فصل من رواية «سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون» للراحل خالد خليفة

تصدر قريباً

فصل من رواية «سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون» للراحل خالد خليفة
TT

فصل من رواية «سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون» للراحل خالد خليفة

فصل من رواية «سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون» للراحل خالد خليفة

تصدر قريباً عن دار نوفل/ هاشيت أنطوان رواية «سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون» للروائي السوري الراحل خالد خليفة (1964 - 2023)، وهي الرواية الأخيرة التي كتبها خليفة قبل وفاته، وتصدر بعد غيابه بعام. في هذه الرواية، التي تقع في 264 صفحة، يصفي خالد حساباته مع الزمن، لتغدو وكأنها بوح موارب عن أحلامه وإحباطاته، من خلال سرد حكاية شلّة تحاول عبثاً إعادة بثّ الحياة في مدينة تموت! إنه يتحدث عن مدينة اللاذقية في سوريا، بشوارعها وأزقتها، ومعالمها التي شوّه معظمها الفساد الإداري وصفقات المقاولين. ينعى المدينة من خلال موت أحلام شبابها. هم شلة موسيقيين وشعراء وراقصة حاولوا إعادة بث الحياة في مدينةٍ تموت لكنّهم كانوا على موعد مع الخيبات القاتلة. فلا أحلامهم الموسيقية تحققت، ولا قصص حبهم عاشت، ولا أفضى مستقبلهم إلى الإنجازات التي تمنوها. لكلٍّ من أبطال الرواية، «المسوخ» كما تطلق عليهم صديقتهم، معاناته، وتسلخاته، وخيبته، ولكلٍّ منهم وهمٌ ابتلعه في نهاية الحكاية.

فيما يلي مقتطف حصري من رواية «سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون»:

«كنّا مجتمعين في دكّان أبي، نناقش أمرنا كفرقة، وسط علب سائل الجلي، والموادّ المهرّبة التي يؤمّنها له رفاقه المساعدون الأوّلون الذين ما زالوا يخدمون في لبنان. في تلك السهرة شعرنا جميعاً بأنّ فكرة الفرقة سرابٌ وخديعة وقعنا فيها، الأمر ليس بهذه البساطة التي افترضناها، استسلمنا لفكرة أن نكتب ونلحّن ونغنّي لأنفسنا في هذه الفترة، لم نتّفق على شيء، حاولنا إعادة المحاولة في الغناء، واقترحنا تسجيل كاسيت لأغانينا وترويجه ضمن مجموعاتٍ شبابيّة تهتمّ بعملنا. أصبح في رصيدنا أكثر من عشر أغانٍ، دعتنا مجموعة من الشعراء الشباب في حلب، فذهبنا وارتجلنا حفلةً في منزل أحدهم، لكنّه أخبرنا لاحقاً أنّه استُدعي في اليوم التالي إلى فرع الأمن حيث هُدّدَ بالحبس إن قام مرّةً أخرى بتنظيم حفلةٍ دون إذن. أفهموه أنّنا فرقةٌ ممنوعة.

انقطعت عنّا منال، حبسها أخوها الكبير منعم في غرفةٍ وبدأ يتعامل معها بإذلالٍ شديد، وهي استسلمت تمامًا، تنفّذ كلّ ما يطلبه منها، كسجينةٍ تقاوم بالصمت كلّ عبثه وقسوته. كانت تعرف أنّها في هذه اللحظة تمنحه فرصةً حقيقيّة ليمارس بشكلٍ عملي حلم عمره بأن يكون سجّاناً. في فترة انتظار قبول طلب تطوّعه كسجّانٍ في جهاز المخابرات، كان يحاول التدرّب على العيش ضمن السجن، أراد تصفية حسابه مع خروجها الأخير وما قالته المدينة عن غنائها شبه عاريةٍ على مسرح الكنيسة. سألها عن موسى وعن الحفلة والسهرة على الشاطئ التي تناقلتها المدينة مؤكّدةً أنّنا مجموعةٌ من شهود يهوه مرّة، ومرّةً أخرى وأقرب إلى المعقول أنّنا مجموعة عبدة الشيطان. لم تجبه منال، تعلّمت أنّ الصمت أقوى فعل للاحتقار. كان صمتها يثيره، وفي لحظةٍ تخاف فعلاً من تحرّشه، فتصرخ بقوّة لتنبّه من في المنزل لإنقاذها، كما رحّبت ببقاء يارا معها، فوجودها يحميها من التحرّش. لم يكن تحوّله المفاجئ غريباً عن أفراد العائلة الذين يعرفون أحلامه مذ كان طفلاً، حلم بأن يكون قاتلاً مأجوراً، سفّاحاً، وفي النهاية استهوته فكرة الجلّاد.

تصاعد قلق موسى. قامت ماريانا بدور ساعي البريد، تحمل رسائل حبّه الملتهبة وفيها سجائر حشيش ملفوفة إلى منال المحبوسة في منزل أهلها، والتي يتحدّث الجيران عن سمعتها السيّئة، ويحرّضون عائلتها على تربيتها. قالت ماريانا إنّها خسرت الكثير من وزنها، وجهها أصبح شاحباً، وتعاني من فرط الكآبة. كان موسى يقرأ لنا مقاطع من رسائلهما المتبادلة، كتب لها مرّةً رسالةً يخبرها عن صباح المدينة (يجب أن تصدّقي أنّ هذه المدينة أصبحت غريبة، لقد ذهبت مع القتلة إلى مخادعهم، هذا الصباح وأنا جالسٌ في مقهى شناتا راقبتها تتوضّأ بالدم، لقد بدأوا بهدم معبد ذكرياتنا...).

ردّت عليه منال برسالةٍ قصيرة كتبنا بعض عباراتها على آلاتنا (توضّأت المدينة بالدم، صلّت علينا، أمواتاً ننهض كلَّ صباح، نزور قبورنا ونعتني بزهورها، نحن الأموات، يقتلنا القتلة، وتذهب مدينتنا كلّ ليلةٍ معهم إلى مخادعهم).

جميعنا افتقدنا منال، التي تحوّلت من حبيبة موسى إلى معبودتنا جميعاً، ننتظرها دوماً، تدخل وتقلب الطاولة، تمزّق دفاتر أفكارنا التي نكتشف أنّها مكرّرةٌ وباهتة، وتقودنا من أيدينا إلى حماقاتٍ جديدة. لم تستطع يارا احتمال فقدانها، لم تكتف بالرسائل، حملت حقيبة ملابس صغيرة ورافقت ماريانا، قالت: لن أعود إلّا ومنال معي. وصفت فيما بعد حياتهما في الحبس المنزلي، لم يفهم شقيقها منعم معنى قدوم فتاةٍ جميلة وغضّة لتقاسم صديقتها الحبس. مدّت رجليها ببساطة وطلبت منه تقييدها إذا أراد ذلك. لم تخف من نظراته، شعر بورطةٍ حقيقيّة رغم إعجابه بالفكرة. لم تعد منال تريد الخروج من المنزل. أرادت للجميع رؤيتها سجينةً في غرفتها، دعت الجيران والأقارب وكانت يارا جالسةً قربها.

آخر الليل كانت يارا تحتضن منال وتتحدّث الاثنتان بإنكليزيّةٍ صافية عن الرقص والطيران والحبّ والخيبة. تستمع منال طويلاً ليارا تخبرها بأنّها لن تعيش طويلاً، تضيف: لا يمكن لمسخ أن يعيش قرناً. العيش الطويل فعلٌ غبيّ، ماذا نفعل سوى التكرار؟ أضافت يارا أنّ روني لا يحبّها، لكنّها لا تكترث. يكفيها الحبّ الناقص. فهي تشعر بأنّها قد تغادر المدينة في أيّ لحظة، والحبّ الناقص يجعلنا أكثر حرّية. وافقتها منال. ثمّ سمح لها منعم بالخروج، وهو ينظر خجلًا الى الأرض، ويدعوهما لمشاركته الإفطار، معلناً خبر قبول تطوّعه في المخابرات بعد توسّط صديقه غدير له.

الرسائل التي حملتها ماريانا لمنال قرّبتها منها ومنّي، كانت ماريانا تشعر بأنّها تقوم بفعلٍ عظيم لرفاقها. أصبحت جزءاً من فرقتنا، تندسّ في صدري وتطلب منّي ألّا أتوقّف عن احتضانها، لم أعد أشعر بأنّني عاشقٌ فائضٌ عن الحاجة، تأتي كلّ صباحٍ إلى غرفتي في منزل أهلي، نشرب قهوتنا، ونختلس القبلات، وبقيت غرفتها في منزلها مكاناً دائماً لحبّنا حين تغيب الجدّة.

بعد عودتها إلينا كتبت منال أغنيةً لفرقتنا، قرأتها لنا:

رأيت الموت يتسرّب من النوافذ،

يقرع الأبواب

يخطف الصبايا الجميلات

أنا التي ودّعت صديقتها التي باعها أهلها بالأمس مقابل حصان

وأربعة أزواج من الأحذية

أنا مسخةٌ عمياء رأيت المدينة ولم ترني

أنعق كبومةٍ كلَّ ليلةٍ في خرائب قلوبكم.

هل عرفتم من أنا؟

ابنة الخراب الذي حفرتم أعمدته في زوايا المدينة الأربع

لم تهتمّ سوى بالصور المرعبة التي أحاطت بطفولتها، كانت المدينة بالنسبة إليها مكاناً لمرور النعوش ومقبرةً كبيرة، وفي أغنيةٍ أخرى كتبت (لا تقلق، الزهور تنمو ذابلة، تقتات من موتنا). نعم، كنت أفكّر في هذا دوماً، أنّ الزهور تنمو رغم ذبولها، وفي تلك اللحظات كانت تقتات من موتنا.

في حفلتنا الثانية ذهبنا إلى بيروت، عزفنا في بار last night ثلاث ليالٍ، شعرنا بأنّ وضعنا أفضل، بدأنا ندير أمور فرقتنا، أخذنا نقوداً، وعشنا ليل بيروت، تلقّينا دعواتٍ خجولة، ووُعدنا بالعودة مرّةً أخرى.

وصلنا منهكين إلى اللاذقيّة، كان المنزل فارغاً، والباب مفتوحاً، استغربت الأمر، لا يمكن لأهلي ترك الباب مفتوحاً بهذه الطريقة. سمعت بكاء عمّتي نديمة، فتحت باب غرفتها في الطابق الأرضي، تصاعد عويلها، أخبرتني أنّ أخي صالح مات قبل ساعتين، وأنّني أصبحت الذكر الوحيد لعائلتي. مات ظلّي وظلّ العائلة وبقينا جميعاً دون ظلّ. لحقت بالعائلة إلى المشفى العسكري، كان الجميع ينتظرون السماح لهم برؤية جثمانه.

كان وقع الخبر على العائلة صاعقًا يوم 14 كانون الأول 1991، لم نصدّق ما حدث حتى أدخلونا مشرحة المشفى العسكري وتلمّسنا جثّته الباردة. أختاي صفاء وحليمة مزّقتا ثيابهما، أمّي بكت دون توقّف، ظلّت تبكي حتّى عودتنا من زيارة قبره في ذكرى سنويّته الأولى. جلست إلى طاولة العشاء، سكبت في صحنها قطعة لحمٍ كبيرة، مسحت دموعها بعد توقّفها وسط ذهولنا، وقالت: أخذت حصّتي من البكاء. منذ تلك اللحظة، لم يرها أحدٌ تبكي. خسر أبي حلمه الوحيد برؤية ابنه ضابطاً يخرجه من حفرة صفّ الضابط التي عاش فيها طوال حياته، منذ تلك اللحظة تغيّر كثيراً، بقي إلى نهاية عمره حزيناً وشارداً، انحنى ظهره، وانخفض صوته، وأصبح ماضيه أقلّ بطولة، فكّر بأنّ موت صالح رسالةٌ ربّانيّة لعدم محاولة تغيير ما قسمه الربّ من أرزاقٍ وطبقات».



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.