محمد المكي إبراهيم... شاعر قصيدته الوطن

محمد المكي إبراهيم
محمد المكي إبراهيم
TT

محمد المكي إبراهيم... شاعر قصيدته الوطن

محمد المكي إبراهيم
محمد المكي إبراهيم

فجع السودان في سبتمبر (أيلول) الماضي، برحيل شاعر «أمّتي» محمد المكي إبراهيم. وبرحيله تصدق مرارةُ الفقد، كما وصفها الفقيد في رثائه لأستاذه الشاعر الكبير محمد المهدي المجذوب: «برحيلك ينفصل الجمر عن صندل الشعر»!

تزامن ميلاد إبراهيم الفني مع انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) 1964، بإسقاط السودانيين أول نظام عسكري حكم البلاد... هنا برز الشاعر محمد المكي إبراهيم بقصائد جديدة امتازت بتفرّدها عما سبقها من قصائد شعراء كانوا أسرى لديباجة الشعر العربي في شكله العمودي. نعطي مثالاً للحداثيين داخل إطار عمود الشعر؛ التجاني يوسف بشير، وأحمد محمد صالح، ويوسف مصطفى التني، ومحمد أحمد محجوب، ومحمد عبد القادر كرف، وآخرين.

في تلك الفترة، أصدر محمد المكي إبراهيم ديوان «أمّتي» - باكورة دواوينه الشعرية، وضمّ قصائد مثل «قطار الغرب» - تلك البانوراما التي حملت النفس الملحمي، بمزجها بين أطياف الماضي والحاضر، وحوار التراث مع الحداثة داخل غرف قطارٍ شائخ يتلوى كالثعبان بين عاصمة إقليم كردفان في الغرب، والخرطوم عاصمة البلاد:

ها نحن تركنا عاصمةَ الإقليمِ

دخلْنا وادي الصّبرْ

كلُّ الأشياءِ هنا لا لمعةَ تعلوها

كلُّ الأشياءِ لها ألوانُ القبرْ

الصبرُ... الصبرُ... الصبرْ!

وكتب المكّي «قطار الغرب» وهو طالب بمدرسة خورطقت الثانوية. وعلى الرغم من جودة هذه القصيدة لشاب في ذاك العمر الباكر، فإنّ «الأكتوبريات» وما تلتها من قصائد كانت خطواتٍ متقدّمة في بناء الصورة وتركيب الجملة الشعرية. ويبدو ذلك جلياً في خاتمة قصيدته «إصبع في الشمس»:

لأنّ بنا مداراتِ الشموسِ

بوعينا تحيا خلايا الدهر والأشياءْ

لأنّ تنصُّلاً خلف وجودِنا الواعي

يفجّر عبر وجداناتنا نبْعَ الحياةِ ومجدَها الأبدي

بهذا الوعي أقبلُ ما بأيديكم

وأنذرُ أن أعيشَ مع وضدّ وداخلَ الآخر!

في ديوانه «أمتي» نرى توق الشاعر للوعي والحرية. فقد اكتظّ قاموسه الشعري بمفردات تفصح عن خروجه من النمطي والمألوف، مثل أن يشتقَّ من الاسم فعلاً: «تيَنْبع الجفاف»، و«تشيّأتُ دهراً»، أو أن يقدم اعتذاره عن سنوات النزق والتمرّد التي هجر فيها دراسة القانون لعام كامل أو أكثر، متسكعاً وعاملاً في ألمانيا ومعه صديق عمره الشاعر النور عثمان ابكر. كتب في هذه الفترة أكثر قصائده توجعاً على أمته التي تلهث في ذيل قطار التمديُن. نرى ذلك في رسائله الشعرية لشقيقته آمنة إبراهيم «أمان»، وفي قصيدته «الشرف الجديدة»، التي يقدّم فيها اعتذاره عن رحلة البحث والاستكشاف في العالم الجديد بعيداً عنهم:

سأعود لا إبلاً وسقْتُ ولا بكفيّ الحصيد روائعا

مدّوا بساط الحبِّ واغتفروا الذنوبَ

وباركوا هذي الشهور الضائعهْ

ما زال سقفُ أبي يظِلُّ ولم تزلْ أحضانُ أمّي

رحبةَ المثوَى مطيّبةَ الجنابْ!

إن القارئ لأشعار المكي في مرحلة النضج يلمس الفارق في المفردة والصور الشعرية... بل والتحوّل الكبير في تناول موضوعاته، واعتداده بهويته التي برز باكراً في طرح تيار «الغابة والصحراء» الذي تصدّره صديقه الشاعر النور عثمان ابكر، والذي يرى أنّ هوية الأمة السودانية هي المزيج بين العروبة والأفريقانية - بين صحراء العرب وغابات أفريقيا:

اسمك الظافرُ ينمو في ضمير الشعبِ

إيماناً وبُشْرى

وعلى الغابةِ والصحراءِ يمتد وشاحا

وبأيدينا توّهجْتَ ضياءً وسلاحا

إن قصائد المكي في مرحلة النضج هذه، خصوصاً في مجموعاته: «بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت»، و«يختبئ البستان في الوردة»، و«لا خِباء للعامريّة» تمزجُ الفكرةُ بالحلم، في غنائية عذبة وبعيدة عن هتافية الشباب:

يا وردةً باللّونِ مسقيّهْ

يا مجدولةً من شعر أغنيّهْ

يا مملوءة الساقيْنِ أطفالاً خلاسيين

يا بعضَ عربيهْ

وبعضَ زنجيّهْ

وبعضَ أقوالي أمام اللهْ!

أو أن يستخدم مفردة مصدرها ثقافته الصوفية، فهو سليل أسرة عريقة في التصوف من ناحية أمه - أسرة الشيخ إسماعيل الولي - منشئ الطريقة الوحيدة المستمدّة من تراث السودان الصوفي:

هُزّي إليكِ بجذعِ النخلِ

واغتسلي من حزنِ ماضيكِ...

في الرؤيا وفي الإصْرارْ

هزّي إليك بأبراجِ القلاعِ تفيق!

ويبدو أثر التصوّف كأروع ما يكون في قصيدته «مدينتك الهدى والنور»، إذ حفلت القصيدة بروحانيةٍ ربما لم نرَ مثلها إلا في أشعار سلطان العاشقين ابن الفارض، وقلة من أئمة شعر التصوف... إذ يناجي سيد المرسلين وقد حلّ زائراً بمدينته المنوّرة، متوسلاً إليه طالباً الشفاعة. البون شاسع بين الفتى المتمرد الأول في «الشرف الجديدة»، وعمر النضج الذي عبّ من تجارب الحياة ما أشبع وجدانه بنور الحكمة:

مدينتُك الحديقةُ يا رسولَ الله

كلُّ حدائقِ الدُّنيا أقلّ وسامةً وحضورْ

هنالك للهواءِ أريجُه النبويّ

موصولاً بأنفاسِ السماءِ وكأسِها الكافورْ

نود في خاتمة هذه القراءة أن نصوّب خطأً شائعاً. فقد درج بعض محبي الشاعر أن ينادوه بلقب «ود المكي». إنّ اسم «محمد المكي» اسم مركّب، كما جرت العادة عند أتباع ومريدي الشيخ إسماعيل الولي. يقرنون الاسم الأول بأحد أسماء أبناء أو حفدة منشئ الطريقة - إسماعيل بن عبد الله الكردفاني، كما كان يوقّع اسمه في مؤلفاته. وفي حي القبة بالأبيّض حيث ضريح الشيخ إسماعيل، قلما يخلو بيت من اسم مركب مثل: محمد الباهي، ومحمد المكي، ومصطفى البكري، والحنفي، والأزهري!

وأخيراً... برحيل محمد المكي إبراهيم تفقد قصيدة الحداثة بيت شعر ضخماً. ويفقد شعب السودان صوتاً طالما صدح بأجمل وأنبل القصائد في الاعتداد بأمته وأمجادها وتراثها.



فلسطين في الغناء المصري

فلسطين في الغناء المصري
TT

فلسطين في الغناء المصري

فلسطين في الغناء المصري

يرصد الباحث المصري الدكتور كمال مغيث أصداء القضية الفلسطينية في الأغنية المصرية والمحطات والمراحل الزمنية المختلفة التي مرت بها، وذلك في كتابه «الغناء وعبقرية الثقافة المصرية»، الصادر حديثاً عن دار «الحكمة» بالقاهرة.

يشير المؤلف في البداية إلى الجذور التاريخية والحقائق الجغرافية التي جعلت فلسطين تحظى بمكانة خاصة في الوجدان المصري، فعبْر فلسطين جاء إلى مصر الشر والخير معاً، فمنها تسرَّب الهكسوس والحيثيون، وجاء الفرس والآشوريون لغزو مصر واحتلالها عبر العصور القديمة. وجاء الصليبيون والتتار وجيوش القرامطة في العصور الوسطى، لكن في المقابل جاء عبرها كذلك سيدنا إبراهيم من أور العراقية، وعبرها حملت قافلة التجار معها الصبي سيدنا يوسف، بعد أن عثرت عليه وحيداً في غيابات الجب، كما دخلت العائلة المقدسة مصر عن طريق حدودها الشرقية مع فلسطين.

وفي العصر الحديث، كانت فلسطين مصيفاً أثيراً لكثير من الأرستقراطيين المصريين، ساعدهم على ذلك وجود ذلك القطار الفخم الذي ينطلق من القاهرة إلى القدس ويافا، ثم بيروت. وما زلنا نذكر مشهد الوداع بين نجيب الريحاني وأسرة تحية كاريوكا وهي في طريقها إلى بيروت بالقطار من محطة رمسيس عبر فلسطين في فيلم «لعبة الست». ويندر أن يكون هناك مطرب أو مطربة مصرية لم تغنِّ في مسارح القدس ويافا، في النصف الأول من القرن العشرين، ويقال إن أم كلثوم حملت لقب كوكب الشرق بعد غنائها في مسرح «الشرق» بيافا.

ولتأكيد عمق العلاقات التاريخية بين فلسطين ومصر، فإن كثيراً من الأُسر المصرية تحمل ألقاباً تؤكد أن أصولهم فلسطينية، كعائلات القدسي والمقدسي والناصري واليافاوي وعكاوي والرملي والنابلسي والطبري والسبعاوي والخليلي والصفدي والغزاوي وغيرها.

البداية مع حرب 1948

مع حرب فلسطين 1948، غنّى محمد عبد الوهاب من ألحانه، وتأليف الشاعر علي محمود طه، قصيدة «فلسطين»، والتي يقول فيها:

وقبّل شهيداً على أرضها دعا باسمها الله واستشهدا

فلسطين يحمي حماك الشباب فجلّ الفدائي والمفتدى

فلسطين تحميك منا الصدور فإما الحياة وإما الردى

كما غنى عبد الوهاب من ألحانه، وكلمات الشاعر محمود حسن إسماعيل نشيد «لحن النار» الذي يقول فيه:

«مهد البطولات

أرض العرب

أرض العلا من قديم الحقبْ

ضجت من الثأر نارُ الدماء

هيا نشق إليه اللهبْ

هزت فلسطين حرَّ النداء

هيا ولبيكِ أخت العرب»

كما غنّت ليلى مراد من كلمات فتحي قورة، ولحن منير مراد:

«يا رايح على صحراء سينا

سلم عل جيشنا اللي حامينا

كلنا وياك جبهة قوية

وإيدينا في إدين الفدائية

حترد فلسطين عربية وياويلهم منك أعادينا»

وتُغني سعاد محمد للجنود العرب المتجهين إلى فلسطين لقتال الصهاينة سنة 1948 أغنية «يا مجاهد في سبيل الله»، كلمات بيرم التونسي، والتي يقول مطلعها:

«يامجاهد في سبيل الله.. دا اليوم اللي بنستناه

طول يا بطل ما معانا سيوف.. الدنيا ياما بكره تشوف

إحنا عرب أصلنا معروف.. فن الحرب إحنا بدعناه

أرض جدودنا وغيرها مافيش.. فوقها نموت وعليها نعيش

ومفيش مطرح للخفافيش.. واللي بلاده طارداه

يا مجاهد في سبيل الله».

ومع ارتفاع المد القومي بعد ثورة يوليو 1952، غنّت سهام رفقي؛ وهي مطربة سورية، من كلمات وألحان عبد الغني الشيخ:

«يافلسطين جينالك كلنا رجالك

جينالك لنشيل أحمالك حواليكي

رجالي تحميكي

بالروح والمال تفديكي

وتصون مجد العروبة

وتهلك من يعاديكي».

وبعد العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، وتضامن الشعوب العربية مع مصر، تعزَّز الاتجاه القومي العروبي الذي كانت قضية فلسطين في مقدمة قضاياه، وأصبحت أكثر حضوراً في كثير من الأغاني الوطنية. وفي أوبريت «وطني حبيبي الوطن الأكبر»، كلمات أحمد شفيق كامل، ولحن محمد عبد الوهاب، يغنّي عبد الحليم حافظ في المقطع الأخير:

«وطني يا زاحف لانتصاراتك

ياللي حياة المجد حياتك في فلسطين

وجنوبنا الثائر حنكملك حرياتك

إحنا وطن يحمي ولا يهدد

إحنا وطن بيصون ما يبدد

وطن المجد يا وطني العربي».

وفي أوبريت «صوت الجماهير»، تأليف حسين السيد، ولحن محمد عبد الوهاب، تُغني فايدة كامل:

«باسم اتحادنا قوم يا كفاحنا

قل للصهاينة المعتدين

راية العروبة عرفت نجومها

من عام ثمانية وأربعين

دقت ساعة العمل الثوري في فلسطين

باسم الجماهير».

وفي أغنية «المارد العربي»، كلمات حسين السيد، يُغني فريد الأطرش:

«يا فلسطين يا شعب مجاهد

جيشك حاضر بالملايين

مابقاش جرح في فلسطين».

وتُغني نجاة الصغيرة في «جي يا فلسطين» من كلمات مأمون الشناوي، ولحن بليغ حمدي:

«جي على شوق وحنين ياهوا فلسطين

مليون عربي راجعين لبلدهم منتصرين

يا سما فلسطين يا ربَى فلسطين

يا عيون واحشانا بقالها سنين

راجعين ومعانا قلوب ملايين».

ويُغني عبد الحليم حافظ «يا أهلاً بالمعارك»، كلمات صلاح جاهين، ولحن كمال الطويل:

«سكتنا خلاص في إيدنا وخلاص متشمرين

وحزين يا اللي تعاندنا بتعاند جبارين

ما في حاجة تقولنا لأ

إيش حال يوم تحريرنا فلسطين».

منتصف الستينات

في منتصف الستينات، أعلن قيام منظمة التحرير الفلسطينية، وأصبح الكفاح المسلّح مطروحاً بقوة لتحرير فلسطين، فكثرت في الأغاني التي تتناول القضية كلمات من نوعية «فدائي»، و«السلاح»، و«البنادق»، و«الحرب». غنت أم كلثوم، من كلمات صلاح جاهين، ولحن السنباطي:

«راجعين بقوة السلاح راجعين نحرر الحمى

راجعين كما رجع الظلام من بعد ليلة مظلمة

جيش العروبة يا بطل الله معك

ما أعظمك ما أروعك ما أشجعك

مأساة فلسطين تدفعك نحو الحدود

حول لها الآلام بارود في مدفعك».

كما غنّت أم كلثوم من كلمات نزار قباني، ولحن محمد عبد الوهاب: «أصبح عندي الآن بندقية» التي تقول:

«يأيها الثوار

في القدس، في الخليل، في بيسان،

في بيت لحمٍ، في الأغوار

حيث كنتم أيها الأحرار

تقدموا... تقدموا..

إلى فلسطين طريق واحد

يمر من فوهة بندقية»

كما غنّت أم كلثوم من كلمات عبد الفتاح مصطفى، ولحن بليغ حمدي: «إنا فدائيون»، التي تقول:

«سقط النقاب عن الوجوه الغادرة

وحقيقة الشيطان باتت سافرة

إنا فدائيون نفنى ولا نهون

إنا لمنتصرون».

ومن الأجيال الجديدة يغنّي علي الحجار «فلسطيني» من كلمات جمال بخيت، ولحن فاروق الشرنوبي:

«فلسطيني

بيسري الأقصى في دمي

أسير وعنيد

وبلدي وجهتي

ويومي في هواها شهيد».