«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار

مداخلات نقدية متنوعة وقراءات شعرية على مدار 3 أيام في دورته الثامنة

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار
TT

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار

دورة ناجحة لمؤتمر قصيدة النثر المصرية تنوعت فيها الرؤى والدراسات النقدية، والقراءات الشعرية لكوكبة من الشاعرات والشعراء من شتى الأقاليم المصرية، كما احتفت بتجربة شاعرين من الرموز المؤثرة والمؤسسة لهذه الكتابة الشعرية الجديدة.

على مدار ثلاثة أيام استضافت مؤسسة «الدستور» الصحافية وقائع الدورة الثامنة من «مؤتمر قصيدة النثر المصرية»، التي شهدت مشاركة واسعة لأسماء عديدة من مختلف المشارب والأجيال الشعرية والأدبية؛ وسط تنوع لافت في الفعاليات ما بين الجلسات النقدية والمداخلات النقاشية، والاحتفاء برموز مؤثرة في سياق مغامرة قصيدة النثر وترسيخ وجودها ودورها الإبداعي الذي يتعمق يوماً بعد يوم، فضلاً عن قراءات شعرية متنوعة لكوكبة كبيرة من الشعراء والشاعرات في تظاهرة فنية لافتة حررت المشهد الشعري المصري من الرتابة والتكرار وأكسبته حيوية مفتقدة، كما أتاحت الفرصة أمام أصوات مختلفة للتعبير عن نفسها.

ألقى الناقد والأكاديمي د. محمود الضبع كلمة لافتة في الجلسة البحثية الأولى بعنوان «ما بعد العولمة وتبعاتها في الشعر المعاصر»، مشيراً إلى أن ما بعد العولمة ليست مجرد تطور اقتصادي أو حتى فكري، بل هى في الأساس سلطة سياسية جديدة تتخذ تجليات عدة، مما يجعل الأدب عموماً، والشعر في القلب منه، منوطاً به معرفة دوره الخطير إزاءها باعتباره الوعاء الرئيسي للتعبير عن العادات والتقاليد والثقافة العامة في عصر ما. وأشار إلى أن الشعر ليس نغماً أو جمالاً معزولاً أو حالة جمالية منبتة الصلة عن الواقع، فقد أثبتت الثورات التي شهدتها المنطقة العربية في حقبة ما بعد الألفية الثالثة أن الشعر استعاد أدواره القديمة فعلاً تحريضياً وأداة حماسية.

وتحت عنوان «قليل من المحبة»، خصص المؤتمر جلستين للاحتفاء باثنين من رموز قصيدة النثر هما الشاعران محمد فريد أبو سعدة وجمال القصاص. تحدث القصاص عن أبو سعدة، رفيق الدرب، متمنياً له الشفاء، مؤكداً أن أبو سعدة ينظر إلى الشعر في كليته، وبراءته الحميمة، ليتباهى كصوفي عاشق يدرك أن الوجود هو حلقة متصلة للروح، تسبق الصورة والفكرة، والنغمة والموسيقى والإيقاع، وأن هزة السطر والحرف والكلمة ليست شرخاً ناتئاً في المرآة، وإنما ضرورة للإمساك بأزمنة وملامح، وحدس إنساني هارب في ظلالها وبياض عتمتها ونصوعها الشائك المراوغ.

ولفت إلى أن أبو سعدة في دواوينه المتنوعة مثل «معلقة بشص»، «جليس لمحتضر»، «سماء على الطاولة»، «أنا صرت غيري»، يصل إلى سؤاله الشعري، ويخلص له عبر تدفقات الذهن والحس معاً، وبراح فضاء قصيدة النثر، كأنه يوقظ أعماقاً مغايرةً في داخلنا، فعلى السطح وفي العمق تبني الصورة عالمها بشفافية لافتة، بينما يتخلى الماضي عن فكرة الترجيع، أو أنه صدى لأشياء بائدة، هو صدى للنص نفسه، وما يرشح عنه، ما يعلق في وعينا ولا وعينا معاً، من انكشاف النص نفسه لذاته أولاً، قبل أي شيء آخر.

يلاحظ القصاص في شعرية أبو سعدة كيف يتسع المشهد على نحو خاص ليشمل حضور الأنثى وعناصر الطبيعة ونثريات الواقع والأشياء العابرة المهمّشة المنسية، وتصبح الحسية أداة للمعرفة والسؤال، وفي الوقت نفسه، يخلع النص قناع الآخر، ويتوحد بقناع الشاعر الذي يعرف كيف ومتى يخلعه ويلقيه خلفه، وكيف يلجأ إليه، كنوع من التمويه والتخفي والانعتاق من فوضى العالم، كما في ديوانه «سماء على الطاولة»: «ذهبوا/ وظل وحده/ على صدره جبل/ وتحت جلده مناقير تنهش في القلب/ قضى عمراً ليصل إلى الباب/ عيناه جوهرتان/ ويداه تمسكان بالفراغ».

وقدم الشاعر والناقد عمر شهريار ورقة بحثية بعنوان «قصيدة النثر والاغتراب: جدل القطيعة والتواصل»، رفض فيها عدداً من «الاتهامات الجاهزة» الموجهة لقصيدة النثر، من أشهرها أنها في قطيعة دائمة وأبدية مع التراث، كما أنها تمثل خطراً على الهوية العربية وتجسد حالة من الانسلاخ من الماضي. وعدَّ شهريار أن قصيدة النثر مثلها مثل الأشكال الشعرية الأخرى كقصيدة التفعيلة وقصيدة العمود، هي في حالة جدل دائم مع التراث، فتارة تتمرد عليه وتارة أخرى تستلهمه وتارة ثالثة تنطلق منه أو ترفضه و... هكذا. وشدد شهريار على أن شاعر قصيدة النثر مثله مثل بقية نظرائه على خريطة الإبداع الأدبي لا يستطيع الهروب من اللغة كأداة أساسية بما تمثله من حامل أو وعاء للعادات والتقاليد والثقافة بمفهومها الواسع، بالتالي تجد قصيدة النثر نفسها في حوار جدلي مع التراث، على الأقل من خلال الاشتغال الذي لا بد منه على اللغة.

وفي الجلسة النقدية باليوم الثالث للمؤتمر، التي أدارتها بحيوية الكاتبة الروائية والإعلامية دكتورة صفاء النجار قدمت الباحثة هبة رجب شرف الدين بحثاً بعنوان «سرديات الماهية في قصيدة النثر المعاصرة بين المرجعية والتخييل الذهني»، ارتكزت فيه على نماذج لكوكبة الشعراء والشاعرات، وتوقفت بالتحليل أمام قصيدة للشاعر إبراهيم المصري بعنوان «ما هو الشعر»؛ حيث يعرّف الشاعر ماهية الشيء/الشعر بقوله: الشعرُ/ حضورٌ كونىٌّ للبذخِ/ وجسورٌ معلقةٌ/ نعبرُ عليها من غيمةٍ إلى غيمة». وتنبع أفكار الشاعر في تصوير حقيقة الشعر من البيئة، لافتة إلى أن الأفكار الشعرية لديه تماثل الغيمة؛ وهذا النعت لها من الطبيعي أن يبرز موقع الشاعر موقعاً علوياً حتى يحدث الإشراق الذهني منفرطاً، وهذا المعنى هو ما استهل به الشاعر الوحدة الشعرية.

وتنتقل الباحثة إلى تجربة شعرية أخرى للشاعر أحمد إمام، حيث يتأثر في قصيدة النثر بالتقنيات القصصية من الحوار والوصف ومنظور الرؤية؛ وهو يقدم مفهوماً أو تعريفاً لماهية صورة الشاعر في «قصائد بحجم راحة اليد»؛ إذ يقول في قصيدة بعنوان «الشاعر»: نظَّفَ حَنجرتَه من بقايا غناءٍ قديم/ وذاكرتَه من غبارِ القوافلِ/ ومشى وحيداً إلى الليلِ/ وحيداً كذئب/ لا كطريدة/ حدَّقَ في المرآة طويلاً/ كأنه يشربُ صورتَه على ظمأ»، مشيرة إلى أنه يصف الذات الشاعرة بمجموعة من السمات القابعة في تصوره؛ فتتضح هذه السمات عبر الإخبار بشكل قصصي عن الحالة التي تسبق الكتابة، وهي حالة جوهرية تخص الشعراء؛ من هذه السمات أن الشاعر لديه فنان في المقام الأول، مسافر رحَّال في المقام الثاني ترحالاً معنوياً أكثر منه مادياً؛ لذا فهو منفرد دائماً بذاته التي دائماً ما تتشكل في صور كثيرة بعدد صوره الشعرية.

ويتخذ الباحث إبراهيم أحمد أردش من ديوان «ما أنا فيه» للشاعر أحمد الشهاوي نموذجاً لدراسة بعنوان «البحث عن راحة الذات المتعبة من الأفكار في قصيدة النثر»، حيث يرصد حيرة الشاعر مع الأفكار وتداعياتها عليه، عن اقترابها وابتعادها؛ ليصبح ما فيه الشاعر هو البحث عن الأفكار أحياناً والهروب منها أحياناً أخرى، حتى يزهد الشاعر في الاستيقاظ، باعتباره معادلاً للتفكير: «مُستغنٍ عن الصَّحوِ/ أخبَّئُ جرَسَ البابِ/ في الجَيْبِ/ أخفي جرَسَ الهاتف/ في سُترةِ الصَّمتِ/ أقايضُ إغفاءةً/ بقيراطين من ماس».

وفي جلسة احتفاء بتجربة الشاعر جمال القصاص تحدث الشاعر أسامة حداد عن علاقته بالقصاص والمرتكزات الجمالية والفلسفية التي تشكل رؤيته للشعر والحياة، وتنعكس على تشكيله الجمالي للقصيدة ومغامرته في البحث عن الجديد دائماً. وتناول الشاعر والباحث د. خالد حسان جماليات قصيدة الشاعر جمال القصاص، لا سيما في دواوين «السحابة التي في المرأة» و«ما من غيمة تشعل البئر» و«جدار أزرق»، مشيراً إلى أن القصيدة تبدو لديه مفعمة بعذابات شخص شديد الحزن، بالغ الرقة والرهافة، شخص بسيط ليست لدية أي قناعات أو آيديولوجيات، أو أفكار جاهزة، شخص شديد الالتصاق بذاته، بهواجسه، بأحلامه الصغيرة، وطموحاته التافهة والمريضة، ها هو يقول: «ليس لدي اعترافات/ ولا سلطة مطلقة/ لكنني حين أجهش في الليل/ أحس أن هذا الخراب مجرد شيء سقط مني».

ويعدُّ حسان أن أهم ما يميز إنتاج جمال القصاص قدرته على تفجير الشعر طوال الوقت في كل جملة وكل تركيب وكل كلمة، بحيث تتابع الانفجارات الشعرية على طول القصيدة، ومن ثم الديوان، فقصيدته لا تعتمد المباشرة أو المفارقة أو غيرها من جماليات قصيدة النثر في نسختها الأخيرة، وهي أيضا لا تقوم على إثارة القضايا الكبرى من خلال السعي وراء عوالم ميتافيزيقية، كما اقترحت النسخة الأولى من القصيدة على أيدي روادها، فالتركيبة السحرية التي جاء بها القصاص يمكن أن نصفها بالقدرة على الالتصاق بالذات الشعرية الصغيرة والهشة في محاولة لسبر أغوارها، وإظهار عذاباتها، لكن من خلال آليات جديدة، أو فلنقل آليات خاصة تحمل بصمة الشاعر التي يصعب تكرارها في قصائد غيره.

وتعليقاً على حصاد تلك الدورة من المؤتمر، يشير رئيس المؤتمر ومنسقه الشاعر عادل جلال إلى أن الأهداف لم تختلف عن الدورات السابقة، حيث لا يزال كسر مركزية وهيمنة مجموعة محددة على المشهد الشعري عموماً، وقصيدة الشعر الحر في مصر، هدفاً رئيسياً لم يتغير. ويضيف جلال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن من أهداف المؤتمر كذلك إتاحة الفرصة لأصوات جديدة من الشعراء للتعبير عن نفسها دون وصاية، وتسليط ضوء قوي على مواهب جديدة. ويشير عادل جلال إلى أن الخروج من القاهرة والانفتاح على بقية المدن والأقاليم لا يزال هدفاً مشروعاً، لكنه يحتاج إلى دعم كبير وتمويل سخي، وهو ما لا يتوفر حتى الآن.



كيف عكست الرواية النسائية صورة الرجل المعاصر؟

كيف عكست الرواية النسائية صورة الرجل المعاصر؟
TT

كيف عكست الرواية النسائية صورة الرجل المعاصر؟

كيف عكست الرواية النسائية صورة الرجل المعاصر؟

في المجتمع يتناول كتاب «صورة الرجل في السرد النسوي المعاصر» الصادر عن دار «بيت الحكمة» للناقدة د. رشا الفوال تحليلاً فنياً وجمالياً من خلال منهج التحليل النفسي، سعياً إلى تقديم تصور نظري وتطبيقي يساعد المتلقي على استقراء الواقع وما آل إليه حال الجماعة في المجتمعات العربية من تغيرات نفسية، تم من خلالها كشف تناقضات الذات في ظل علاقتها بـ«النحن». ولتحقيق ذلك الهدف، وقع اختيار المؤلفة على أعمال ثلاث كاتبات تبدو صورة الرجل في علاقاتها بالآخرين من أهم الخصائص المميزة لكتاباتهن؛ وهن المصرية عزة رشاد في «شجرة اللبخ» والعمانية جوخة الحارثي في «سيدات القمر» والليبية نجوى بن شتوان في «زرايب العبيد».

وتتميز صورة الرجل بعدة ملامح في هذا السياق، منها إحساسه بالتهديد الدائم وعجزه عن المجابهة، كما يفتقد الطابع الاقتحامي في السلوك؛ لذلك سرعان ما يفر منسحباً إما طلباً للسلامة خوفاً من العقاب أو يأساً من إمكانية التصدي فيلجأ إلى الأحلام بشكل نكوصي. هنا تأتي الاتكالية على منقذ منتظر كالأم أو الزوجة أو الخادمة.

في مقابل ذلك، تتجلى «عقدة العار» التي تجعل الرجل في حالة دفاع دائم ضد عجزه وافتضاح أمره لأن هاجس «الفضيحة» يهيمن على تفكيره، وهو ما يمكن تسميته نفسياً بـ«الجرح النرجسي»، فالإنسان المتسلط يمكن أن يعيش من دون خبز، لكنه يفقد كيانه إذا فقد كرامته، إضافة إلى أن القمع يدفع الإنسان إلى درجة عالية من التوتر الانفعالي وغليان العدوانية المقموعة، فتنفلت وتطفو على السطح ولا تجد أمامها من سبيل إلا اتهام الآخرين بالذنب.

وتعيد المرأة في الروايات محل الدراسة إنتاج ثقافة الرجل باعتباره صاحب السيطرة في المجتمع، حتى إنه عندما أتيحت للكاتبات فرصة إنتاج كتابة مؤثرة، يبدو أنهن ينتجن ثقافة تكاد تكون ذكورية لا تسعى للدفاع عن حقوق المرأة في العمل والتعليم، بقدر ما تسعى لإنتاج ثقافة قائمة على مجرد تشويه صورة شخصية الرجل وتجسيده في عدة أنماط سلبية.

تأتمن الكاتبة العمانية جوخة الحارثي الرجل على أسرار الشخصيات ليصبح المؤلف الضمني هو الراوي العليم المشارك وأقرب شخصيات رواية «سيدات القمر» إلى المؤلف الحقيقي والمكلف بتوصيل رسالته إلى المتلقي. البطل هو الأنا الثانية للكاتبة أو هو القناع الذي يتمرد عليها، وإن كنا نرى أن الكاتبة انتقمت بشكل أو بآخر من شخصيات الرجال داخل العمل فجعلتهم جميعاً في حال معاناة وتهميش، كما أنها لجأت إلى السارد البديل، ولعل مرد ذلك وعي الكاتبة وإدراكها أن الشكل الحكائي قد يفتضح بفعل الأفكار التي ما زالت مطموسة في الخطاب الثقافي.

وتحاول جوخة الحارثي هدم صورة شخصية الرجل من خلال الانتصار عليه وقهره وإدخاله في دائرة صراع نفسي لا ينتهي، فترسم لنا صورة شخصية الأب مرتبطة بثنائية «الحضور - الغياب»، فهناك رفض لتسلطه وإنكار لذلك الرفض عند وجوده والحنين إليه عند فقده لتجرده من كل معاني الأبوة. هام الأب «عزان» على وجهه مع الغجرية الجميلة «نجية قمر»، أما التاجر «سليمان» فكان متسلطاً قاسياً، في حين استبدل الزوج عبد الله قيداً بقيد، فبعد تسلط الأب عليه جاء تسلط الزوجة ليصبح مستأنساً بينما غلب على شخصية المرأة الطابع الذكوري، كما أنه كان فاقداً للسيطرة على أولاده.

تعيد المرأة في الروايات محل الدراسة إنتاج ثقافة الرجل باعتباره صاحب السيطرة

واختزلت الكاتبة المصرية عزة رشاد الأنظمة الذكورية في شخصية «رضوان بك البليسي» في رواية «شجرة اللبخ»، وإن كانت نجحت في التخلص من ذلك الاستغلال الذكوري بأسلوب رمزي يتمثل في مقتله في صومعة فتاة الليل؛ لذلك انعكس اضطراب صورة شخصية الأب على النظرة السلبية إلى الذات لدى شخصية الابن «فارس بك» التي تمثل نموذج الرجل المقموع من قبل أبيه الذي كان أيضاً لا يكترث لمشاعر المرأة ويظهر انتهازياً يسعى وراء رغباته.

في هذا النص، يتخذ «رضوان بك» من أمواله ومنصبه وسائل لإشباع رغباته وتحقيق نزواته، كيف وهو الذي توارى خلف السياسة لتحقيق مصالحه فيبدو في ظاهره سياسياً وفي باطنه انتهازياً. إنه نموذج غريب لذلك السياسي اللاأخلاقي الذي لا يكتفي بتحقيق مصالحه، بل يتعداها للعبث في حرمات الآخرين، ولا يأبه لأنات الشباب الذين قام بتسليمهم للسلطات لخدمة ميدان المعركة البريطانية / التركية على أرض فلسطين والفلوجة مقابل عدم مصادرة أراضيه، على اعتبار أن الأفراد الذين يتم اختيارهم ككباش فداء يجب ألا يكون بمقدورهم الرد عن الأذى الذي قد يلحق بهم. في ذلك يقول ابنه فارس عنه إنه كان «مشغولاً بمزادات الأراضي والعبيد والمجوهرات وأحوال البورصة، ولم يحفظ للبيت حرمته ولم يكن مخلصاً حتى لأصدقائه».

وتتميز صورة الرجل في رواية «زرايب العبيد» للكاتبة الليبية نجوى بن شتوان بثيمة بارزة تتمثل في «فقدان الذات» الذي يعاني منه «السيد أمحمد الصغير» بعشقه للجارية «تعويضة» وفقده ابنه، كما تبدو العائلة في هذا السياق نموذجاً مثالياً لمدى تدهور علاقة الأبناء بالوالدين حيث لا يوجد أي تواصل إنساني بين الأب والأبناء، ما يعزز من سيادة الجوع العاطفي الذي يؤدي إلى انخفاض الاعتبار للذات وخيبة الأمل وانخفاض الروح المعنوية.

هدمت نجوى بن شتوان صورة شخصية الرجل المنسحب السلبي «السيد أمحمد الصغير» بأن جعلت مذلته على يد معشوقته «تعويضة» لتختم الرواية بكسر الهاجس الذكوري المهووس بقوة الرجل ودونية المرأة، فنرى تحول البطل من الفحولة والرغبة إلى المهانة والضعف.