«الليل الطويل»... أسرار الحس الشعبي عند خيري شلبي

كتاب عن تأثير السيرة الذاتية على أعماله

«الليل الطويل»... أسرار الحس الشعبي عند خيري شلبي
TT

«الليل الطويل»... أسرار الحس الشعبي عند خيري شلبي

«الليل الطويل»... أسرار الحس الشعبي عند خيري شلبي

عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، ضمن سلسلة «كتابات نقدية»، صدر كتاب «الليل الطويل– فقراء الريف المصري في أدب خيري شلبي» كدراسة في سوسيولوجيا الأدب للباحث محمد صلاح غازي تتناول تجربة أحد أبرز أدباء مصر في النصف الثاني من القرن العشرين عبر عدد من الروايات الشهيرة مثل «الوتد»، «الأوباش»، «زهرة الخشخاش»، «وكالة عطية»، «صالح هيصة» والتي تميزت بعبقرية الحكي الذي يخلط الفصاحة بالحس الشعبي.

أولاً: يشير المؤلف إلى ميلاد خيري أحمد علي سعد شلبي عكاشة الشهير باسم «خيري شلبي» في 31 من يناير (كانون الثاني) 1938 بقرية «شباس عمير» بمركز «قلين» محافظة كفر الشيخ، كما رحل عن عالمنا في 9 من سبتمبر (أيلول) 2011.

جده لأبيه هو علي أفندي شلبي، أحد كبار موظفي «الخاصة الخديوية» في عهد الخديو عباس حلمي الثاني وامتلك أرضاً في شباس عمير وله بنات أنجبن له أبناء قرية كاملة هي الشقة. أبوه أحمد علي شلبي كان يعمل موظفاً بهيئة الفنارات بالإسكندرية.

يقول خيري شلبي في سياق الحديث عن جذوره العائلية: «لقد صُورت لعائلتي كما يلي: أب فوق السبعين من عمره، سياسي فاشل وشاعر محبط، عزيز قوم ذل، ينتمي إلى أسرة كبيرة انحسرت عنها الأضواء تماماً وفُتّت ثرواتها على عدد هائل من البشر فلم يكن نصيب الأب منها سوى قطعة أرض بور».

ويضيف: «جرب أبي الزواج مرات فلم يكن يعيش له ولد، فلما أحيل إلى التقاعد رجع إلى القرية بلا زوجة لينعم بشيخوخة هادئة إلا أن الحظ ألقى في طريقه بفتاة شركسية الأصل تبلغ من العمر اثني عشر عاماً. وحين طلبها للزواج على سبيل المزاح وافق أهلها عن طيب خاطر فإذا بهذه الفتاة الصغيرة تعطيه سبعة عشر ابنا وابنة كان ترتيبي الرابع بينهم. وقد تعين على الأب الكهل أن يستأنف الكفاح من جديد، فلم تكن أعوامه السابقة على طولها إلا لعباً خارج الحلبة وغير محسوب، وعليه أن يتشبث بالشباب المضمحل لكي تبقى هذه الأسرة الكبيرة على قيد الحياة».

ويرى الباحث أن سر تميز خيري شلبي في الأدب المصري هو مروره بتجارب حياتية فريدة ونادرة حيث عانى من الفقر، ففي العاشرة من عمره عام 1948 كان تلميذاً في السنة الرابعة بالمدارس الإلزامية وكان قد حفظ جانباً كبيراً من القرآن الكريم في «كُتاب القرية» التي كان يذهب إليه يومياً بعد انتهاء اليوم الدراسي بالمدرسة.

وباستثناء عدد قليل من تلاميذ المدارس، كان خيري ورفاقه جميعاً حفاة من ذوي الجلباب الواحد صيفاً وشتاء لا يفصل بينه وبين لحم البدن أي ملابس أخرى. وكان يزهو على زملائه بشيء واحد فقط وهو أن أباه أدخله المدرسة باختياره ورغبته أما هم فقد جيء لآبائهم بخفراء بالقوة قسراً ليخضعوهم بالقوة لقانون التعليم الإلزامي.

في قرية شلبي، كان يسود قول مأثور «صنعة في اليد أمان من الفقر»، من هنا فعلى أبناء غير الفلاحين وهم قلة أن يتعلموا صنعة يتكسبون منها لذا فقد التحق بحرف عديدة في الإجازات الصيفية فتعلم مبادئ بعضها وأتقن بعضها الآخر مثل النجارة والحدادة والخياطة، والأخيرة أمضى فيها وقتاً طويلاً وكان وهو كاتب معروف يلجأ إليها عند اشتداد الحاجة إلى ما يسد الرمق.

ويحكي خيري شلبي عن تأثره في طفولته بدراما الواقع التي عاشها والده وكيف انقلبت حياته فقراً بعد ثراء، فيشير إلى أن الوالد كان يشرد لساعات طويلة كتمثال فرعوني، مفتوح العينين، جامد الحركة فيثير خياله ويحاول استنتاج ما يمكن أن يفكر فيه طوال هذا الشرود الأسيف. وكان يحاول وهو الطفل الصغير أن يواسيه وأن يلفت نظره بحركات خفيفة الظل، بكلمات ضاحكة، لكي يفرد وجهه ويبتسم.

وعندما يقع بصره على والدته، تلك الفتاة الغريرة التي هرمت على غير أوان، على حد تعبيره، يجدها تجلس في ركن بعيد منكبة على نفسها ودموعها تهطل بغزارة. وكان يعرف بالسليقة أن المشهد المأساوي الذي يحدث في بيتهم بين الحين والآخر قد صار وشيك الحدوث وأن أباه سيثور ويفقد أعصابه وسيقسم بأغلظ الأيمان إنه لا يحتكم على مليم وإنه لو مات اللحظة، وهو أمل طالما تمناه، فلن يجدوا في حوزته ثمن الكفن.

هذه الحياة المؤلمة والممعنة في الخشونة دفعت به إلى العمل مع الفلاحين وعمال التراحيل في جمع القطن وحصد الأرز والقمح وتطهير الترع والمصارف وهو لا يزال طفلاً صغيراً حيث كان يشحنهم المقاول في جرارات تحملهم إلى بلدان بعيدة ليشتغلوا في أراضي الوسية والتفاتيش في تنقية دودة القطن وقد أثمرت هذه التجربة روايتين هما «السنيورة»، و«الأوباش»، وبعض القصص القصيرة.

وتعلم شلبي من هذه التجربة، فضلاً عن الاحتكاك بنماذج لا حصر لها من البشر بكل خبراتها وتجاربها وأحلامها وهمومها، هو أن والده ليس البطل الوحيد في الحياة وأن قصته يمكن تأجيلها أمام هذا الكم الهائل من الروايات الحية والمآسي الإنسانية الفادحة. لقد تضاءلت قصته الشخصية وذابت في قضية كبيرة جداً يشخصها هذا الجمع الهائل من التعساء المطحونين الذين يدفعون عرقهم ودماءهم ونور أبصارهم ثمن الرفاهية لفئات من الناس لا ينالون منهم حتى حسن المعاملة، كما كان يردد دائماً.

تعلم خيري شلبي من النماذج المصنوعة من لحم ودم والتي احتك بها في مرحلة مبكرة للغاية من حياته أسرار الفولكلور المصري كله، من المواويل الحمراء والخضراء والبكائيات إلى أغنيات العمل من حرث وبذر وري وحصاد وأغاني الأفراح والخِطْبة والطهور والمهد والصباحية والحواديت المسلّية الحكيمة، فضلاً عن الغناء الشجي المليء بالمشاعر والعزف على السلامية والناي والأرغول والربابة. وكذلك الألعاب الجماعية الحركية منها والذهنية، فكل محافظات مصر كانت حاضرة في المخيمات أو الأحواش التي تؤويهم سواد الليل والتي تتجسد فيها القيم الإنسانية العظيمة التي توقظها مشاعر الغربة حيث يتحول كل واحد إلى طبيب يداوي جرح الآخر ويواسيه ويعاونه.

وكانت «مندرة» أو مجلس الوالد، بمثابة منتدى ثقافي وسياسي تربى فيها خيري شلبي مبكراً، فبعد أن تمكن من تعلم القراءة والكتابة وهو في مرحلة الطفولة قرأ السير الشعبية عشرات المرات مثل الهلالية وعنترة وذات الهمة وحمزة البهلوان وفيروز شاه وسيف بن ذي يزن وعلي الزيبق والظاهر بيبرس، إضافة إلى الملاحم الشعبية الغنائية التي كان يغنيها المداحون المتجولون. وهو ما انعكس على أعماله الروائية.



قصة قصيرة جداً: المتجولة

قصة قصيرة جداً: المتجولة
TT

قصة قصيرة جداً: المتجولة

قصة قصيرة جداً: المتجولة

امرأة شقراء بعينين عميقتي الزرقة، في الثلاثين من عمرها تقريباً، تدفع عربة طفل وتدور بها في المدينة زائغة العينين مهملة الثياب. على وجهها بقايا جمال غابر، وبكتفين متهدلين أثقلهما هم طويل.

أتذكر أنني رأيتها في اليوم الأول أو الثاني لحلولي في أودفالا السويدية القائمة على منحدر من خليج بحر الشمال الأوروبي كفقمة سمينة وتظل تنتظر صيداً. بعد مدة عرفت أن العربة فارغة، وأن المرأة تكور فرشتها لتبدو وكأن طفلاً نائماً فيها. أتذكر أنني حين سمعت قصتها حزنت وشعرت فجأة بما يشبه الدوار حتى أنني جلست على مصطبة الحديقة لأستريح. هي تجول كل يوم في أرجاء المدينة لا تبقي شارعاً أو زقاقاً إلا وتدخله وعيناها تمسحان الأرصفة والزوايا، تبحث وتستطلع. ثم تدخل حديقة البلدة كأنها تفتش بين أشجارها وسواقيها وصفوف الورد، أحياناً تخرج عن صمتها المطبق وتصدر عنها همهمات وصرخات مكتومة، ثم تقطب بغضب وتلوح بيدها متوعدة شجرة سرو عالية، أو تمثالاً برونزياً على ضفة بركة. فجأة تسترخي ملامحها ويبدو وجهها مشرقاً وقد استعاد جماله وكأنها عثرت على ضالتها. تجلس إلى مصطبة تشعل سيجارة وتهيم نظراتها بعيداً مع سحب الدخان. أحياناً ينبعث منها صوت شجي في أغنية تذكرني بتنويمة الأطفال قديماً عندنا. كم راودني فضول أو نازع عميق لأتجه إليها وأسمع منها لا من الناس حكايتها، ولكن أي قلب عليّ أن أمتلك لأفعل ذلك؟ ثم هل حكايتها لا ترتمي في القلب واضحة كشعاع الشمس؟ أو كحلكة الليل؟ الناس هنا بعضهم يسميها «المتجولة». وكثيرون يسمونها «أم العربة»، بعضهم يقولها بحزن، بعضهم يقولها ضاحكاً. وفي كلا القولين أجدها حالة فظيعة أن تكون امرأة أمَّاً لعربة دون طفل؟ كلما بدا لي أن عربتها أنهكت وتخلعت وحال لون فرشها لما تلقى من ريح ومطر وكثرة سير، أجدها قد استبدلت بها أخرى وفرشاً آخر تحصل عليه من محل الأدوات المستعملة، أو من أمهات يهبن عادة عربات لا يحتجنها وقد كبر أبناؤهن. أحياناً تزوقها وتضع عليها لعب أطفال، وبعض الحلوى. ها قد مر على وجودي في هذه المدينة الغريبة الباردة أكثر من ثلاثين عاماً وأنا أراها كلما نزلت إلى المدينة تدور بعربة الطفل الفارغة. وجهها الشاحب غاب جماله وامتلأ بالتجاعيد وازداد شحوباً وحزناً كما هو وجهي. أكثر من مرة حلمت أنني أدفع معها العربة ونجوب شوارع لم أرها من قبل. لأبحث معها عن هذا الذي لا أعرف ماذا جرى له تماماً. فأستيقظ لاهثاً. لقد كبرنا، كبرنا كثيراً، والطفل الذي هو ليس في العربة لم يكبر، ولن يكبر أبداً، أو ربما بلغ شيخوخته قبلنا في مكان ما، بعيداً أو قريباً.