كيف تواجه الرواية تحوّلات العالم؟

مع استمرار تطوّر التكنولوجيا وتغير أذواق القرّاء وأمزجتهم

كيف تواجه الرواية تحوّلات العالم؟
TT

كيف تواجه الرواية تحوّلات العالم؟

كيف تواجه الرواية تحوّلات العالم؟

هل يمكن للرواية أن تصمد في وجه الزحف الرقميّ والتحوّلات السريعة التي تشهدها البشريّة؟ كيف يمكن لفنّ عريق مثل الرواية أن يتعامل مع تقنيات الذكاء الاصطناعيّ والأدوات الرقمية الحديثة التي تُعيد تشكيل طرق الكتابة والتواصل؟ هل ستتحوّل الرواية إلى شكل جديد من السرد التفاعليّ أم أنّها ستبقى وفية لجذورها العميقة في تأمّل الواقع الإنسانيّ؟ ما مصير الأدب الروائيّ في زمن تسيطر فيه السرعة على مختلف نواحي الحياة؟ هل يمكن أن تستمرّ الرواية كأداة للمقاومة ضدّ تسطيح المفاهيم والوجود الإنسانيّ؟

في رواية «فهرنهايت 451» يرسم الأميركيّ راي برادبري، صورة قاتمة لمستقبلٍ تتحوّل فيه الكتب إلى رماد؛ حيث يتنبأ بمصير كارثي ينتظر الكتاب والثقافة المكتوبة. الرواية، التي تحمل عنوان درجة حرارة احتراق الورق، تُظهر عالماً تُحرَق فيه الكتب عمداً وتُمنع القراءة لأنّ السلطات ترى فيها تهديداً للنظام الاجتماعيّ. ويحذّر برادبري من مجتمع يتحوّل إلى آلة استهلاكية تفرغ العقول من الأفكار النقدية، ويجعل من المعرفة عدوّاً يطارَد ويُدمَّر. ويسلّط الضوء على خطر الزحف الرقمي وإمكانية فقدان الإنسان صلته بالكتاب، كوسيلة للتعلّم، وكنافذة تعبر إلى عمق الفكر الإنسانيّ.

ويبدو تحذير برادبري الديستوبيّ المستقبليّ أكثر أهمّية اليوم مع التقدّم التكنولوجيّ الهائل وسيطرة الشاشات الرقمية على حياتنا اليومية. والسؤال الذي يراود بعضنا اليوم حول مستقبل الرواية هو: هل سيأتي يوم نرى فيه الكتب تُباد مرة أخرى، ليس بالنار، بل بالنسيان واللامبالاة التي قد تجلبها التقنية؟

لا يخفى أنّ الحديث عن مستقبل الرواية في العالم يستدعي تأمّلاً في مصيرها بين موجات التحوّل الثقافيّ والتكنولوجيّ السريع الذي يغزو العالم في كلّ لحظة. فالرواية ليست بمنأى عن هذا التغيّر الذي يُعيد تشكيل طرق التواصل والكتابة وحتّى القراءة.

هنالك عدّة سيناريوهات يمكن الحديث عنها أو توقّعها في هذا السياق، أحدها أنّ الرواية تذوب في العالم الرقميّ. وهنا نتصوّر أنّ الأدب الروائيّ، بمفهومه التقليديّ، سيتحوّل إلى شكل جديد من السرد التفاعليّ الرقميّ. ذلك أنّه مع انتشار أدوات الذكاء الاصطناعيّ التي تمكّن المستخدمين من الانغماس في النصوص بطرق غير مسبوقة، يمكن أن يتلاشى شكل الرواية الورقية. في هذا العالم المستقبليّ، قد تصبح الرواية شكلاً من أشكال التفاعل بين القارئ والنصّ في واقع معزّز أو افتراضيّ، حيث تكون كلّ قراءة تجربة جديدة، وكلّ قارئ شريكاً في بناء النصّ من خلال اختياراته وتفاعلاته مع الأحداث والشخصيّات.

لكن هل يمكن أن يغني هذا الشكل التفاعليّ عن الرواية التقليدية؟ يصعب تصوّر أنّ الرواية بكلّ ما تحمله من عمق وتأمّلات فلسفيّة وإنسانيّة قد تتحوّل إلى صيغة «تجربة» تفاعلية؛ لأنّها، في جوهرها، تُمثل خصوصيّة فرديّة لا يمكن تجاوزها من خلال التقنيات والمعادلات الرقميّة. ربما تستطيع الرواية أن تستخدم هذه الأدوات في تقديم نفسها بطرق مبتكرة، لكن تذويبها تماماً في العالم الرقميّ يبدو أمراً مشكوكاً في استمراريته.

السيناريو الثاني الذي يمكن الحديث عنه هو توصيف الرواية كقناة للتعبير عن التحوّلات؛ حيث لا تختفي بشكلها المعهود، بل تشهد تحوّلات عميقة تتماشى مع التغيّرات المجتمعية والرقميّة. ومع تعقّد العالم وتشابك قضاياه، قد نجد الرواية تتحوّل إلى وسيلة لفهم هذا الواقع المعقّد والتأمّل فيه أكثر لاستبطان العالم والغوص في عمق النفس البشريّة التي تبقى قارّة مجهولة ناضحة بالألغاز.

لكن هذه الرواية قد تأخذ أشكالاً جديدة. قد تتقلّص أحجامها لتلائم زمناً يسيطر فيه القلق والتسارع، وربما تجد القارئ يبحث عن قصص أكثر تكثيفاً وعمقاً. وربما يكون التوجّه نحو الروايات التي تتناول مواضيع معاصرة بسرعة أكبر من أي وقت مضى؛ حيث يتحوّل الكاتب إلى شاهد على عصره بشكل مختلف، مستلهماً الواقع المتغيّر باستمرار.

وهناك سيناريو مختلف؛ حيث تبرز الرواية فيه كأداة مقاومة أمام طوفان التكنولوجيا وتسطيح المفاهيم. وهنا يمكن أن نشهد موجة من العودة إلى الكتابة التقليدية، مع تصاعد الأصوات التي تدعو إلى العودة إلى الأصل... إلى الرواية بوصفها فنّاً يحفظ التجربة الإنسانية العميقة من التفكّك والانهيار. في هذا التصوّر، قد تجد الرواية مساحة أوسع للتأمّل والبحث عن المعنى، بعيداً عن ضجيج التكنولوجيا التي تسعى إلى اختزال الحياة في معادلات رقمية.

هذه الرواية قد تظلّ عصيّة على الاستيعاب في عوالم الذكاء الاصطناعيّ؛ لأنّها تعتمد على التأمّل الفلسفيّ والعمق العاطفيّ والخصوصيّة الفرديّة، وهو ما قد تعجز التقنية عن محاكاته بشكل حقيقيّ. هذه الرواية قد تكون نوعاً من الفنّ الذي يصمد أمام المتغيّرات؛ لأنها تُقدّم تجربة إنسانية متفرّدة لا يمكن استبدالها.

يحلو لي أن أعتقد أنّه من المرجّح أن نشهد مزيجاً من التصوّرين الثاني والثالث. الرواية قد لا تذوب بالكامل في العالم الرقميّ؛ لأنّها تمثّل عمقاً يتجاوز ما تقدّمه التكنولوجيا في كثير من الأحيان. لكن في الوقت نفسه، ستظلّ بحاجة إلى التكيّف مع الزمن والتغيرات التي تطرأ عليه. سيكون على الروائيين إيجاد توازن بين الحفاظ على جوهر هذا الفنّ واستخدام الأدوات الجديدة لتعزيز تجارب القراءة وإثرائها.

قد نرى الرواية تتحوّل إلى وسيلة أكثر تفاعلاً، لكنّها ستظلّ تحتفظ بمساحات من العمق والتأمّل، وستبقى قادرة على تقديم تساؤلات حول مصير الإنسان ومعاناته وآماله. والروائي المعاصر يستخدم أدواته الفنية ليكشف عن الأغوار النفسيّة الخفيّة، ويتعقّب تلك التفاصيل الدقيقة غير المفهومة التي تشكّل جوهر الإنسان الحديث. والتقدم الرقمي يسمح للأدباء بتوسيع مفهوم الرحلة الروائية التي تتعمّق أكثر فأكثر، لتصبح أشبه بمحاولة دائمة لفك شفرات التعقيدات الإنسانية التي تجعل الإنسان ما هو عليه، ولتصبح أكثر قدرة على تتبع التحولات النفسية المحتجبة، لكنها تترك آثارها العميقة على مصائر الشخصيات وأفعالها.

ومع استمرار تطوّر التكنولوجيا وتغير أذواق القرّاء وأمزجتهم، يبقى السؤال الأهمّ: هل ستظلّ الرواية، في أشكالها المتعدّدة، قادرة على أن تحافظ على مكانتها كفنّ قادر على ملامسة جوهر التجربة الإنسانية في عالم يتسارع تغييره بشكل غير مسبوق؟

* روائي وناقد سوري.



«رماية ليلية»... الحرب ومحنة الشخصية

«رماية ليلية»... الحرب ومحنة الشخصية
TT

«رماية ليلية»... الحرب ومحنة الشخصية

«رماية ليلية»... الحرب ومحنة الشخصية

ثمة اشتباك عميق بين سرديات المنفى وسرديات الحرب، وعلى نحوٍ يجعل من مفاهيم مثل الوطن/المكان، والهوية/الوجود، والذاكرة/التاريخ، إزاء مفارقات تأخذ بالكتابة إلى ما يشبه البحث عما يسندها من تعالقات رمزية، ومن أفكار وأصوات وحيوات، وربما من مدنٍ تُفقدها الحرب هويتها، فتُخفي ما فيها من الذاكرة والسيرة والوجود.

رواية الكاتب أحمد الزين «رماية ليلية»، الصادرة عن دار المتوسط- ميلانو- 2024، تأخذنا إلى سرديات الحرب وشخصياتها عبر مقاربة يومياتها المسكونة بالغرائبي والعبثي الغامض والسري؛ إذ تتحوّل صورها عن الموت السردي والفقد إلى حمولات رمزية لفكرة الموت الوطني، مثلما تتحول المواجهة إلى ما يُشبه مشهداً فانتازياً يختلط فيه مأزق الحضور بمأزق الغياب، والحب بالخيانة، والوجود بالتشظي والضياع، فلا هروب منها إلا إليها، لتبدو الشخصية «الأضحوية»، وكأنها الشفرة التي تقود لعبة السرد إلى دلالة التورط في فخاخ هذه المآزق، حيث تفضح الحرب ما تخفيه اللغة، وما يمكن أن تحمله من أقنعة يتوارى خلفها المحاربون والمغامرون ورموز القبائل.

لا تُقدم الرواية عرضاً للمعاناة فحسب، وإنما تفضح ما تصنعه الحرب، عبر أصوات الناجين منها، وهي تتحول إلى صرخات فاضحة عن الخطيئة والفساد والخواء، وعن كسر إيهام الواقع عبر حركة الشخصيات التي تتمرّد على جحيمها الوطني، وعلى منفاها، فيتحول بحثها عن الوجود إلى بحثٍ ضدي عن الذات والهوية والحب والأمكنة، ومساءلة فاجعة للمصائر في اغترابها ومتاهتها، وفي حرب «الأخوة»، فتصطنع عبر تقنية «الفلاش باك» سيرة موازية، تتبأر عندها كثير من المواقف، وكثير من المشاعر الداخلية التي تمور بقلق النفي، والخوف من ذاكرة الحرب، حد أن عتبة العنوان تتحول إلى نص موازٍ يفضح عبثية تلك الحرب، وسردية «المكان صفر» و«الزمن صفر» التي تتوه فيها المسافات بين القاتل والمقتول، والوجوه والبنادق.

العنوان وموجهات السرد

يكشف الدال العنواني عن ترميزٍ لعبثية الحرب، إذ يتقوّض عبره الواقع، ويغترب إزاءه الحدث، فيتحوّل الليل إلى زمن نفسي اضطهادي، تتوه فيها معالم وجودها، فـ«تبدو كل الرؤوس أشباحاً» كما يصفها جاك بريفير، وهو ما يستبطن مدى الضياع الذي تعيشه رؤوس الحرب وضحاياها، عبر شغفها بالتطهير من فظائع الحرب، وعبر بوحها واعترافها السوداوي، وعبثية زمنها، وغموض مصيرها.

شخصيات مأزومة

الجندي المعوق الباحث عن التطهير، والمذيعة «ليلى» وموظفة الفندق «فايزة»، شخصيات تحمل معها أزمات الحرب، فتكشف عن عوقها الوجودي، وعن قلقها وشبقها وعن تشوهها الداخلي، مثلما تكشف شخصية «سلوى» عن محنة قلقها الوجودي والثوري، لتجد نفسها أمام حياة معقّدة وشائهة، تمور بين النفي الداخلي والنفي الخارجي، حتى يبدو هذا النفي جوهر الصراع الذي تعيش تداعياته، وتوقها إلى البحث عن خلاصٍ ما، تتسع رمزيته مع اتساع أزمة وعي هذه الشخصيات المشوه لمحنة الحرب التي لا تنتهي، والتي تحول ليلها الوجودي إلى ليل عابث بالرمي، وبالعتمة التي تتسع للتخيل، فتكون مصائر تلك الشخصيات مرهونة بسرديات يشتبك فيها المخيالي مع الواقعي القاسي، والآيديولوجي مع القبائلي، على نحوٍ تتشظّى معه الهويات والأمكنة، من خلال ما تتعرّض له ملامح وأسماء المدن التي تفقد هويتها، حتى يكون وجودها المأزوم والهش، نظيراً لمتاهة «الوطن» الضائع، فلا يحضر منه في لعبة السرد إلا ما يتساقط عبر التذكر والبوح المونولوجي، وعبر ما ينبجس من خلال حكايات واعترافات شخصياته المفجوعة، تلك التي تعيش أوهامها وانكساراتها وتحولاتها، فيتحول إحساسها بالفقد إلى ثيمة واخزة، وإلى إثمٍ عميق يلاحقها وهي تصطنع سردياتها -اعترافاتها داخل لحظات «الرمي الليلي»، الرمي الذي تعيش معه الشخصيات- الأشباح، إحساساً بالهروب والنفي والخسارات المريعة؛ حيث تفقد معها الجسد والعفة والإحساس بالوجود والأمان.

تفضح ثيمة التحول الذي تعيشه الشخصيات المأزومة والأضحوية عن أزمة الواقع اليمني، وعن أزمة التاريخ، وأزمة الذات، وعلى نحوٍ يجعل من الحرب بؤرة تمثيل فضيحتها الكبرى، بوصفها ملحمة الخراب، وشفرة التغير، ولعنة التقويض الباعثة على تشظية سرائر الكبت الوجودي والجنسي، فكل شيء يتحول تحت إكراه الحرب، وكل شيء يدخل في طقس «الرماية الليلية» التي تطلق العنان للكراهية والالتحام والقتل والانتهاك، وتغويل استعارات المكان والجسد واللغة، لتُصاب بعاهة التحول أيضاً، والتشظي إلى «هويات قاتلة ومقتولة» وإلى «أماكن طاردة ومطرودة» مثلما تتحول الشخصيات أيضاً إلى حيوات مُصابة بهوس تناقضاتها الغرائبية؛ إذ يتوزّع وجودها بين إحساسها بالعار، وإحساسها بقسوة المنفى، وبانفلات الذاكرة وهي تتقشر عن ممنوعها، لتفضح عما يصنعه هذا المنفى من منافٍ عميقة، ومن سيرٍ تضطرب معها عوالم الشخصيات الأخرى التي تفقد تاريخها وقيمها ورهاناتها على استعادة التاريخ الذي تحول إلى ميدان مفتوح للرمي الليلي.

السيرة والسرد والحرب

سردية النص المجاور من أكثر اشتغالات أحمد الزين إثارة للأسئلة؛ إذ يضعنا الروائي أمام لعبة سردية يكون فيها هذا النص هو المُولد لسؤال المنفى، وسؤال الشخصية، وسؤال المكان، وهي أسئلة تظل مفتوحة وفاعلة في صياغة المبنى السردي للنص المجاور، بوصفه نصاً تأليفياً يستند إلى فكرة التعرف على ما تتعرّض له -الشخصيات والأمكنة والهويات- من تغيرات، جراء الحرب، وجراء النفي، بوصفها البراديغمات التي يقترح وجودها الروائي، كاشفاً من خلالها عن محنة «لا انتمائها» وعن رهاب نقائضها، وعن لعبة تمثيلها لسرديات الاستعارة والتعويض والعاهة والفقد، بوصفها دوالاً كاشفة عن أزمات ما تعيشه من تحول فاجع، وعما تتعرّض له من إسقاطات الحرب، فتبدو سيرها وكأنها تمثيل نكوصي لوجودٍ، تعيش تداعياته بنوع من الاعتراف/الرسائل، أو البوح، أو الشعف الجنسي، والإيهام بأن المجال السردي الذي تصنعه تلك الشخصيات هو أكثر إثارة من الواقع نفسه، وباتجاه يجعل من «المبنى السردي» تمثيلاً لمتن سردي يتسع فيه بوح الشخصيات النافرة والناجية من الحرب، وهي شخصيات يمنحها السرد طاقة مونولوجية للتعويض عبر الاعتراف، وعبر استعادة وجودها من خلال رمزية كتابة الرسائل بوصفه طقساً في التطهير، أو من خلال البحث عن عوائل أخرى، كما سعت إليه «ليلى»، أو خلال الجنس والإيهام بسرديات غامضة فيها من التورية والترميز القاسي أكثر من الواقع ويومياته الغائمة.