«البابطين الثقافية» بدأت بحلم... يتلمس خطى «المأمون»

أكاديميون ومفكرون عرب يتحدثون عن المشروع الشعري والثقافي

خُصصت الدورة الـ19 لمؤسسة «البابطين الثقافية» لمناقشة المشروع الثقافي لرجل الأعمال والشاعر الراحل عبد العزيز سعود البابطين (الشرق الأوسط)
خُصصت الدورة الـ19 لمؤسسة «البابطين الثقافية» لمناقشة المشروع الثقافي لرجل الأعمال والشاعر الراحل عبد العزيز سعود البابطين (الشرق الأوسط)
TT

«البابطين الثقافية» بدأت بحلم... يتلمس خطى «المأمون»

خُصصت الدورة الـ19 لمؤسسة «البابطين الثقافية» لمناقشة المشروع الثقافي لرجل الأعمال والشاعر الراحل عبد العزيز سعود البابطين (الشرق الأوسط)
خُصصت الدورة الـ19 لمؤسسة «البابطين الثقافية» لمناقشة المشروع الثقافي لرجل الأعمال والشاعر الراحل عبد العزيز سعود البابطين (الشرق الأوسط)

في حديث مشبع بالذكريات، تحدث الكاتب المسرحي الكويتي عبد العزيز السريّع، أول أمين عام لمؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية، عن بداية نشأة هذه المؤسسة التي أصبحت اليوم واحدة من أهم الحواضن الثقافية في العالم العربي.

حديث السريّع جاء ضمن أعمال الدورة التاسعة عشرة لمؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية للإبداع الشعري، التي خصصت أعمال هذه الدور لسيرة مؤسسها الراحل الشاعر عبد العزيز سعود البابطين، الذي رحل منتصف ديسمبر (كانون الأول) الماضي. حيث تُخصِّص هذه الدورة جلسةً للشهادات، وأربع ندوات لمناقشة المشروع الثقافي لرجل الأعمال والشاعر الراحل عبد العزيز سعود البابطين، الذي يُعدُّ صرحاً للأدب والشعر، وحاضناً للإبداع الشعري العربي، ورائداً في مسيرة الحوار بين الثقافات والحضارات، وفاعلاً مهماً لترسيخ ثقافة السلام في جميع أنحاء العالم، ورجل الأعمال الذي سخَّر جزءاً كبيراً من ثروته لرعاية الأدباء وإقامة الأنشطة الثقافة والمواسم الثقافية في العالم العربي ودول أوروبا والعالم.

بدأ الراحل البابطين مشروعه الثقافي الكبير بحلم تحقق بإنشاء مؤسسة «عبد العزيز البابطين للإبداع الشعري» عام 1989 (الشرق الأوسط)

المأمون ودار الحكمة

وفي جلسة بعنوان «عبد العزيز البابطين... رؤى وشهادات» شارك فيها كل من: الكاتب الكويتي عبد العزيز السريع، والباحث الجزائري الدكتور طاهر حجار، والأكاديمي المغربي الدكتور عمر المراكشي، وأدار الندوة الأكاديمي العراقي الدكتور عبد الله إبراهيم. تحدث السريع عن بدايات تأسيس مشروع البابطين الثقافي، كما تحدث حجار عن رؤية الراحل في تأسيس مشروع يقتبس من تجربة المأمون العباسي حين أنشأ «دار الحكمة» ودعا المتنفذين وأهل الجاه والمال لدعم العلماء والمتخصصين والباحثين وطلبة العلم، فكانت النواة لنهضة علمية امتدت مئات السنين.

بدأ المشروع الكبير عام 1989، بحلم عبَّر عنه الراحل بقوله: «كان لديّ حلم أن أترك بصمة في حياة الشعر العربي، وقد حقق الله هذا الحلم، فأسَّسنا مؤسسة عبد العزيز البابطين للإبداع الشعري عام 1989».

وكانت أولى المبادرات إطلاق مشروع «معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين»، الذي طُبع 3 مرات، وبلغ عدد الشعراء في هذا المعجم 2514 شاعراً، وصدر في نسخة ورقية ونسخة إلكترونية، وإلى جانبه أصدرت المؤسسة «معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين» عام 2008، في «25» مجلداً، إذ ضمَّ نحو 11 ألف شاعرٍ.

كما أصدرت المؤسسة «معجم البابطين لشعراء العربية في عصر الدول والإمارات»، وهو العمل الموسوعي الضخم الذي يرصد حركة الشعر العربي ما بين سنتَي 656 و1215 هجرية (الموافِقة ما بين سنتي 1258 و1800 ميلادية)، عملت عليه مؤسسة البابطين على مدى أكثر من 10 سنوات، بجهود دؤوبة لما يزيد على 100 أستاذ من نخبة الباحثين والدارسين والأكاديميين و500 مندوب، على جمع مواد المعجم من داخل الوطن العربي وخارجه حتى يخرج المعجم إلى النور في 25 مجلداً من القَطع الكبير تشتمل على تراجم ونماذج شعرية لنحو 10 آلاف شاعر.

وتوسّع المشروع ليشمل الأدب والفكر الإنساني وتلاقي الحضارات. حيث أنشأ الراحل مراكز متعددة للحوار الحضاري، مثل: «مركز البابطين لحوار الحضارات» في جامعة قرطبة، و«مركز البابطين للترجمة» في بيروت، و«مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية» في جامعة الإسكندرية، و«مركز الكويت للدراسات العربية والإسلامية» في جامعة الإمام الشافعي بجزر القمر. وأقام دورات في اللغة العربية وعلم العروض، فيما يزيد على 40 جامعة في مختلف الدول العربية والإسلامية. كما أسس كراسي للدراسات العربية في الجامعات الأوروبية.

يعد الراحل عبد العزيز سعود البابطين صرحاً للأدب والشعر وحاضناً للإبداع الشعري العربي ورائداً في مسيرة الحوار بين الثقافات والحضارات (الشرق الأوسط)

الصورة الفنية في شعر البابطين

الندوة الأولى حملت عنوان: «الرؤية وتصورات الموضوع والصورة الفنية في شعر الراحل عبد العزيز سعود البابطين»، تحدث فيها كل من الباحث المصري الدكتور عبد الله التطاوي، نائب رئيس جامعة القاهرة الأسبق، والباحث الأردني الدكتور زياد الزعبي، وأدارت الجلسة الدكتورة نورية الرومي، من الكويت.

في مقدمتها، قالت الرومي: «إن مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين استطاعت منذ تأسيسها أن توحِّد الأدباء والمفكرين والشعراء في حبّ عجز عنه من عجز، لأن الثقافة هي القوة الناعمة التي تُخلصنا من واقعنا المرير، فأصبحت المؤسسة الملاذ السنوي لنا من خلال أنشطتها ودوراتها الشعرية».

الدكتور التطاوي تحدث عن رؤية الشاعر البابطين وموضوعات شعره، وطبيعة موقف الشاعر بين الموروث الفكري والأبعاد المعرفية، وتقاطعات الحركة الإبداعية، ثم تناول تصورات الموضوع في شعره، بدءاً من مفتاح شخصيته البدوية، إلى دائرة الهوية الوطنية والقومية، وصولًا إلى المشتركات الكبرى بين الموروث والمعاصر في تكوين الشاعر البابطين، وانتهاءً بطبيعة النسق الإبداعي والمعرفي لهوية البابطين الشعرية من المنظور الإنساني العام.

أما الدكتور الزعبي، فركّز حديثه على «الصورة الفنية في شعر عبد العزيز سعود البابطين» معتمداً على قراءة لأعماله الشعرية الثلاثة المنشورة: «بوح البوادي»، و«مسافر في القفار»، و«أغنيات الفيافي».

وتناول الزعبي من خلال ورقة بحثه الاستعمال الواسع للغة الاستعارية في شعر عبد العزيز البابطين وهي في الغالب تقوم على الصور التشخيصية التي تمنح الأشياء أو المفاهيم المجردة صفات الكائن الحي، وتجعلها ماثلة للعين، مؤكداً أن هذه سمة راسخة في الدراسات البلاغية بقطع النظر عن اللغة والعصر.

الندوة الثانية حملت عنوان: «النسيج اللغوي وبنية الإيقاع في شعر الراحل عبد العزيز سعود البابطين»، شارك فيها كل من: الباحثة التونسية نور الهدى باديس، والدكتور سالم خدادة (من الكويت)، وأدار الجلسة الأكاديمي السعودي الدكتور معجب العدواني.

تحدثت الدكتورة باديس حول «الظواهر الأسلوبية واللغوية في مدونة عبد العزيز سعود البابطين الشعرية الذي تمسَّك بأصالة الشعر وبديوان العرب؛ لذلك حرص على تتبع جمالياته ومقاييسه الفنية المختلفة، فالمتأصل في داخله هو الشعر العمودي الذي تفخر به الأمة».

وأوضحت باديس: «إن التيمة الحاضنة لمعظم قصائد عبد العزيز البابطين، وهي الرحلة بوصفها تخطِّياً للعوائق والحدود، إنها عبور في الزمان والمكان، فالرحلة تسعى إلى معانقة العبارة الشعرية، لذا وجدنا تقارباً بين رحلة الشاعر في المكان والزمان، ورحلته في فضاء القصيدة، فالمتأمل لمجموع القصائد المرتبطة بالرحلة يجدها تتسم بأسلوب سلس ينفذ إلى القلب والمسامع بيسر».

كذلك تحدث الدكتور سالم خدادة عن «بنية الإيقاع في شعر عبد العزيز سعود البابطين» مقدماً الصورة الفنية حول بنية الإيقاع الشعري من خلال عناصر أربعة، هي: الوزن والقافية والتوازي وشبه التوازي، بالإضافة إلى التناص الإيقاعي.

في الندوة الثالثة التي يرأسها الدكتور عارف الساعدي (العراق)، يتحدث فيها الدكتور أحمد درويش (من مصر) عن: «خدمة اللغة العربية وتفعيل الحركة الشعرية وحفظ تراثها في مشروع عبد العزيز سعود البابطين الثقافي»، والدكتور عبد الرحمن طنكول (المغرب) عن «مشروع عبد العزيز سعود البابطين الفكري في ضوء الدراسات الثقافية وطروحات ما بعد الحداثة».

ويشارك في الندوة الرابعة التي يرأسها الدكتور لانا مامكغ (الأردن)، الكاتب الكويتي الدكتور محمد الرميحي، بورقة بعنوان: «الحوار مع الآخر في مشروع عبد العزيز سعود البابطين الثقافي»، والأكاديمية السعودية الدكتورة منى المالكي بورقة بعنوان: «الاستثمار الثقافي في تجربة عبد العزيز سعود البابطين».



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي