بعيداً عن ضوضاء العالم... عن جدل الفن للفن والفن للحياة

خبراتنا الحياتية لم تعُدْ تُستَحْصلُ إلا بمشقّة مع تعقّد الحياة وتطوّرها

أفلاطون
أفلاطون
TT

بعيداً عن ضوضاء العالم... عن جدل الفن للفن والفن للحياة

أفلاطون
أفلاطون

كنتُ أحسبُ أنّ العبارة الأيقونية الشائعة التي سادتْ في عقود سابقة بصيغة تساؤل: هل الفن للفن أم الفن للحياة؟ قد ماتت وتلاشى ذكرُها في لجج هذا العصر الذي تعاظمت فيه الفردانية بدفعٍ مباشر من المنجزات التقنية غير المسبوقة؛ لكنْ يحصل أحياناً أن تقرأ في بعض وسائل التواصل نقاشات قد تستحيلُ معارك سجالية يبدو أطرافها وكأنّهم لم يغادروا بعدُ أجواء الحرب الثقافية الباردة التي كانت جزءاً فاعلاً في الحرب بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.

ربما من المهم الإشارةُ إلى أنّ مفردة «الفن» في التساؤل الإشكالي تعني كلّ الضروب الإبداعية المتصوّرة من كتابة (تخييلية أو غير تخييلية) وشعر وفنون تشكيلية. أعتقدُ أنّ التساؤل السابق فاسدٌ في أساسه المفاهيمي لأنّه يُخفي رغبة مضمرة في تأكيد قناعة مسبقة سعى المعسكر الاشتراكي إلى ترسيخها ومفادُها أنّ الشيوعية تتناغم مع تطلعات الإنسان على العكس من الرأسمالية التي تعظّم فردانيته وجشعه ونزوعه الشخصي.

التبنّي الآيديولوجي لأمثولة والترويج لها في سياق مقاسات محدّدة لنتاج أدبي هو وصفة مضمونة للرداءة الأدبية

علّمتْنا تجاربُ كثيرة أنّ التبنّي الآيديولوجي لأمثولة والترويج لها في سياق مقاسات محدّدة لنتاج أدبي هو وصفة مضمونة للرداءة الأدبية، ولستُ في حاجة إلى إيراد أمثلة عن أعمال كُتِبت في ظلّ «الواقعية الاشتراكية»، وكانت غاية في السخف والرداءة. ما سأسعى إليه في الفقرات التالية هو محاولة تفكيك الأساس الفلسفي الدافع للإبداع في حقل الأدب على وجه التخصيص رغم أنّ المقايسة يمكن تعميمها على جميع ضروب الإبداع الفني.

إلهاءات تستحيل معها الفلسلفة

الحياة مشقّة رغم كلّ اللذّات الممكنة والمتاحة فيها، وخبراتنا في الحياة لم تعُدْ تُستَحْصلُ إلا بمشقّة باتت تتزايد مناسيبها مع تعقّد الحياة وتطوّرها. قارن نفسك مع أفلاطون مثلاً: بوسعك اليوم أن تحوز خبرات تقنية أعظم ممّا عرفها أفلاطون وكلّ فلاسفة الإغريق؛ لكنْ هل بمستطاعنا كتابة «مأدبة» حوارية فلسفية تتناغم مع متطلبات القرن الحادي والعشرين؟ أشكّ في ذلك كثيراً؛ فهذا جهد أقرب إلى الاستحالة لأنّ الإلهاءات في حياتنا باتت كثيرة، وجعلت ملاحقة القضايا الوجودية الأساسية ووضعها في مقايسة فلسفية مناسبة - مثلما فعل أفلاطون - مهمّة مستعصية.

ربما سيتساءل سائل: ولماذا لا نكبحُ هذه الإلهاءات من حياتنا ونعيش بعيداً عنها لكي نكون قادرين على امتلاك الإحساس الفلسفي اللازم لكتابة أفلاطونية بثياب معاصرة؟ لا يمكننا هذا لأنّه يعني - بالضرورة - العيش في جزيرة مهجورة. دعونا نتذكّر ما كتبه الشاعر اللاهوتي الإنجليزي جون دَنْ (John Donne): «ما مِنْ إنسانٍ جزيرةٌ لوحده». من غير هذه الإلهاءات تبدو الحياة وكأنّها تفكّرٌ طويل لا ينقطع في موضوعات الموت والشيخوخة والمآلات النهائية للوجود البشري المقترن بحسّ مأساوي. لا حياة بشرية تسودها متعة كاملة.

الإلهاءات تتّخذ في العادة شكليْن: شكل اختياري، نحن من يختاره (لعب، مشي، سفر، تجوال ليلي في الشوارع المضاءة...)، وشكل يتخذ صفة المواضعات القانونية (دراسة، عمل...). نفهم من هذا أنّ الإلهاءات مفيدة لأنها تبعدُنا عن الجلوس المستكين والتفكّر في ثنائيات الموت والحياة، والبدايات والنهايات، والطفولة والشيخوخة... إلى جانب تمكيننا من إدامة زخم متطلبات عيشنا اليومي.

أسباب لتفادي الغرق في الإلهاءات

الغوص في لجّة الإلهاءات اليومية حدّ الغرق فيها ليس بالأمر الطيب متى ما صار ممارسة روتينية نفعلها من غير تدبّر أو مساءلة. أظنّ أنّ أسباباً كثيرة تدفعنا لخرق هذه الممارسة أحياناً:

أولاً: الغرق في بحر إلهاءات المعيش اليومي يحيلُنا إلى الشعور البديهي بأنّنا كائناتٌ محلية مآلها الفناء، وقتية الوجود، محكومة بقوانين المحدودية الزمانية والمكانية. قد نكون كذلك في التوصيفات الواقعية؛ لكنّ أحد شروط العيش الطيب هو الطَرْقُ على هذه المحدودية بمطرقة ثقيلة بغية تكسير قشرتها السميكة التي تحيط بنا حتى لو تمّ الأمر في النطاق الذهني. أظنّ أنّ المسعى الغلغامشي في طلب الخلود حاضرٌ في كلّ منّا بقدر صَغُرَ أم كَبُرَ. العيش بغير ملامسة المثال الغلغامشي يبدو عيشاً باعثاً على أعلى أشكال الملل والشعور بخسارة الزمن والعبثية المطلقة لتجربة العيش البشري.

ثانياً: تقترن الإلهاءات اليومية للعيش بمناسيب متصاعدة من الضوضاء حتى بات الكائن البشري يوصف بالكائن الصانع للضوضاء. نتحدثُ اليوم عن بصمة كاربونية لكلّ فرد منّا، وهي مؤشر عن مدى ما يطرحه الواحد منّا في الجو من غازات مؤذية للبيئة. أظنُّ أنّ من المناسب أيضاً الحديث عن بصمة ضوضائية للفرد: كم تعملُ من ضوضاء في محيطك؟

نحنُ كائنات ضوضائية بدافع الحاجة أو التسلية أو الضجر. نصنع الضوضاء بشكل أو بآخر وبمناسيب متفاوتة. ثمة دراسات متخصصة ومعمّقة في علم النفس التطوري تؤكدُ أنّ البصمة الضوضائية يمكنُ أن تكون مقياساً تطورياً للأفراد. كلّما تعاظمت البصمة الضوضائية للفرد كانت قدراته العقلية والتخييلية أدنى من نظرائه ذوي البصمة الضوضائية الأدنى. ربما التسويغ الأقرب لهذه النتيجة أنّ مَنْ يتكلمُ أكثر يفكرُ أقل.

ثالثاً: هذا التسويغ يعتمد مقاربة غريبة توظّفُ ما يسمّى مبرهنة غودل في اللااكتمال، وهي مبرهنة معروفة في علوم الحاسوب والرياضيات، وأقرب إلى أن تكون رؤية فلسفية قابلة للتعميم، وهو ما سأفعله هنا. جوهرُ هذه المبرهنة أنك لن تستطيع البرهنة على صحة نظام شكلي باللجوء إلى عبارات من داخل نطاق النظام دوماً. لا بدّ أن يحصل خطأ ما في مكان ما. يبدو لي التعميم على نطاق العيش اليومي البشري ممكناً: لن تستطيع عيش حياة طيبة إذا ما اكتفيت بالقوانين السائدة والمعروفة للعيش. لا بدّ من نوافذ إضافية تتيحُ لك الارتقاء بنمط عيشك، وهذه النوافذ هي بالضرورة ميتافيزيقية الطابع تتعالى على الواقع اليومي.

رابعاً: العيش اليومي فعالية شهدت نمواً مضطرداً في مناسيب العقلنة حتى لامست تخوم العقلنة الصارمة المحكومة بخوارزميات حاسوبية. العقلنة مطلوبة في الحياة بالتأكيد؛ لكننا نتوق إلى كبح سطوة قوانين هذه العقلنة والتفكير في نطاقات غير معقلنة. اللاعقلنة هنا تعني عدم التأكّد اليقيني المسبق ممّا سيحصل انتظاراً لمكافأة الدهشة والمفاجأة بدلاً من الحدس الرتيب بالإمكانية الوحيدة للتحقق.

خامساً: العيش اليومي يقترن في العادة مع مناسيب عالية من المأزومية العقلية والنفسية. عندما لا تعيش بحكم الضرورة وحدك فأنت تتفاعل مع آخرين، وهذا التفاعل قد يكون هادئاً أو مشحوناً بقدر من الصراع الوجودي. لا ترياق لهذا النمط الصراعي المحتوم إلّا بكتابته وتحويله إلى مغذيات إبداعية أولية للكاتب. تحدّث كثيرٌ من الكتّاب عن أنّ الكتابة أضحت لهم مثل تناول حبة الضغط اليومية اللازمة لعلاج ارتفاع الضغط الدموي لديهم. إنّهم صادقون تماماً. من غير الكتابة يصبحون أقرب لكائنات شيزوفرينية يكاد يقتلها الألم والعذاب.

يجعلنا الإبداع الفني كائناتٍ تدركُ قيمة الموازنة الدقيقة بين مناسيب العقلنة واللاعقلنة في الحياة

الأدب الجيّد مفتاحاً للتوازن

الأدب الجيّد بكلّ تلاوينه، مثلما كلّ فعالية إبداعية أخرى، ترياقٌ ناجع للتعامل مع الإفرازات السيئة المتلازمة مع وجودنا البشري. يخرجُنا الفن المبدع غير المأسور بمحدّدات الآيديولوجيا من محليتنا الضيقة ومحدّدات الزمان والمكان، ويؤجج جذوة المسعى الغلغامشي فينا طلباً لخلود افتراضي نعرف أنه لن يتحقق، ويكبح سطوة الإلهاءات في حياتنا ولو إلى أمد محدود كلّ يوم، مثلما يكبحُ مفاعيل الضوضاء البشرية فينا ويجعلنا نصغي بشهوة وتلذّذ إلى أصوات أعماقنا التي تقمعها الانشغالات البديهية والروتينية، ويفتح أمامنا نوافذ ميتافيزيقية تتيحُ لنا رؤية عوالم تخييلية ليس بمستطاعنا بلوغها من غير معونة الإبداع الفني.

بعد كل هذا يجعلنا الإبداع الفني كائناتٍ تدركُ قيمة الموازنة الدقيقة بين مناسيب العقلنة واللاعقلنة في الحياة.

تترتب على هذه المقايسات نتائج مدهشة أحياناً وغير متوقعة، يمكن أن تجيب عن بعض تساؤلاتنا الممضّة. منها مثلاً: لماذا تمتلك الأعمال الأدبية والفلسفية الإغريقية خاصية الراهنية والاستمرارية في التأثير والتفوق على كثير من نظيراتها المعاصرة؟ يبدو لي أنّ الفلاسفة والأدباء الإغريق كانوا عرضة لتشتت أقلّ من حيث طبيعة وحجم الإلهاءات؛ لذا جاءت مقارباتهم أقرب للتناغم مع تطلعات الإنسان وقلقه الوجودي؛ في حين تغرق الأعمال المعاصرة في التفاصيل الجزئية ذات الطبيعة التقنية، وهي في عمومها تقدّمُ المعرفة التقنية في فرعيات دقيقة عوضاً عن التأكيد على الرؤية الإنسانية الشاملة.

أظنها متعة كبيرة لو دقّقنا في الأعمال الأدبية العظيمة، ورأينا كم تتفق سياقاتها مع معايير الوظيفة الإبداعية كما ذكرتها أعلاه. أظننا سنكتشف أنّ هذه الأعمال لم تكن مستعبدة لنسق آيديولوجي باستثناء إذا أردنا وضع الإنسان في مرتبة الاهتمام الآيديولوجي الأعلى مقاماً من كلّ ما سواه. ثمّ إنها أبعدتنا عن الإلهاءات اليومية الروتينية، وفتحت لنا نافذة في قشرة الوجود البشري الصلبة، وأنقذتنا من تسونامي الصراعات اليومية.

الفن للفرد الذي يعرف كيف يجعل الفن وسيلة للارتقاء بمعيشه اليومي، ومن ثمّ تحويله لخبرة جمعية منتجة. ربما قد يكون حاسوبٌ، وكوبُ شاي أو قهوة، وشيءٌ من طعام بسيط في مكان بعيد عن ضوضاء العالم لبعض الوقت الذي نستقطعه من زحمة انشغالاتنا اليومية هو كلّ ما نحتاجه لنصنع أدباً جيداً، وقبل هذا لنعيش حياة طيبة يبدو أنّ كثيرين يغادرون هذه الحياة وهم لم يتذوّقوا ولو القليل من لذّتها الكبرى.


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.