لماذا نقرأ للقدماء؟

العلم في ميزان الأخلاق

 أرسطو
أرسطو
TT

لماذا نقرأ للقدماء؟

 أرسطو
أرسطو

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم، خصوصاً ونحن نراه يتبنى قيماً تخالف القيم الإنسانية التي تواضع الناس في زماننا على مجافاة ما يخالفها. ما لم تشر إليه كالارد هو أننا نعلم أن الثورة العلمية التي بدأت مع كوبرنيكوس (1473 – 1543) وانتهت بإسحاق نيوتن (1642 – 1727) قد دمرت علوم أرسطو، سواء على صعيد النظريات التي قال بها، أم على صعيد المنهج الذي اتبعه، فقد أسس غاليليو غاليلي المنهج التجريبي الذي نسف إدخال التأمل في دراسة الطبيعة. وغاليليو هو من قام باكتشاف أقمار المشتري التي تدور حوله فأسقط نظام أرسطو والبطالمة عن مركزية الأرض، وهو من اكتشف بمقرابه الذي صنعه بنفسه النمش على وجه الشمس (العواصف المغناطيسية) فأبطل نظرية كمال الشمس والأفلاك. ثم جاء قانون الجاذبية النيوتوني فألغى نظرية أرسطو عن المحرك الذي لا يتحرك. ما الذي بقي؟ الأخلاق.

لا يقف اختلافنا معه عند العلم، بل ينتقل إلى مستوى الأخلاق، حين نجده لا يكتفي بالتغاضي عن جرائم العبودية، ويدافع عنها، بل يراها مفيدة لاقتصاد الدولة وللمُستعبَد نفسه، على حد سواء. من وجهة نظره، هناك بشر لا يُحسنون التكسب ولا أن يستفيدوا في حياتهم، وبالتالي فالأفضل لهم أن يكونوا مجرد أدوات بأيدي غيرهم. ولا تقف معاداة أرسطو لليبرالية عند هذا الحد، بل يقرر في مواضع كثيرة من كتبه أن المرأة غير قادرة على اتخاذ القرار السلطوي، وبالتالي لا يجوز تمكينها من السلطة سوى سلطتها في بيتها. وتمتد عنصرية أرسطو وطبقيته إلى حرمان من يعمل بيده من حق المواطنة، كما أنه يحرمه من حق التعليم، في نسخته من المدينة الفاضلة. وفي موضع من كتاب «الأخلاق» يقرر أن قبيح الصورة لا يستحق السعادة ولا المعرفة، ويمكن القول بأنه قام بالتأسيس للأخلاق الأرستقراطية، فقد قرر أن المواعظ الأخلاقية لن تُفيد المستمعين، إلا إذا كانت نفوسهم في أصلها نبيلة وكريمة وشريفة، يقصد بذلك أن خطابه موجه فقط لطبقة الأرستقراطيين والنبلاء وعِلية المجتمع، أما بسطاء الناس وسوقتهم، فليسوا بداخلين في هذه المعادلة، ولن يصلوا إلى الفضيلة –بحسب أرسطو– مهما سمعوا من المواعظ الأخلاقية. «كل من كان خسيس النسب أو شديد القبح فهو محروم من الوصول للسعادة الكاملة». أما إذا حاول هؤلاء أن يتجاوزوا حدودهم وأن يسْموا على ما هم فيه، كمحاولة الفقير أن يكون كريماً جواداً وهو لا يملك ما ينفقه، فهذا في حكم أرسطو: «غبي وأحمق». إذن، فالأخلاق والفضائل عند أرسطو طبقية ولا تليق إلا بمن يقدرون عليها ممن لديهم رغبة في استثمار مكانتهم الاجتماعية واستغلالها جيداً.

عندما نفتش في نصوص الفلاسفة فسنجد أن أرسطو لم يكن وحده، فهيراقليطس كان يحتقر عموم الناس، وصدرت عن هيوم وكانط عبارات عنصرية ضد السود، وفريجه، صاحب المنعطف اللغوي، صدرت عنه عبارات صُنفت على أنها مضادة للسامية. لكن عنصرية أرسطو أسوأ وأوسع دائرة، فهو ضد كل من ليس بإغريقي. في عنصرية تشبه موقف ديكارت من الحيوانات التي يصفها بأنها آلية وبلا روح ولا وعي. ولهذا كان تلاميذه يطاردون الكلاب في شوارع باريس ويضربونها بالعصي لكي يثبتوا أنها لا تشعر، كما قال الأستاذ.

لكن ما هو موقفنا نحن من هذا؟ هل نتجاهل مثل هذه الهفوات ونركز اهتمامنا على الأفكار العظيمة التي أدلوا بها في مواضع أخرى؟ أم أن هذه العنصرية هي جزء لا يتجزأ من فلسفاتهم؟ هذا هو السؤال الذي حاولت كالارد الإجابة عنه.

عندما نفتش في نصوص الفلاسفة فسنجد أن أرسطو لم يكن وحده، فهيراقليطس كان يحتقر عموم الناس، وصدرت عن هيوم وكانط عبارات عنصرية ضد السود، وفريجه، صاحب المنعطف اللغوي، صدرت عنه عبارات صُنفت على أنها مضادة للسامية.

في الواقع، هناك من يمكن فصل هفواتهم عن فلسفاتهم من مثل هيوم وكانط وفريجه، ويمكننا أن نعتبرها فلتات لسان أو مفردات مخزونات رشحت عن ثقافة وتربية أهل ذلك العصر. وهناك من لا يمكن فصل فلسفتهم عن أحكامهم الجائرة، ومن هؤلاء أرسطو، فكل فلسفته قائمة على عدم المساواة. مكانة الإنسان تكتسب مع النشأة، وبالتالي فلا فضيلة للنساء ولا للعمال ولا للأجانب من غير الإغريق، فكل من ليس بإغريقي بربري، كل هؤلاء ليس لهم حق في المطالبة بالاحترام. إنه لا يؤمن بمفهوم الكرامة الإنسانية الذي بُنيت عليه حقوق الإنسان، بل كل ما يتعلق بحقوق الإنسان لا يتفق مع فلسفة أرسطو.

ما فات الأستاذة كالارد أن تشير إليه هو أن هذه النظرة الأرسطية المتعالية هي أحد الأسباب المهمة لنشوء المركزية الأوروبية، وهي تلك النظرية التي تحدو بها العيس إلى الغرب باعتباره مركزاً للأحداث العالمية أو متفوقاً على جميع الثقافات الأخرى. صحيح أنه من المحبب إلى النفس أن نكون قادرين على أن نؤيد إمكانية الخلاف الجذري حول الأسئلة الأكثر جوهرية، لكن هذا لن يمنعنا من رصد الأخطاء الشنيعة في تاريخ الفكر وتفكيكها لكيلا تعود مرة ثانية. ورغم أن قسماً كبيراً مما دونه أرسطو قد ثبت أنه غير صحيح، وأن الأخلاق التي دعا إليها تنطوي على ما لا يطاق؛ فإنه ما زالت أقسام الفلسفة في جامعات العالم تُدرس أخلاق أرسطو كجزء من مناهج الفلسفة. لا يمكن أن يطالب متعلم بمحاربة أرسطو أو منع كتبه أو عدم طباعتها، فهو اسم في غاية الأهمية في تاريخ الفكر ومحطة جوهرية في رحلة الروح، وهذا الاسم قد وقع اليوم تجاوزه، لكنه علامة مهمة لكي نفهم كيف وصلنا إلى محطتنا الحالية.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق مسلسل «مئة عام من العزلة» يعيد إحياء تحفة غابرييل غارسيا ماركيز الأدبيّة (نتفلكس - أ.ب)

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون هوشنك أوسي

العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

في يومها العالمي الذي يوافق 18 ديسمبر من كل عام، لا تبدو اللغة العربية في أفضل حالاتها، سواء من حيث الانتشار والتأثير أو الاهتمام داخل المؤسسات التعليمية.

رشا أحمد (القاهرة)

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة
مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة
TT

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة
مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة، أعلنت «جائزة إدوار الخراط للإبداع الأدبي» حصاد دورتها الأولى. فاز بالجائزة الكاتب الشاب أحمد عبد المنعم رمضان عن مجموعته القصصية «قطط تعوي وكلاب تموء» الصادرة عن «دار الشروق»، والتي تدور في عالم سريالي يتقاسم فيه البشر والحيوانات الأدوار في اللعب مع واقعهم المكاني والمتخيل، في أرجاء العاصمة المصرية التي تعاني من تخمة الزحام المستمر.

أقيمت الاحتفالية بمقر «مكتبة الخراط» التذكارية المجاورة للمتحف المصري وميدان التحرير بالقاهرة الثلاثاء الماضي، وشهدت حضوراً كبيراً من الأدباء والشعراء والمثقفين والصحافيين، وقدمها الكاتب الإعلامي خالد منصور.

في البداية تحدث الدكتور إيهاب الخراط عن المكتبة وعن نشاطها في المرحلة المقبلة، وما تطمح إليه من تقديم خدمة ثقافية متميزة حيث تقيم ندوة شهرية، وستناقش في الفترة المقبلة المجموعات القصصية الخمس التي وصلت للقائمة القصيرة.

ملصق الاحتفالية

واستعرضت الدكتورة مي التلمساني، رئيسة مجلس الأمناء، عمل المجلس ودوره في إرساء دعائم قوية للجائزة باختيار التيمة الأدبية التي تنطوي تحت مظلتها، وتمثل ملامحها الخاصة التي تميزها عن باقي خريطة الجوائز الأدبية، وفي الوقت نفسه تشكل ترجمة حقيقية لدعوة إدوار الخراط الدائمة نحو كتابة مغايرة ومغامرة، تنهل من نبع الحساسية الجديدة، أو كما سمّاها في مقولته الرائدة: «الكتابة عبر النوعية». وتم اختيار لجنة التحكيم لهذه الدورة من: الدكتور خيري دومة، أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب بجامعة القاهرة (رئيساً)، وعضوية: الكاتب كمال الرياحي (من تونس)، والكاتبين الروائيين ميرال الطحاوي، وياسر عبد اللطيف.

إدوار الخراط

وثمّن الدكتور خيري دومة عمل مجلس الأمناء، وقال إنه أحسن صنعاً بفتح أبواب الأدب جميعاً أمام المتقدمين، لافتاً إلى أن «اللجنة تلقت نحو 50 عملاً، واخترنا منها خمسة أعمال تميزت بأن لها صوتاً خاصاً، وتشكل عبر مقومات السرد المتنوعة في قصصها متواليات بينها رابط فني».

وبالإضافة إلى المجموعة القصصية الفائزة، ضمت القائمة القصيرة الأعمال الأدبية: «خدعة هيمنجواي» لأحمد مجدي همام (قصص، 2024)، ورواية «حبة بازلاء تنبت في كفي» (2024) لدعاء إبراهيم، والمجموعة القصصية الصادرة في 2023 «الليلة الأولى من دونك» لأريج جمال، و«ثقوب» (قصص، 2024) لهويدا أبو سمك.

يرعى الجائزة أسرة الكاتب الراحل إدوار الخراط ممثلة في نجليه الدكتور إيهاب الخراط أستاذ الطب النفسي والفنان أيمن الخراط... كما تحظى برعاية اتحاد كتّاب أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية

وفي تقليد جديد يرسخ للجائزة ويضفي جواً من الحميمية والمصداقية على عملها، أقيمت بالاحتفالية أمسية قصصية رائعة، حيث قرأ كتّاب القائمة الخمسة نماذج من أعمالهم التي وصلت للقائمة القصيرة، وتجاوب معها الجمهور بحماس بالغ ومحبة خالصة.

يرعى الجائزة أسرة الكاتب الراحل إدوار الخراط ممثلة في نجليه الدكتور إيهاب الخراط أستاذ الطب النفسي، والفنان أيمن الخراط، كما تحظى برعاية اتحاد كتّاب أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، تقديراً لدور إدوار الخراط في نشأته وأنشطته. وتبلغ قيمة الجائزة المالية (50) ألف جنيه مصري تُعطَى للفائز بها، إضافة لشهادات تقدير للأعمال التي وصلت للقائمة القصيرة. وتُمنح لعمل أدبي منشور تتوافر فيه شروط الابتكار الخلاق على مستوى الشكل والمضمون، ويسعى لتجاوز محددات النوع الأدبي، وينفتح على تيارات الكتابة العابرة للنوع. وقررت لجنة أمناء الجائزة أن تُمنح في الدورة الأولى لكاتب أو كاتبة من مصر، تليها في العام المقبل دورة عربية، وهكذا بالتناوب.