على نص» أو سردية جديدة تستلهم نابولي بنماذجها الإنسانية الاستثنائية، وبأحيائها الشعبية العريقة ذات التفاصيل شديدة الخصوصية، التي شكلت الحاضنة الإبداعية والإنسانية لعالم تلك الكاتبة الغامضة. وكم كان دقيقاً أن تختار المؤلفة عنواناً فرعياً هو «رباعية نابولي: المدينة... الرواية»؛ حيث امتلأ الكتاب بالحكايات والقصص الفريدة والإنسانية التي جعلت منه نصاً «متعدد الطبقات». وكان لافتاً أن المؤلفة تحترم حق الأديبة الغامضة في حجب هويتها، مشددة على أنه ينبغي على الجميع احترام رغبتها وعدم التعامل معها باعتبارها مجرماً دولياً ينبغي الكشف عن أرصدته البنكية، على حد تعبيرها.

وتبقى الإشارة إلى أن آنا ماريا جواداجني هي صحافية ثقافية، عملت لفترة طويلة في مجال النشر، وتعمل في صحيفة «Il Foglio»، وقامت بتحرير مجموعات من المقالات ونشرت رواية بعنوان «الليلة الماضية» 1998.