التاريخ هو ما يصوّره الفنانون

كثيراً ما تم استخدام الفن وسيلةً للدعاية السياسية

التاريخ هو ما يصوّره الفنانون
TT

التاريخ هو ما يصوّره الفنانون

التاريخ هو ما يصوّره الفنانون

في لوحة شهيرة للفنان المستشرق يوجين ديلاكروا، صور فيها رجلاً تركياً يستسلم لفارس يوناني، يظهر خضوع الرجل التركي وضعفه مقابل قوة الفارس اليوناني. والذي لا يقرأ التاريخ، ستترسخ عنده هذه الصورة السلبية للترك وضعفهم وقوة اليونان. لكن هل هذه هي الحقيقة؟

إن التعبير عن الأحداث السياسية فنياً كان وسيلة للتأثير ولترسيخ صورة ذهنية معينة وليس بالضرورة تعبيراً صادقاً، فالفن ليس مجرد تعبير عن الواقع، وهذا لا يعني أنه يستخدم لتزييف الواقع! لكن كثيراً ما تم استخدام الفن وسيلةً للدعاية السياسية، ولعل أكثر السياسيين الذين استخدموا الفن بهذه الطريقة هو نابليون بونابرت في اللوحات التي صورت انتصاراته الحربية على الرغم من هزائمه المتكررة. وقد اشتهر نابليون أكثر من غيره من حكام فرنسا؛ لأنه السياسي الأبرز الذي استخدم الفن لتلميع صورته وترسيخه في الذاكرة الجماعية والأحداث التاريخية.

استسلام رجل تركي لفارس يوناني

الفن ليس معركة سياسية أو حربية فقط، بل كذلك وسيلة الأحزاب السياسية للترويج لقيمهم المختلفة، كما في الأحزاب الشيوعية التي استخدمت تيار الواقعية الاشتراكية للترويج للقيم الشيوعية والتأثير على وعي المجتمع ونظرتهم للحياة، عبر التصوير المثالي للحياة تحت الاشتراكية، فمن خلال هذا النوع من التصوير «يتعلم المواطن كيف يكون مواطناً مثالياً». نجد ذلك في الأعمال الأدبية الكبرى كما رواية «الأم» لمكسيم غوركي، أو لوحات الواقعية الاشتراكية التي عبّرت عن طبقتي العمال والمزارعين وإظهار رموز شيوعية كالمطرقة والمنجل باعتبارهما رمزين لهاتين الطبقتين، واللون الأحمر الذي يعبّر عن التضحية والدم. وقد كانت أبرز مواصفات الفن الواقعي الاشتراكي هو كونه واضحاً وقابلاً للفهم وواقعياً في تمثيله، لمخاطبة مختلف أطياف المجتمع، خاصة العمال، وتصويره للحياة اليومية، وخدمته ودعمه لأهداف الحزب والدولة.

الفنّ والدعاية السياسية

إن استخدام الفن وسيلةً للدعاية السياسية كان إحدى الوسائل التي استخدمها اليهود لاكتساب تعاطف العالم، كما نرى في الفن السينمائي الأكثر جماهيرية وانتشاراً حالياً، إضافة لأشكال الفنون الأخرى، كما في متاحف الهولوكوست المتعددة حول العالم التي يبلغ عددها، حسب موقع الأمم المتحدة، 20 متحفاً وموقعاً. وتركز هذه المتاحف على تعريف وتوثيق الإبادة الجماعية التي تعرّض لها اليهود في الحرب العالمية الثانية، وكيف أن كثيراً من اليهود رفضوا العودة لألمانيا أو أوروبا بعدما تعرضوا لجرائم كراهية، فكانت أرض الميعاد - فلسطين - التي يرتبطون بها دينياً، هي الوطن الجديد لهم! وهذه العروض المكثفة والمتسلسلة في المعارض والمتاحف، وإنتاج الأفلام السينمائية، واستخدام الفن في إثارة العواطف، وتشريع احتلال فلسطين؛ كانت إحدى وسائل الدعاية السياسية لليهود، في مقابل ضعف التعبير الفني عند الطرف المقابل في فلسطين. فلا نجد مقابل كثافة الحضور اليهودي عبر الفن في العالم، حضوراً عربياً موازياً عن القضية الفلسطينية، عبر التعبير الفني، والمعارض والمتاحف المعنية بالقضية الفلسطينية التي توجد غالباً في مناطق نزاع مما يجعلها أقل شهرة على الساحة الدولية مقارنة بمتاحف الهولوكوست.

ولعل الفنان الفلسطيني ناجي العلي هو أشهر فنان فلسطيني استخدم الفن للتعبير عن القضية الفلسطينية، من خلال رسومه الكاريكاتورية الناقدة وابتكار شخصية الطفل حنظلة ذي السنوات العشر، الذي لا يكبر، لأنه استثناء كما أنّ فقدان الوطن استثناء. إلا أن فن ناجي العلي قاد لمقتله، دون معرفة من وراء تصفيته؛ هل هي إسرائيل أم القيادات الفلسطينية التي كان ينتقدها! وعلى الرغم من شهرة ناجي العلي في البلاد العربية، حيث كان فنه موجهاً لمخاطبة هذه الشعوب، فإن انتشاره العالمي كان أكثر محدودية، فلم يصل تأثيره إلى مستوى بعض الفنانين العالميين الأكثر انتشاراً وتداولاً.

وفي الأدب كانت رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا» التي صورت ترحيل الفلسطينيين من بيوتهم ودفعهم خارجاً ليحل مكانهم يهود مهاجرون من أوروبا، والعودة بعد 20 عاماً، والحوار مع السكان الجدد يهوداً وعرباً، وتناولت مواضيع الهوية والانتماء وحق العودة والوطن كماضٍ وذكريات والوطن كذلك كمستقبل.

وعلى الرغم من وجود بعض المنتجات الثقافية والفنية العربية التي تعبر عن الصراع العربي - الإسرائيلي وتتناولها، فإن التعبير عن فلسطين فنياً يظل قليلاً وضعيفاً نسبياً عند مقارنته بما تم إنتاجه من قبل الطرف المقابل لهم؛ اليهود.

لقد مرّ في العالم عدد كبير من الإبادات الجماعية وجرائم الكراهية، إلا أن أكثر ما يردد ويروى ومحفوظ تاريخياً ومُعترَف به على نطاق واسع هو إبادة اليهود، وقد ساهم تكثيف التعبير الفني عن هذه الإبادة واستمراريته في رسوخها في الذاكرة الجماعية.

إن أهمية التعبير الفني تتجاوز جماليته أو المتعة التي يوفرها في تذوقه؛ إذ إن للفن دوراً فاعلاً في توثيق الأحداث والقضايا الاجتماعية وتأثيرها على الإنسان. فالفن لا يعكس فقط التعبير الذاتي للفنان وفرديته، بل يعبّر كذلك عن التجارب الجماعية والتحديات التي تواجهه وتواجه المجتمع الذي يعيش فيه ورؤيته الإنسانية والفنية وحساسيته تجاه الأحداث التي يمر بها. إن هذا النوع من التعبير يُسهم في تشكيل الوعي الجماعي وتعزيز فهم العالم بشكل أعمق للقضايا التي يطرحها. كما أن الفن يمثل دوراً في تعزيز النقاشات حول القضايا المختلفة، فهو وسيلة للتغيير أو بشكل أدق التأثير. يقال إن التاريخ هو ما يكتبه المنتصرون، ولكن في كثير من الحالات التاريخ هو ما صوّره الفنانون، بما يبرز دورهم في توثيق الحقائق وإيصال الأصوات المختلفة.

* كاتبة وناقدة سعودية



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.