فصل من رواية «سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون» للراحل خالد خليفة

تصدر قريباً

فصل من رواية «سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون» للراحل خالد خليفة
TT

فصل من رواية «سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون» للراحل خالد خليفة

فصل من رواية «سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون» للراحل خالد خليفة

تصدر قريباً عن دار نوفل/ هاشيت أنطوان رواية «سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون» للروائي السوري الراحل خالد خليفة (1964 - 2023)، وهي الرواية الأخيرة التي كتبها خليفة قبل وفاته، وتصدر بعد غيابه بعام. في هذه الرواية، التي تقع في 264 صفحة، يصفي خالد حساباته مع الزمن، لتغدو وكأنها بوح موارب عن أحلامه وإحباطاته، من خلال سرد حكاية شلّة تحاول عبثاً إعادة بثّ الحياة في مدينة تموت! إنه يتحدث عن مدينة اللاذقية في سوريا، بشوارعها وأزقتها، ومعالمها التي شوّه معظمها الفساد الإداري وصفقات المقاولين. ينعى المدينة من خلال موت أحلام شبابها. هم شلة موسيقيين وشعراء وراقصة حاولوا إعادة بث الحياة في مدينةٍ تموت لكنّهم كانوا على موعد مع الخيبات القاتلة. فلا أحلامهم الموسيقية تحققت، ولا قصص حبهم عاشت، ولا أفضى مستقبلهم إلى الإنجازات التي تمنوها. لكلٍّ من أبطال الرواية، «المسوخ» كما تطلق عليهم صديقتهم، معاناته، وتسلخاته، وخيبته، ولكلٍّ منهم وهمٌ ابتلعه في نهاية الحكاية.

فيما يلي مقتطف حصري من رواية «سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون»:

«كنّا مجتمعين في دكّان أبي، نناقش أمرنا كفرقة، وسط علب سائل الجلي، والموادّ المهرّبة التي يؤمّنها له رفاقه المساعدون الأوّلون الذين ما زالوا يخدمون في لبنان. في تلك السهرة شعرنا جميعاً بأنّ فكرة الفرقة سرابٌ وخديعة وقعنا فيها، الأمر ليس بهذه البساطة التي افترضناها، استسلمنا لفكرة أن نكتب ونلحّن ونغنّي لأنفسنا في هذه الفترة، لم نتّفق على شيء، حاولنا إعادة المحاولة في الغناء، واقترحنا تسجيل كاسيت لأغانينا وترويجه ضمن مجموعاتٍ شبابيّة تهتمّ بعملنا. أصبح في رصيدنا أكثر من عشر أغانٍ، دعتنا مجموعة من الشعراء الشباب في حلب، فذهبنا وارتجلنا حفلةً في منزل أحدهم، لكنّه أخبرنا لاحقاً أنّه استُدعي في اليوم التالي إلى فرع الأمن حيث هُدّدَ بالحبس إن قام مرّةً أخرى بتنظيم حفلةٍ دون إذن. أفهموه أنّنا فرقةٌ ممنوعة.

انقطعت عنّا منال، حبسها أخوها الكبير منعم في غرفةٍ وبدأ يتعامل معها بإذلالٍ شديد، وهي استسلمت تمامًا، تنفّذ كلّ ما يطلبه منها، كسجينةٍ تقاوم بالصمت كلّ عبثه وقسوته. كانت تعرف أنّها في هذه اللحظة تمنحه فرصةً حقيقيّة ليمارس بشكلٍ عملي حلم عمره بأن يكون سجّاناً. في فترة انتظار قبول طلب تطوّعه كسجّانٍ في جهاز المخابرات، كان يحاول التدرّب على العيش ضمن السجن، أراد تصفية حسابه مع خروجها الأخير وما قالته المدينة عن غنائها شبه عاريةٍ على مسرح الكنيسة. سألها عن موسى وعن الحفلة والسهرة على الشاطئ التي تناقلتها المدينة مؤكّدةً أنّنا مجموعةٌ من شهود يهوه مرّة، ومرّةً أخرى وأقرب إلى المعقول أنّنا مجموعة عبدة الشيطان. لم تجبه منال، تعلّمت أنّ الصمت أقوى فعل للاحتقار. كان صمتها يثيره، وفي لحظةٍ تخاف فعلاً من تحرّشه، فتصرخ بقوّة لتنبّه من في المنزل لإنقاذها، كما رحّبت ببقاء يارا معها، فوجودها يحميها من التحرّش. لم يكن تحوّله المفاجئ غريباً عن أفراد العائلة الذين يعرفون أحلامه مذ كان طفلاً، حلم بأن يكون قاتلاً مأجوراً، سفّاحاً، وفي النهاية استهوته فكرة الجلّاد.

تصاعد قلق موسى. قامت ماريانا بدور ساعي البريد، تحمل رسائل حبّه الملتهبة وفيها سجائر حشيش ملفوفة إلى منال المحبوسة في منزل أهلها، والتي يتحدّث الجيران عن سمعتها السيّئة، ويحرّضون عائلتها على تربيتها. قالت ماريانا إنّها خسرت الكثير من وزنها، وجهها أصبح شاحباً، وتعاني من فرط الكآبة. كان موسى يقرأ لنا مقاطع من رسائلهما المتبادلة، كتب لها مرّةً رسالةً يخبرها عن صباح المدينة (يجب أن تصدّقي أنّ هذه المدينة أصبحت غريبة، لقد ذهبت مع القتلة إلى مخادعهم، هذا الصباح وأنا جالسٌ في مقهى شناتا راقبتها تتوضّأ بالدم، لقد بدأوا بهدم معبد ذكرياتنا...).

ردّت عليه منال برسالةٍ قصيرة كتبنا بعض عباراتها على آلاتنا (توضّأت المدينة بالدم، صلّت علينا، أمواتاً ننهض كلَّ صباح، نزور قبورنا ونعتني بزهورها، نحن الأموات، يقتلنا القتلة، وتذهب مدينتنا كلّ ليلةٍ معهم إلى مخادعهم).

جميعنا افتقدنا منال، التي تحوّلت من حبيبة موسى إلى معبودتنا جميعاً، ننتظرها دوماً، تدخل وتقلب الطاولة، تمزّق دفاتر أفكارنا التي نكتشف أنّها مكرّرةٌ وباهتة، وتقودنا من أيدينا إلى حماقاتٍ جديدة. لم تستطع يارا احتمال فقدانها، لم تكتف بالرسائل، حملت حقيبة ملابس صغيرة ورافقت ماريانا، قالت: لن أعود إلّا ومنال معي. وصفت فيما بعد حياتهما في الحبس المنزلي، لم يفهم شقيقها منعم معنى قدوم فتاةٍ جميلة وغضّة لتقاسم صديقتها الحبس. مدّت رجليها ببساطة وطلبت منه تقييدها إذا أراد ذلك. لم تخف من نظراته، شعر بورطةٍ حقيقيّة رغم إعجابه بالفكرة. لم تعد منال تريد الخروج من المنزل. أرادت للجميع رؤيتها سجينةً في غرفتها، دعت الجيران والأقارب وكانت يارا جالسةً قربها.

آخر الليل كانت يارا تحتضن منال وتتحدّث الاثنتان بإنكليزيّةٍ صافية عن الرقص والطيران والحبّ والخيبة. تستمع منال طويلاً ليارا تخبرها بأنّها لن تعيش طويلاً، تضيف: لا يمكن لمسخ أن يعيش قرناً. العيش الطويل فعلٌ غبيّ، ماذا نفعل سوى التكرار؟ أضافت يارا أنّ روني لا يحبّها، لكنّها لا تكترث. يكفيها الحبّ الناقص. فهي تشعر بأنّها قد تغادر المدينة في أيّ لحظة، والحبّ الناقص يجعلنا أكثر حرّية. وافقتها منال. ثمّ سمح لها منعم بالخروج، وهو ينظر خجلًا الى الأرض، ويدعوهما لمشاركته الإفطار، معلناً خبر قبول تطوّعه في المخابرات بعد توسّط صديقه غدير له.

الرسائل التي حملتها ماريانا لمنال قرّبتها منها ومنّي، كانت ماريانا تشعر بأنّها تقوم بفعلٍ عظيم لرفاقها. أصبحت جزءاً من فرقتنا، تندسّ في صدري وتطلب منّي ألّا أتوقّف عن احتضانها، لم أعد أشعر بأنّني عاشقٌ فائضٌ عن الحاجة، تأتي كلّ صباحٍ إلى غرفتي في منزل أهلي، نشرب قهوتنا، ونختلس القبلات، وبقيت غرفتها في منزلها مكاناً دائماً لحبّنا حين تغيب الجدّة.

بعد عودتها إلينا كتبت منال أغنيةً لفرقتنا، قرأتها لنا:

رأيت الموت يتسرّب من النوافذ،

يقرع الأبواب

يخطف الصبايا الجميلات

أنا التي ودّعت صديقتها التي باعها أهلها بالأمس مقابل حصان

وأربعة أزواج من الأحذية

أنا مسخةٌ عمياء رأيت المدينة ولم ترني

أنعق كبومةٍ كلَّ ليلةٍ في خرائب قلوبكم.

هل عرفتم من أنا؟

ابنة الخراب الذي حفرتم أعمدته في زوايا المدينة الأربع

لم تهتمّ سوى بالصور المرعبة التي أحاطت بطفولتها، كانت المدينة بالنسبة إليها مكاناً لمرور النعوش ومقبرةً كبيرة، وفي أغنيةٍ أخرى كتبت (لا تقلق، الزهور تنمو ذابلة، تقتات من موتنا). نعم، كنت أفكّر في هذا دوماً، أنّ الزهور تنمو رغم ذبولها، وفي تلك اللحظات كانت تقتات من موتنا.

في حفلتنا الثانية ذهبنا إلى بيروت، عزفنا في بار last night ثلاث ليالٍ، شعرنا بأنّ وضعنا أفضل، بدأنا ندير أمور فرقتنا، أخذنا نقوداً، وعشنا ليل بيروت، تلقّينا دعواتٍ خجولة، ووُعدنا بالعودة مرّةً أخرى.

وصلنا منهكين إلى اللاذقيّة، كان المنزل فارغاً، والباب مفتوحاً، استغربت الأمر، لا يمكن لأهلي ترك الباب مفتوحاً بهذه الطريقة. سمعت بكاء عمّتي نديمة، فتحت باب غرفتها في الطابق الأرضي، تصاعد عويلها، أخبرتني أنّ أخي صالح مات قبل ساعتين، وأنّني أصبحت الذكر الوحيد لعائلتي. مات ظلّي وظلّ العائلة وبقينا جميعاً دون ظلّ. لحقت بالعائلة إلى المشفى العسكري، كان الجميع ينتظرون السماح لهم برؤية جثمانه.

كان وقع الخبر على العائلة صاعقًا يوم 14 كانون الأول 1991، لم نصدّق ما حدث حتى أدخلونا مشرحة المشفى العسكري وتلمّسنا جثّته الباردة. أختاي صفاء وحليمة مزّقتا ثيابهما، أمّي بكت دون توقّف، ظلّت تبكي حتّى عودتنا من زيارة قبره في ذكرى سنويّته الأولى. جلست إلى طاولة العشاء، سكبت في صحنها قطعة لحمٍ كبيرة، مسحت دموعها بعد توقّفها وسط ذهولنا، وقالت: أخذت حصّتي من البكاء. منذ تلك اللحظة، لم يرها أحدٌ تبكي. خسر أبي حلمه الوحيد برؤية ابنه ضابطاً يخرجه من حفرة صفّ الضابط التي عاش فيها طوال حياته، منذ تلك اللحظة تغيّر كثيراً، بقي إلى نهاية عمره حزيناً وشارداً، انحنى ظهره، وانخفض صوته، وأصبح ماضيه أقلّ بطولة، فكّر بأنّ موت صالح رسالةٌ ربّانيّة لعدم محاولة تغيير ما قسمه الربّ من أرزاقٍ وطبقات».



تجربة التشارك في الكتابة

تجربة التشارك في الكتابة
TT

تجربة التشارك في الكتابة

تجربة التشارك في الكتابة

الكتابةُ فعالية تتمنّعُ على المشاركة وتستعصي على كسر إطار الفردانية. هذا أحد القوانين الأساسية في الكتابة. ليس الأمر محض قرارٍ رغبوي أو خصيصة استئثارية لدى الفرد بقدر ما إنّ طبيعة الفعالية الكتابية تستلزمُ هذه الفردانية وتفرضُ شرطها الموضوعي بشأن تمنّع المشاركة. الكاتب في أي حقل معرفي، وسواء أكان في الحقول التخييلية (fiction) أم غير الإبداعية (non-fiction) إنّما هو حصيلة عناصر إبداعية ونمط ذهني وتفاعلات عصبية على المستوى الجزيئي الدقيق لها من الممكنات الاحتمالية ما يجعل إمكانية تطابقها أو اقترابها مع خواص كاتب آخر أمراً يقاربُ حدود الاستحالة. هذه الاستحالة في تقارب الخواص الذهنية تُترجمُ بعبارة استعصاء التشارك في الفعالية الكتابية. من البديهيات القولُ إنّ استعصاء المشاركة في الحقول الكتابية الإبداعية أكثرُ بكثير من قرينتها في الحقول غير الإبداعية. هذا أولاً، وثانياً لننتبهْ: تجربة تحرير الكتب ليست مشاركة بالمعنى الحقيقي بل بالمعنى الاعتباري فحسب. عندما يختارُ أحد محرّري كتابٍ ما في سلسلة كتب كامبردج المرجعية (Cambridge Companions) مثلاً تحرير كتاب فهو يلجأ أولاً لمكاتبة مؤلف معروف بذيوع شهرته العالمية في الجزئية الخاصة ضمن الموضوع العام للكتاب؛ أي أنّ الكتاب المحرّر هو أشبه بكتب صغيرة بموضوعات فرعية في سياق الموضوع الرئيسي في الكتاب، والشاهد في هذا أنك تستطيع قراءة فصل واحد فحسب يهمّك أكثر من سواه وتترك باقي فصول الكتاب.

توجد حالات مخصوصة بذاتها يمكن فيها تشاركُ الكتابة؛ بل وتصبحُ الفعالية التشاركية إثراءً لموضوع الكتابة وكشفاً عن جوانب مخبوءة فيه يراها شريك الكتابة من جوانب قد تكون غير مرئية لشريكه. أظنّ أنّ هذا التوصيف لشرط التشارك يصحُّ بأعلى قدر من المثالية مع حالة الزوجين عندما يتآلفان على المستويين العقلي والروحي ويعيشان حياة مديدة مفعمة بالنشاط الذهني. الرفقة الزوجية الممتدة لعقود طويلة، فضلاً عن تقارب الاهتمامات، أمرٌ بمستطاعه كسر قوانين حتمية التنافر بين التطلعات الكتابية لكلّ من الزوجين؛ لكنّ هذه الرفقة ليست شرطاً لازماً لتحقّق نجاح التشارك الكتابي الذي يحتاجُ في الأغلب انعطافة وجودية فارقة وخطيرة في حياة الزوجين تهدّدُ كينونتهما الزوجية. لا تحصل المشاركة الكتابية بين الزوجين بفعلٍ إرادي مجرّد بقصد الكتابة عن موضوع أكاديمي أو غير أكاديمي بمحض الرغبة المجرّدة؛ بل تتحقق في العادة بفعل تهديد وجودي قد يترتّب عليه فصمُ العلاقة الزوجية أو التمهيد لانتهائها رغماً عن الزوجين.

يحضرُ لذاكرتي من التجارب العربية الرائدة في المشاركة الكتابية تجربةُ المعماري الراحل رفعت الجادرجي الذي تشارك مع زوجته بلقيس شرارة في كتابة كتابهما المشترك «جدارٌ بين ظلمتيْن»، وهو كتابة توثيقية بمنحى إبداعي مميز لا يغفله القارئ لما يقاربُ السنتين من حياة السجن الرهيبة التي قاساها الجادرجي. رتِبت فصول الكتاب بطريقة قصدية متناوبة تناول فيها الزوج أولاً ثم زوجته الكتابة عن جزئية محدّدة كما رآها الكاتب وعاشها. أحسبُ أنّ شروط المشاركة حاضرة هنا: زوجان عاشا حياة هنيئة لعدّة عقود من السنوات، وكلّ منهما له وضعه المهني الناجح بالمقاييس العامة، يواجهان تجربة وجودية مهدّدة لاستمرارية علاقتهما الزوجية إذا ما غاب الزوج جسدياً. هي تجربة مثالية لتحقق المشاركة الكتابية. لنلاحظْ دقة الاختيار للعنوان (جدارٌ بين ظلمتيْن): الجدار هنا هو جدار السجن الذي جعل كلاً من حياة الزوج وزوجته ظلمة مديدة، وتلك إشارة إلى مدى تعلّق كل منهما بالآخر.

تجربة أخرى، من العالم الغربي هذه المرة، هي تلك التي تشارك الكتابة عنها إرفن دي. يالوم (Irvin D. Yalom) وزوجته مارلين يالوم (Marilyn Yalom). ربما عرف كثير منّا الدكتور إرفن يالوم عبر ترجمات أعماله العديدة إلى العربية: العلاج النفسي الوجودي، عندما بكى نيتشه، مشكلة سبينوزا، علاج شوبنهاور، تعرية الحب. الكتاب الذي تشارك كتابته يالوم مع زوجته عنوانه «مسألة موت وحياة» (A Matter of Death and Life). عمل الدكتور يالوم لأكثر من نصف قرن أستاذاً لعلم النفس المرضي (Psychiatry) في جامعة ستانفورد، وكانت له طوال فترة عمله الأكاديمي عيادة نفسية وفّرت له مادة خصبة استثمرها في كتبه العديدة؛ أما زوجته التي عاش معها أكثر من ستة عقود فكانت أستاذة الأدبين الألماني والفرنسي في الجامعة ذاتها التي عمل فيها زوجها. الحقيقة المؤكّدة أنّ كلاً من الزوج والزوجة كان رائداً عالمياً في نطاق اختصاصه الأكاديمي.

من الفصول التمهيدية تتحقق لنا شروط المشاركة الكتابية: زوجان محبّان عاشا عقوداً طويلة مكتنفة بضروب التفوق الأكاديمي والهناءة العائلية على كل الأصعدة، ثم تصابُ الزوجة بعد أن تجاوزت الثمانين بسرطان عنيد في خلايا بلازما الدم، وهذا ما جعل الزوج الذي كان يعاني ضروباً من الأمراض قلقاً أشدّ القلق من فكرة موت زوجته التي أحبها وأحبّته. كيف تعامل مع هذا القلق؟ لجأ بنصيحة ملحّة من زوجته المريضة إلى تأجيل كلّ مشاريعه الكتابية الفردية والانغمار في مشاركة زوجته بكتابة هذا الكتاب. الجميل في الأمر أنّ يالوم وزوجته وضعا مخططاً ابتدائياً لهندسة موضوعات الكتاب، وهذا يعلّمنا دروساً رائعة منها التأكيد على القيمة العلاجية للكتابة، وأنّ الكتابة الجادة والمنتجة تستلزم قدراً من الانضباط والهندسة الموضوعاتية ولن تأتي عفو الخاطر أو بفعل هبة مجانية تحت ستار ادعاء عبقرية وهمية زائفة.

الكتابُ مكسوٌّ بغلالة من الحزن. هذا أمر مؤكّد ومفهوم ولا يمكن التغافل عنه بادعاء عقلانية الغربيين في التعامل مع الحقائق الوجودية (الموت مثلاً)؛ لكنه ليس مرثية (Elegy) بكائية. نحنُ إزاء عمل انكبّ عليه الزوجان بكلّ ما في قلبيهما من طاقة الحياة وعنفوانها حتى لو كان الموت يحوم فوق رأسيهما، وقد أكّد الزوجان ذلك في عبارة رائعة تصدّرت الكتاب «الحزن هو الثمن الذي ندفعه لقاء شجاعتنا كي نحبّ الآخرين». إلى جانب حالة التعاطف الوجداني مع الزوجين، وهي حالة إنسانية طبيعية متوقّعة، فالكتاب حافلٌ بضروب الشروحات والتعليقات عن تفاصيل كثيرة بعضها أكاديمي وبعضها الآخر يقعُ في نطاق الارتقاء بالقدرات الفكرية العامة للقارئ، فضلاً عن الاسترشاد بموجبات العيش الطيب.

كثيرة هي الدروس التي نتعلمها من تجربة العيش المشترك والكتابة المشتركة بين الزوجين يالوم. يكتب الزوج في بعض هذا الشأن: «بعد أن نستعرض تلك الذكريات الرائعة تضغط مارلين على يدي وتقول: إيرف (إرفن)، لا يوجد شيء في حياتي معك أريد أن أغيّره. من جانبي أوافق على ذلك من أعماق قلبي. نشعر كلانا بأننا عشنا حياتنا بالكامل؛ فمن بين جميع الأفكار التي كنت أستخدمها لأريح المرضى الذين يخافون الموت لم أكن أجد فكرة أقوى من فكرة أن يعيش المرء حياة تخلو من الندم، ولا توجد لدينا أنا ومارلين أي مشاعر بالندم؛ فقد عشنا حياة جريئة كاملة، وكنا نحرص على ألّا تضيع منا أي فرصة للاستكشاف...».

الزوجة كذلك من جانبها، وهي في خضمّ تصارعها العنيف مع السرطان القاتل، لم تنس التفكير بحياة زوجها: «أشعر بالقلق أيضاً على صحته، خصوصاً عدم مقدرته على التوازن فيضطرّ إلى استخدام عكّاز في البيت ومشّاية خارج البيت. إنّ مجرّد التفكير بأنه قد يسقط ويصيبه أذى شديد يثيرُ ذعري. نحن نشكّلُ زوجاً جيداً؛ فأنا مصابة بالسرطان القاتل وهو يعاني مشكلات في القلب واضطراب في التوازن.

عجوزان في رقصة الحياة الأخيرة...».

من التجارب العربية الرائدة في المشاركة الكتابية تجربةُ المعماري الراحل رفعت الجادرجي زوجته بلقيس شرارة في كتابة كتابهما المشترك «جدارٌ بين ظلمتيْن»

يتوزّع الكتاب على خمسة وثلاثين فصلاً متفاوتاً في الطول، تناوب كتابتها الزوجان، ثم بعد وفاة الزوجة يختص الزوج بالفصول الأخيرة (وهي ليست كثيرة على كل حال)؛ وكأنه أراد القول: لا أريد المضي في مشروع الكتابة بعد وفاتك يا مارلين. تتفاوت طبيعة الفصول المكتوبة بين البوح المفعم بالمشاعر المخلصة والاستبصارات الفلسفية التي تساعدنا على العيش الطيب حتى ونحن في أوج أزماتنا الوجودية المتوقعة. ربما العناوين التالية لبعض فصول الكتاب تكشف عن المحتوى الدلالي لمتونه: عندما أصبحت عاجزة، إدراكُ الفناء، التقاعد: لحظة اتخاذ القرار، انتكاسات وآمال متجددة، مواجهة النهايات، وحيداً في البيت، مساعدة من شوبنهاور، سبعة دروس متقدمة في علاج الحزن. ينهي إرفن الكتاب بفصلين مؤثرين: أولهما عنوانه «تعليمي يستمر»، وهو إشارة جريئة إلى استمرارية العيش في الحياة بعزيمة ترى في الاستزادة من المعرفة واجباً أخلاقياً، وثانيهما عنوانه «عزيزتي مارلين»، وهو تذكرة لنا أنّ عيش الحاضر بكلّ قوة واندفاعة بعد غياب من نحب لا يعني نسيان أو تناسي من نحب.

كتابٌ على شاكلة «مسألة موت وحياة» تجربة حيّة وتطبيقية رفيعة في كيفية عيش حياة تستحق، بكلّ وقار وجلال وكرامة، بلوغ نهاياتها القصوى، وهي تتمايز نوعياً عن الكتب الموصوفة بـ«التنمية الذاتية» التي تبيع الوهم لأناس يعانون مرارة العيش في متاهات عالمنا المضطرب.

 

«مسألة موتٍ وحياة»

المؤلف: إرفن دي. يالوم ومارلين يالوم

المترجم: خالد الجبيلي

الناشر: ابن النديم للنشر، دار الروافد الثقافية

عدد الصفحات: 312

سنة النشر: 2023