القاهرة وأزمنتها الغابرة في سردية مفعمة بالشجن

هشام أصلان في «ثلاثة طوابق للمدينة»

القاهرة وأزمنتها الغابرة في سردية مفعمة بالشجن
TT

القاهرة وأزمنتها الغابرة في سردية مفعمة بالشجن

القاهرة وأزمنتها الغابرة في سردية مفعمة بالشجن

يتخذ الكاتب والقاص المصري هشام أصلان من عنوان مجموعته القصصية الجديدة «ثلاثة طوابق للمدينة»، الصادرة عن «دار الشروق» في مصر، مدخلاً لاستكشاف مُستويات الحياة، وأحلامها، في مِعمار سردي مُكثَّف يتكوَّن من خمس عشرة قصة قصيرة، ينطلق فيها الكاتب من وجهة مركزية -وهي «القاهرة، وأرواح العابرين»- التي يُهدي إليها مجموعته.

تكشف كل قصة في المجموعة القصصية شيئاً من تعقيدات المدينة، وصورتها الهاربة التي يبحث عنها السارِد بين ضواحيها وأزقتها التي تحتفظ بوجهها القديم المفعم بالشجن والحنين. وبرغم تنوُّع الحكايات، فإن الرُّواة تجمعهم آصرة خاصة مع المشي الذي يترك بصمته الحركية على إيقاع القَص، وتجعلنا أمام سرد مُترجل، يعتني بترسيم المكان واتجاهاته ومُفترقاته، ليبدو الرُّوَاة وكأنهم يتلقون العالم عبر وقع خطواتهم على الأرض، بينما يصبح المشي بطلاً يتشكَّل تدريجياً ويتنوع بخطوات الرُّوَاة؛ مشكلاً جسراً لتعرف بعضهم على بعض، وهم يتشاركون دروب المدينة، الوديعة منها والموحِشة.

أصحاب المساء

تلتقط القصص تفاصيل تُبرز اليومي والبسيط كحالة مركزية في المجموعة، كما تشحذ حالة من الجمالية الخاصة بين تناقضات المدينة؛ حيث يُعمِّق هذا التنافر الظاهري شاعِرية تجد ذروتها خلال ساعات الليل التي يلوذ بها الأبطال من مُلاحقة القُبح لهم، فالراوي في قصة «مدينة وراء الليل» يقول: «الليل يعرف أن المدينة تُحبه أكثر. يعرف أنها ليست من مدن النهار؛ حيث تتحوّل إلى دُمية عملاقة تأكل سكانها مبتسمة. متجاوزة دورها كمدينة، تزحف فوق أرواح هؤلاء السُّكان، متنازلة عن أي معنى للجمال والحياة، بحركة حياتية مضمونة الشقاء، بينما يستطيع قلبها ليلاً أن يستقل، ويتجلى كقطعة منفصلة عن تلك الضواحي الممتدة، ويوفِّر شيئاً من الحياة لأصحاب المساء»، ويبدو في تلك القصة تورُّط المدينة، وظهورها؛ ليس كفضاء مكاني مُجرَّد؛ بل وكأنها في موضع مساءلة ومُحاكمة.

لا يسعى الكاتب إلى منح عالم أبطاله ملامح سوريالية تُغيِّر من طابع واقعهم؛ بل يُفجر من ذلك الواقع الصِّرف سِحره الخاص الذي يمنح لأبطاله حضوراً أسطورياً في بعض الأحيان، مستفيداً من ثقافة «الأولياء» الشعبية، و«الحكايات المتوارثة»، كما في قصة «صاحب كرامة الشتاء» الذي ينسج أهل القرية حوله أسطورة يتوارثونها، فتخلد حكايته بينهم لمئات السنوات، وتلقي ظلالها عليهم كما سعف النخيل والطائرات الورقية.

ليلة الأمنيات

يُنوِّع الكاتب هشام أصلان من تقنيات ظهور أبطاله وأصواتهم، لتتراوح كادرات القصص بين النظرة البانورامية، والبورتريه الشخصي، كما في قصة «مراحل زينب» التي تضيء على شجون من شاركونا الطُّرقات نفسها ثم رحلوا، في سردية شجيَّة عن تبدلات الزمن، وتبدو قصة «الغريب المبتسم» التي كُتبت بلسان طفل، أقرب لسرد سينمائي يتنقل بعدسته بين رُعب المدينة الفاضح وصُدفها بالغة الدهشة.

وفي قصة «ابتسامة من الماضي»، يُكثِّف الكاتب الزمن ويُحاصر بطله، في سياق مُشبَع بالنوستالجيا داخل استوديو تصوير فوتوغرافي؛ حيث يتساءل البطل: «في أي زمن أعيش هذه اللحظة؟» بينما تختلط الصور الفوتوغرافية، في اللحظة التي تُحدِّق إليه فيها من فاترينة المُصوِّر، مع الشريط الصوتي للشارع الشعبي الذي يغمره بالمشاعر، فبدَت اللحظة أقرب لومضة متوهجة بالخيال: «انسحب الضوء المار عبر الفراغات بين الصور المُعلقة، ورأيت هلالاً نحيلاً باقياً من قرص الشمس المتواري خلف البنايات. وسمعت صوت خبطات معدنية مميزة لمفتاح إنجليزي يُقرَع على أنبوبة بوتاجاز. كنت أحاول استيضاح مكان بائع الأنابيب، فوجئت بابنة المُصوِّر القديم تُطل مبتسمة من إحدى الصور المُعلقة على الفاترينة، وأخذتني خضة مخلوطة بالسعادة».

تطرح المجموعة نبرة ساخرة من المعجم الحديث لأهل المدينة الذي يعكس تغيُّراتها الاجتماعية وانحيازها للتصنيفات المُعلبة مثل: «الإعلامي الشهير»، و«مطربة المثقفين» في وقت تبدو فيه المقابر بأحراشها أكثر تحرراً ومنافسة للحياة خارج أسوارها. فبطل قصة «مهرجان ليلي صغير» تقوده مُفارقة تضطره للعبور بمنطقة مقابر، فيجد نفسه في قلب هذا المشهد الصاخب: «هناك محل بقالة، ورش تصليح سيارات، باعة ألبان، فتارين صغيرة تبيع الحلوى. رغم هذا، لم أستطع استيعاب مشهد هؤلاء العمال، وهم يُفككون أفرع لمبات الكهرباء الملونة، وبقايا صوان كان منصوباً لفرح شعبي في قلب المقابر».

أما في قصة «خطة استدعاء الوحدة» فقد ضيَّق الكاتب حدود المكان، ليُحاصِر مشاعر بطله الوحيد في ليلة «رأس السنة»، باعتبارها ليلة الأمنيات الصاخبة، وهو يُعدُّ نفسه لخطة احتفال فردية، يضع فيها مسافة بينه وبين العالم الذي يُطل عليه من نافذة بيته: «الآن، كل شيء جاهز تماماً، أنا رجل وحيد يستطيع أن يسخر من العالم وقسوته بارتياح، وفي الغد أعِدكم وأعِد نفسي أن أعاود الابتسام المُتعشِّم في لطافة الحياة، مثلما يفعل الرجل الوحيد الوسيم في الأفلام الأجنبية».



أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة
مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة
TT

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة
مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة، أعلنت «جائزة إدوار الخراط للإبداع الأدبي» حصاد دورتها الأولى. فاز بالجائزة الكاتب الشاب أحمد عبد المنعم رمضان عن مجموعته القصصية «قطط تعوي وكلاب تموء» الصادرة عن «دار الشروق»، والتي تدور في عالم سريالي يتقاسم فيه البشر والحيوانات الأدوار في اللعب مع واقعهم المكاني والمتخيل، في أرجاء العاصمة المصرية التي تعاني من تخمة الزحام المستمر.

أقيمت الاحتفالية بمقر «مكتبة الخراط» التذكارية المجاورة للمتحف المصري وميدان التحرير بالقاهرة الثلاثاء الماضي، وشهدت حضوراً كبيراً من الأدباء والشعراء والمثقفين والصحافيين، وقدمها الكاتب الإعلامي خالد منصور.

في البداية تحدث الدكتور إيهاب الخراط عن المكتبة وعن نشاطها في المرحلة المقبلة، وما تطمح إليه من تقديم خدمة ثقافية متميزة حيث تقيم ندوة شهرية، وستناقش في الفترة المقبلة المجموعات القصصية الخمس التي وصلت للقائمة القصيرة.

ملصق الاحتفالية

واستعرضت الدكتورة مي التلمساني، رئيسة مجلس الأمناء، عمل المجلس ودوره في إرساء دعائم قوية للجائزة باختيار التيمة الأدبية التي تنطوي تحت مظلتها، وتمثل ملامحها الخاصة التي تميزها عن باقي خريطة الجوائز الأدبية، وفي الوقت نفسه تشكل ترجمة حقيقية لدعوة إدوار الخراط الدائمة نحو كتابة مغايرة ومغامرة، تنهل من نبع الحساسية الجديدة، أو كما سمّاها في مقولته الرائدة: «الكتابة عبر النوعية». وتم اختيار لجنة التحكيم لهذه الدورة من: الدكتور خيري دومة، أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب بجامعة القاهرة (رئيساً)، وعضوية: الكاتب كمال الرياحي (من تونس)، والكاتبين الروائيين ميرال الطحاوي، وياسر عبد اللطيف.

إدوار الخراط

وثمّن الدكتور خيري دومة عمل مجلس الأمناء، وقال إنه أحسن صنعاً بفتح أبواب الأدب جميعاً أمام المتقدمين، لافتاً إلى أن «اللجنة تلقت نحو 50 عملاً، واخترنا منها خمسة أعمال تميزت بأن لها صوتاً خاصاً، وتشكل عبر مقومات السرد المتنوعة في قصصها متواليات بينها رابط فني».

وبالإضافة إلى المجموعة القصصية الفائزة، ضمت القائمة القصيرة الأعمال الأدبية: «خدعة هيمنجواي» لأحمد مجدي همام (قصص، 2024)، ورواية «حبة بازلاء تنبت في كفي» (2024) لدعاء إبراهيم، والمجموعة القصصية الصادرة في 2023 «الليلة الأولى من دونك» لأريج جمال، و«ثقوب» (قصص، 2024) لهويدا أبو سمك.

يرعى الجائزة أسرة الكاتب الراحل إدوار الخراط ممثلة في نجليه الدكتور إيهاب الخراط أستاذ الطب النفسي والفنان أيمن الخراط... كما تحظى برعاية اتحاد كتّاب أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية

وفي تقليد جديد يرسخ للجائزة ويضفي جواً من الحميمية والمصداقية على عملها، أقيمت بالاحتفالية أمسية قصصية رائعة، حيث قرأ كتّاب القائمة الخمسة نماذج من أعمالهم التي وصلت للقائمة القصيرة، وتجاوب معها الجمهور بحماس بالغ ومحبة خالصة.

يرعى الجائزة أسرة الكاتب الراحل إدوار الخراط ممثلة في نجليه الدكتور إيهاب الخراط أستاذ الطب النفسي، والفنان أيمن الخراط، كما تحظى برعاية اتحاد كتّاب أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، تقديراً لدور إدوار الخراط في نشأته وأنشطته. وتبلغ قيمة الجائزة المالية (50) ألف جنيه مصري تُعطَى للفائز بها، إضافة لشهادات تقدير للأعمال التي وصلت للقائمة القصيرة. وتُمنح لعمل أدبي منشور تتوافر فيه شروط الابتكار الخلاق على مستوى الشكل والمضمون، ويسعى لتجاوز محددات النوع الأدبي، وينفتح على تيارات الكتابة العابرة للنوع. وقررت لجنة أمناء الجائزة أن تُمنح في الدورة الأولى لكاتب أو كاتبة من مصر، تليها في العام المقبل دورة عربية، وهكذا بالتناوب.