لبنان... لصوص كتب مَهَرة في ظل سبات القانون

الخسائر السنوية الإجمالية على صعيد الوطن العربي بملايين الدولارات

لبنان... لصوص كتب مَهَرة في ظل سبات القانون
TT

لبنان... لصوص كتب مَهَرة في ظل سبات القانون

لبنان... لصوص كتب مَهَرة في ظل سبات القانون

يتفنّن قراصنة الكتب في سرقة المحتوى الأصلي وبيعه: من تصوير الكتاب الورقي تصويراً رديئاً، إلى إعادة طباعته طبعة مزوّرة، فإلى مسحه إلكترونياً ونشره بصيغة «بي دي إف» (PDF). وهناك من يعمد إلى تنضيد الكتاب وإعادة تصميمه وطباعته نسخةً مزوّرة طبق الأصل! تجّار الهيكل هؤلاء لا يتوانون عن نصب خيامهم أمام معارض الكتب ومدّ طاولاتهم داخلها. لا وزن للكتاب عندهم، ولا قيمة إلّا للغلة التي يحصّلونها من صيدهم. هم لصوص مَهَرة يحترفون التفلّت من قبضة الناشر الذي يُضطر للتحوّل إلى تحرٍّ يستقصي ويلاحق ويجمع الأدلّة التي تنتهي إلى دُرج ما في ظلّ سُبات القانون، وإن حالفه الحقّ وجاءه اليُسر بعد عسر التقاضي، لا يأتي عَوَضه المادي عن خسائره وأضراره الجسيمة إلّا نزْراً.

قراصنة الكتب مافيا منظَّمة تنشد الربح السريع والوفير على حساب الناشر والمؤلّف وكلِّ معنيّ بصناعة النشر. هي شبكة رأسها المدبّر هو المزوّر الذي ينتقي الكتاب الأصلي بناءً على أهمّيته ورواجه، وأذرعتها هم المتآمرون معه من مطابع ومروّجين ووكلاء وباعة. ويبقى الكتاب الأكثر مبيعاً هو الأكثر جذباً للقراصنة.

هذه الآفة، التي تفتك منذ سنين بأهل الكتاب، تتفشّى اليوم بشكل مرعب لسهولة التداول بالكتاب المقرصَن عبر الإنترنت على صيغتيه: الورقية التي تُعرَض بأسعار زهيدة وخدمة توصيل مجانية، والرقمية (PDF) التي يمكن تحميلها بكبسة زرّ بلا أي كلفة. تهدّد هذه الآفة وجود دور النشر التي سنراها تقفل، داراً تلو دار إن بقيت الأمور على حالها.

القرصنة تشلّ صناعة الكتاب؛ حيث تقدَّر الخسائر السنوية الإجمالية في قطاع النشر على صعيد الوطن العربي بملايين الدولارات. وهذا الشلل يُجبر الناشر على خفض إنتاجه، وبالتالي عدم تزويد المكتبات بإصدارات تتناسب والطلب عليها. ويُفضي هذا التقلّص في المنشورات إلى انحسارٍ فكري ثقافي له تبعات جلل على الثقافة العربية.

4500 موقع قرصنة

جعلت منصة «نيل وفرات» لبيع الكتب الورقية والإلكترونية عبر الإنترنت التصدّي للقرصنة شغلها الشاغل، ورصدت حتى اليوم آلاف المواقع التي تبيع كتباً مقرصنة بلغ عددها نحو 4500 موقع. نجحت المنصة في التبليغ عن 38.704 منتجاً مقرصناً تمّت إزالتها. لكن كلما رُصدَت تحرّكات القراصنة اللامشروعة وتمّ التبليغ عنها، استشرى القراصنة وتفشّوا أكثر وأنشأوا بدل الموقع مواقع.

من روايات أليف شافاك، إلى إيزابيل الليندي، وهاروكي موراكامي، لطالما عانت دار الآداب من السرعة التي يخطف بها القراصنة منشوراتها، هذا بالإضافة إلى رواياتها العربية الحائزة على جوائز معروفة.

لم يوفّر القراصنة إصدارات شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، أوّلها روايات باولو كويلو الـ19، وعلى رأسها رواية «الخيميائي»، ومذكّرات القادة العالميين، و«عقيدة الصدمة» لنعومي كلاين، وكتب نعوم تشومسكي وكتب أوشو، وغيرها المئات من الكتب السياسية والفكرية. وعندما يذكر أي ناشر عناوينه المقرصَنة، فهو يتحدّث عن آلاف النسخ المزوّرة، وليس ما يُعدّ منها ويُحصى.

أما دار التنوير، فأكثر من 60 كتاباً من كتبها المترجَمة الأكثر مبيعاً مطروحة ورقياً بنسخ مزوّرة، ومنها أعمال دوستويفسكي، و«فن اللامبالاة»، و«العادات الذريّة»، لتجد ضعف هذا العدد متداولاً بصيغة PDF لمنشوراتها العربية، مثل «التداوي بالفلسفة» لسعيد ناشيد.

دار النهضة، بعناوينها التي تتخطى الألف، تتحسّر على ما آل إليه الوضع، فمعظم كتبها متاحة بالمجان ولا يمرّ يوم إلّا وتجد فيه إصداراً جديداً لها قد سُرق.

ويبدو أنّ لكتب تطوير الذات والتنمية البشرية مكانة خاصة على رفوف القراصنة الذين انتقوا من دار «الخيال»: «السماح بالرحيل» لديفيد هاوكينز، و«قوة الآن» و«أرض جديدة» لإكهارت تول، و«اسأل تعط» للكاتبين إستر وجيري هيكس، و«التفكير الإيجابي» لنورمان فنسنت بيل وسواها.

وهي الحال بالنسبة إلى دار الساقي، التي تنوء كتبها من هذا النوع تحت وزر السرقة، وكذلك الكتب الفكرية، وكتب الدكتور محمد شحرور، وحتى كتب الأطفال!

وكتب الأطفال الصادرة عن دار الراتب، باتت «ديجتال» في سجلّ القراصنة الذين حلّلوا لأنفسهم بيع مئات النسخ منها للجهات التي كانت تتزوّد بها من هذا الناشر الأصلي. وهكذا يكون قطع الأرزاق بمفهوم اللصوص عملاً عادياً جداً.

ومهما فعلت الدار العربية للعلوم لمكافحة القرصنة، يسبقها القراصنة بخطوة دوماً، كأنهم يرصدون حركة كتبها الأكثر مبيعاً من روايات مترجَمة وأخرى مؤلّفة بالعربية، وكذلك كتب تطوير الذات، وحتى كتب الناشئة لديها لم تسلم من السرقة، مثل «مذكرات طالب».

قلّة من غير المعنيين بصناعة النشر تعرف حجم الأكلاف الهائلة التي يتكبّدها الناشر لإنتاج الكتاب. في حالة الكتاب المترجَم، يدفع الناشر المحلّي حقوق شراء الكتاب من الناشر الأجنبي، ثمّ حقوق المؤلّف عن المبيع. ويدفع بدل الترجمة، والتدقيق اللغوي، وكلفة الورق والطباعة والتخزين والتوزيع والتسويق، ناهيك عن أجور الموظّفين العاملين على إعداد الكتاب وإخراجه وتصميمه فنياً، ومن ثمّ تحويله إلى نسخة إلكترونية (E-book). وفي حالة الكتاب المؤلَّف باللغة العربية، يدفع الناشر حقوق المؤلف السنوية، وبدل التدقيق اللغوي وتحرير المحتوى، بالإضافة إلى الأكلاف الآنفة الذكر. ومجموعها يقدّر، لكل كتاب، بآلاف الدولارات التي يحتاج الناشر إلى سنين لردّها.

وتبرّر هذه المافيا جرائمها بأنّها تساعد في توفير الكتاب للجميع بسبب ارتفاع أسعار الكتب، غير أنّ السبب الحقيقي هو النفع المادي الذي يعود عليها من الإعلانات التي ترعى المواقع الخاصة ببيع الكتب المقرصَنة أو توفيرها مجاناً، ومن الكمية الهائلة للكتب الورقية المبيعة بأسعار بخسة. وإن كان البعض يعدُّ سعر الكتاب الأصلي الورقي باهظاً، فوجود النسخة الإلكترونية منه (E-book) تتيح لأي قارئ شراء الكتاب بسعر أقل، كما أن دور النشر توفّر حسومات كثيرة على منشوراتها إن في معارض الكتب أو في المكتبات.

القرصنة جريمة. وهي، حسب القانون، انتهاك لحقوق الملكية الفكرية وحقوق النشر والتأليف. ونشر الكتب المقرصَنة وبيعها بأي صيغة من دون إذن الناشر و/أو مالك الحق يعرّض المقرصِن والتاجر للملاحقة القضائية، كما جاء في القانون اللبناني لحماية الملكية الأدبية والفنية رقم 75 تاريخ 3/4/1999، «يعاقب بالسجن من شهر إلى 3 سنوات وبجزاء نقدي [...] وتُضاعف العقوبة في حالة التكرار».

لبنان كان سبّاقاً إلى حفظ حقّ المؤلف ونصِّ قوانين لحماية الملكية الأدبية والفنية والتوقيع على ميثاق برن في عام 1924، وكان الدولة العربية الوحيدة التي انضمّت إلى الميثاق العالمي لحماية حقوق المؤلف في عام 1959، غير أن أزماته المتعاقبة ومآزقه الكثيرة حدّت من تطبيق هذه القوانين، ما شجّع لصوص الكتب على السرقة علناً من الباب العريض... وبهذا، تُرك الناشر وحيداً في كفاحه. وعلى إثره، اجتمع عدد من كبريات دور النشر اللبنانية وشكّلت مجموعة تحت اسم «ناشرون من أجل المهنة» تحاول منذ سنين توعية القارئ إلى ماهيّة القرصنة وتعريفه بمخاطرها، ولفته إلى أن شراء الكتاب المزوّر هو مشارَكة في الجريمة، كما تسعى المجموعة إلى التصدّي للتزوير والقرصنة بكل الطرق، والعمل من أجل صون حركة النشر في العالم العربي.

من هنا، فإنّ صرختنا هذه دعوة لكل الجهات الحكومية والمنظّمات الدولية المعنية بالكتاب إلى التصدّي لهذه الجريمة ومؤازرة الناشر العربي للوقوف أمام القراصنة بقوّة القانون.

 

* مترجمة وكاتبة وناشرة لبنانية

 



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.