«الشيخ الأحمر»... عباس بيضون يتقصّى تاريخ لبنان روائياً

«الشيخ الأحمر»... عباس بيضون يتقصّى تاريخ لبنان روائياً
TT
20

«الشيخ الأحمر»... عباس بيضون يتقصّى تاريخ لبنان روائياً

«الشيخ الأحمر»... عباس بيضون يتقصّى تاريخ لبنان روائياً

عن دار «الشروق» بالقاهرة، صدرت للكاتب والشاعر اللبناني عباس بيضون روايته الجديدة «الشيخ الأحمر» التي يعود فيها إلى التاريخ ويستلهم قصة لافتة بلغة سردية متدفقة وحبكة متصاعدة تتسم بالتكثيف وسرعة الإيقاع.

زمن النص هو الحقبة العثمانية، إذ تتكشف سيرة مغايرة لـ«عبد الحسين» الذي ينشأ في قرية بالجنوب اللبناني، ثم يسافر إلى النجف في العراق ليدرس علوم الدين لكنه يولع بالفلسفة، الأمر الذي يكسبه لقب الشيخ والأحمر. كما يولع البطل بالنساء ويتمتع بالكثير منهن، أرامل ومطلقات في الأعم الأغلب، وهو ما كان يُعدُّ في ذلك الوقت تحصيناً لهن وحماية من الزلل.

يعود «الشيخ الأحمر» إلى بلدته ليواصل حياته كداعية دينية على طريقته، وقد تزوج «خديجة» وهي امرأة عراقية وتصحبهما شقيقة زوجته وتدعى «عاصمة»، التي تتحول تدريجياً لتصبح سيدة البيت، لكن رحيل الزوجة يضع العلاقة بين «عبد الحسين» و«عاصمة» على المحك، ويضع كليهما أمام اختبارات معقدة وحساسة.

تستلهم الرواية التاريخ لتلقي العديد من الأسئلة المعاصرة حول طقوس التدين والحرية والحب والخيانة والجسد ليبدو الحاضر وكأنه استمرار للتاريخ، وليبدو الماضي وكأنه لا يغادرنا قط. وهنا تظهر تساؤلات عميقة من نوعية: أين نحن من ذلك كله؟ هل الحاضر هو قفزة من الماضي، أم هو عود مثابر لأصل متجدد؟

يمكن اعتبار الرواية «نوفيلا» أو نصاً قصيرة، إذ تقع في 135 صفحة عبر 23 فصلاً قصيراً، لكن هذا الحجم القصير منح العمل مزايا عدة، منها الابتعاد عن الحشو أو الثرثرة والدخول مباشرة في صلب أزمة الشخصيات، بعيداً عن التمهيد المبالغ فيه.

وعباس بيضون هو شاعر وروائي وصحافي لبناني من مواليد 1945، درس الأدب العربي في جامعة بيروت، وحصل على الماجستير في الأدب من جامعة السوربون بباريس. صدرت له العديد من الروايات، منها «خريف البراءة» التي حصلت جائزة «الشيخ زايد للكتاب»، فرع الآداب، و«علب الرغبة» التي وصلت إلى القائمة الطويلة في الجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر»، كما صدرت له عدة مجموعات شعرية لافتة منها «الموت يأخذ مقاساتنا» التي حازت على «جائزة المتوسط للشعر»، وتُرجمت قصائده إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والإسبانية والكردية.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«بعد تفكير قررت (عاصمة) ألا تتزوج (عبد الحسين)، لقد فكرت كثيراً وأخيراً وصلت إلى رأي: لن تتزوجه رغم أن الشرع يسمح بذلك ورغم أن التقليد يدعمه والعادة تسنده. تعرف (عاصمة) ذلك. مَن حولها انتظرن الزواج وهنأنها قبل أن يظهر شيء لكنها، وحبيبتها (خديجة) وأحباؤها وأولادها، أين يذهب هؤلاء إذا احتلت هي فراش أبيهم وسلبتهم إياه. كيف يمكن أن تدخل وبأي شكل إلى فراش أختها وتستولي على زوجها وكأنها كانت تنتظر ذلك وتتوخاه. لقد عمرت هذه العائلة وبنتها والجميع من (خديجة) إلى (عبد الحسين) إلى الأولاد جميعهم صنعتهم واليوم المطلوب منها أن تخرب بيديها ما سبق أن بنته وعمرته وسهرت عليه. لا بأس أن تتزوج وأن تغادر فليس هذا معيباً، بل هي بدأت تفكر بالرجال الذين فقدوا زوجاتهم بل تحرت عنهم وسألت والنتيجة كانت أن واحداً من هؤلاء لا يستحقها.

لقد توفيت زوجة (محمد رضا) وهي في ربيع العمر وتركت له طفلين، ذكراً وأنثى، ومن ذلك الوقت و(محمد رضا) الذي لم يتزوج احتراماً لذكرى زوجته عكف على تربية ابنيه ونجح في ذلك فابنه الآن في إسطنبول، ضابط في الجيش العثماني وابنته التي سرعان ما وجدت عريساً عمرت بيتاً وبناتها الثلاث هن زينة المدرسة. (محمد رضا) كما فكرت (عاصمة) هو المناسب ولم يكن هو بعيداً عن هذه الفكرة، فهو بمجهوده ورعايته يستحق امرأة مثلها، منذ أن تراءت لها هذه الفكرة تملك الجرأة على أن تتحرش بـ(محمد رضا) حتى إنها دعته وعائلته إلى عشاء في قصر (عبد الحسين)، وأثناء العشاء أبدت كثيراً من الغنج إلى درجة أحرجت (محمد رضا). كانت تقدم اللقمة له قائلة له: مشان ما تضل بعينك، حتى إنها غازلت (محمد رضا) الذي كان فعلاً وسيماً قائلة: شو الطول، نخلة بصحيح الله عهالقامة، أكيد والدتك حبلت فيك وهي بتحلم بالنخل».



العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي

العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي
TT
20

العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي

العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي

إذا كانت نقاط التقاطع بين صخب الحياة العباسية المدينية، وبين بوادي الحجاز التي كانت مأهولة بالحرمان وشظف العيش في العصر الأموي، هي من الندرة بمكان، بحيث يصعب أن نعثر في العصر العباسي الأول على نسخ عذرية مماثلة لمجنون ليلى، وجميل بثينة، وكثيّر عزة. إلا أن ما تقدم لا يعني بالضرورة الغياب التام لحالات التتيم العاطفي وتجارب العشق الصادقة في ذلك العصر. ذلك أن الإشباع الجسدي لا يوقف وجيب القلوب، والحصول على المتعة لا يروي عطش الروح، ولا يوفر للشخص المعني ما يحتاج إليه من الحب والعاطفة الصادقة. وهي الفرضية التي تجد ضالتها المثلى في حالة العباس بن الأحنف، الذي لم تحل حياته المترفة ووسامته الظاهرة، وظرفه المحبب، دون وقوعه في حب «فوز»، المرأة التي شغلته عن كل ما عداها من النساء.

ومع أن الرواة قد اختلفوا حول نشأة العباس ونسبه، حيث ذكر الأصفهاني أنه نشأ في بغداد وينتمي إلى بني حنيفة العرب، وقال الأخفش إنه كان من عرب خراسان، ورأى آخرون أنه نشأ في البصرة ثم وفد إلى بغداد، فقد أجمع المبرّد والصولي والأصمعي على تقريض شعره، ورأى الجاحظ أنه كان شاعراً غزِلاً شريفاً مطبوعاً، وله مذهب حسن ولديباجة شعره رونق وعذوبة، وأنه لم يتجاوز الغزل إلى مديح أو هجاء. لكن اللافت أن الأصفهاني لم يولِ العباس وأخباره الكثير من الاهتمام، ولم يركز إلا على أشعاره الصالحة للغناء، دون أن يأتي على ذكر فوز، أو أيٍّ من معشوقاته الأخريات.

ورغم أن العباس يعرض في ديوانه للكثير من النساء، مثل ظلوم وذلفاء ونرجس ونسرين وسحر وضياء، ومعظمهن من الجواري، فإن فوز هي التي احتلت النصيب الأوفر من شعره الغزلي. ومع ذلك، فقد ظلت هويتها الحقيقية في دائرة الغموض واللبس. وحيث ذهب البعض إلى أنها والجارية ظلوم تسميتان لامرأة واحدة، إلا أن قصائد الشاعر تؤكد أن فوز لم تكن جارية، بل امرأة من الأشراف ذات نسب عريق. وفي مواضع عدة يشير العباس إلى أنه أخفى اسم حبيبته الحقيقي خشية على نفسه وعليها، كما في قوله:

كتمتُ اسمها كتمان من صار عرضةً وحاذر أن يفشو قبيح التسمُّعِ

فسمّيتها فوزاً ولو بحتُ باسمها

لسُمِّيتُ باسمٍ هائل الذكْر أشنعِ

وفي بحثها النقدي الاستقصائي عن العباس بن الأحنف، ترى الكاتبة العراقية عاتكة الخزرجي أن حبيبة الشاعر لم تكن «كائناً متخيلاً، بل امرأة من لحم ودم، وأن ديوانه الشعري كان سيرته وقصة قلبه». إلا أن الخزرجي تذهب إلى أبعد من ذلك، فترجح أن تكون فوز هي الاسم المعدل لعليّة بنت المهدي، أخت هارون الرشيد، وأن العباس أخفى هويتها الحقيقية خوفاً من بطش الخليفة، الذي كان الشاعر أحد جلسائه.

وقد كان يمكن لاجتهاد الخزرجي حول هوية فوز، أن يكون أكثر مطابقة للحقيقة، لو لم يشر الشاعر في غير موضع إلى أن حبيبته قد انتقلت للعيش في الحجاز، في حين أن عليّة، ظلت ملازمة لبغداد ولقصر أخيها الرشيد بالذات. وأياً تكن هوية حبيبة العباس الحقيقية، فقد بدت المسافة الشاسعة التي تفصله عنها، بمثابة النقمة والنعمة في آن واحد. فهي إذ تسببت له بالكثير من الجروح العاطفية والروحية، إلا أنها منحته الفرصة الملائمة لإحالتها إلى خانة الشعر، ولتحويلها نداءً شجياً في صحراء الغربة الموحشة، كقوله فيها:

أزيْنَ نساءِ العالمين أجيبي

دعاء مشوُقٍ بالعراق غريبِ

أيا فوز لو أبصرتِني ما عرفْتني

لطول نحولي دونكم وشحوبي

أقول وداري بالعراق، ودارها

حجازيةٌ في َحرّةٍ وسهوبِ

أزوّار بيت الله مُرّوا بيثربٍ

لحاجة متبولِ الفؤاد كئيبِ

ولو تركنا هذه الأبيات غفلاً من الاسم، لذهب الظن إلى أن ناظمها الفعلي هو جميل بثينة أو مجنون ليلى. وليس من قبيل الصدفة أن ينسب الرواة إلى العباس، ما نُسب قبله إلى المجنون، ومن بينها مقطوعة «أسرْب القطا هل من يعير جناحه؟» المثبتة في ديوانَي الشاعرين. وإذا كان لذلك من دلالة، فهي أن هاجس العباس الأهم، كان يتمثل في إعادة الاعتبار للشعر العذري بوصفه الحلقة المفقودة في الحب العباسي، إضافة إلى أنه أراد في ظل القامات الشاهقة لأبي نواس وأبي تمام وغيرهما، أن يحقق عبر الحب العذري، ما يمنحه هويته الخاصة ويمهد له الطريق إلى الخلود. وهو ما يظهر في قوله إن التجربة التي اختبرها سوف تكون «سنناً للناس»، أو قوله: «وصرنا حديثاً لمن بعدنا، تحدّث عنا القرونُ القرونا».

وإذ يقارب المستشرق الفرنسي جان كلود فاديه في كتابه «الغزل عند العرب»، تجربة العباس من زاوية كونها خروجاً على التجارب الحسية البحتة لمعاصريه، يتوقف ملياً عند حبه لفوز، متسائلاً عما إذا كانت الأخيرة قد وُجدت حقاً، أم أن الشاعر قد ألفها من عنديات توقه للمرأة الكاملة. وإذا كان فاديه قد رأى في فوز المعادل الشرقي لبياتريس، حبيبة دانتي في «الكوميديا الإلهية»، فإن النموذج الغزلي الذي راح العباس ينسج على منواله، هو نموذج عربي بامتياز. وحيث كانت البيئة الحاضنة لشعره خالية من البوادي المقفرة والفقر المدقع، فقد استعاض الشاعر عن الصحراء المحسوسة، بصحراء الحب المستحيل الذي يلمع كالسراب في أقاصي العالم، موفراً له ما يلزمه من بروق المخيلة ومناجم الإلهام.

ومع أن العباس كان يسير عبر قصائده الغزلية والعاطفية، في اتجاه معاكس لنظرائه ومجايليه من الشعراء، فإن من يقرأ ديوانه لا بد أن ينتابه شعور ما، بأنه ليس إزاء شاعر واحد متجانس التجربة والمعجم والأسلوب، بل إزاء نسختين أو أكثر من الشخص إياه. فهناك القصائد الطويلة المترعة بالحسرة والوجد، التي تحتل فوز مكان الصدارة فيها، وهناك بالمقابل النصوص القصيرة ذات المعاني والمفردات المستهلكة، التي يدور معظمها حول مغامرات الشاعر العابرة مع القيان والجواري. إلا أن ما يدعو إلى الاستغراب هو أن يكون بين المنظومات المهداة إلى فوز ما هو متكلف ومستعاد وسطحي، كمثل قوله:

أيا سيدة الناسِ

لقد قطّعت أنفاسي

يلوموني على الحبّ

وما في الحب من باسِ

ألا قد قدُمتْ فوزٌ

فقرَّت عينُ عباسِ

رغم أن العباس يعرض في ديوانه للكثير من النساء، ومعظمهن من الجواري فإن فوز هي التي احتلت النصيب الأوفر من شعره الغزلي

ولعل الأمر يجد تفسيره في كون العباس لم يحصر اسم فوز في المرأة التي محضها قلبه، بل استعاره لغير واحدة من نسائه العابرات. إضافة إلى أن رغبته بأن تصدح بهذا الاسم حناجر المغنين والمغنيات، جعلته يتنازل عن سقف شعريته العالي، لمصلحة النصوص السهلة والصالحة للغناء، خصوصاً أن احتفاء عصره بهذا الفن، لم يكن موازياً لاحتفاء الأمويين به فحسب، بل كان متجاوزاً له بفعل التطور والرخاء واختلاط الشعوب والثقافات.

وعلينا ألا نغفل أيضاً أن النزوع النرجسي للعباس، قد دفعه إلى أن يصيب بقصائده ومقطوعاته أكثر من هدف. فرغبته في أن يحاكي التجربة الفريدة لعمر بن أبي ربيعة، والتي جعلته يكرس بعضاً من النصوص لسرد فتوحاته ومغامراته العاطفية التي يواجه فيها المخاطر ليظفر بامرأته المعشوقة، لم تحل دون رغبته الموازية في التماهي مع تجارب العذريين الكبار، وما يستتبعها من بوح صادق وشفافية مفرطة.

إلا أن المقارنة بين النموذجين الحسي والمتعفف في تجربة الشاعر، لا بد أن تصبح في مصلحة هذا الأخير، حيث يذهب العباس بعيداً في الشغف وحرقة النفس، وفي الأسئلة المتصلة بالحب واللغة والفراق والموت. وهو إذ يحول العناصر والمرئيات مرايا لروحه الظامئة إلى الحب، تتراءى له فوز في كل ما يلوح له من الأشياء وظواهر الطبيعة، حتى إذا أبصر السيل منحدراً من أعالي الهضاب، تذكر أن ثمة في مكان قريب، حبيبة له «مسيلة» للحنين والدموع وآلام الفراق، أنشد قائلاً:

جرى السيلُ فاستبكانيَ السيلُ إذ

جرى وفاضت له من مقلتيّ سروبُ

وما ذاك إلا حيث أيقنتُ أنه

يمرُّ بوادٍ أنتِ منه قريبُ

يكون أجاجاً دونكمْ فإذا انتهى

إليكمْ تلقَّى طيبكمْ فيطيبُ

أيا ساكني شرقيّ دجلةَ كلُّكمْ

إلى النفس من أجل الحبيب حبيبُ