ماذا يقول أركون عن ابن رشد؟

إعادة الاعتبار إلى فكره تساعدنا على مواجهة الظلاميين المتزمّتين

ابن رشد
ابن رشد
TT

ماذا يقول أركون عن ابن رشد؟

ابن رشد
ابن رشد

أعتقد أن محمد أركون كان يتماهى إلى حد ما مع ابن رشد، كان يجد نفسه فيه، بأي معنى؟ بمعنى أنه كان يجد نفسه مستبعَداً ومنبوذاً من قِبل الجمهور الإسلامي العريض، مثل سلفه الأكبر أيام قرطبة والأندلس ومراكش، ولكن الفارق هو أن أركون أصبح مقبولاً الآن، ويحظى بالإعجاب والتقدير من قِبل الجمهور المثقَّف الذي يتزايد عدده أكثر فأكثر في العالم العربي والإسلامي كله. ومعلوم أن ابن رشد رُفض من قِبل التيار الإسلامي المركزي، وماتت كتبه في أرضها، هذا في حين أن أوروبا تلقَّفَتها بتلهّف، وترجمَتها، وبنَت عليها نهضتها المقبلة، وهنا يكمن الفرق بين الأذكياء والأغبياء، ولا ننسى ابن سينا بطبيعة الحال الذي كان تأثيره عظيماً على أوروبا، بل وسبق تأثير ابن رشد من حيث الزمن.

ولكن قوم ابن رشد من عرب ومسلمين رفضوه، ورفضوا إعجابه بأرسطو، ورفضوا الفلسفة كلها، بل وكفَّروها باعتبار أن «مَن تمنطق فقد تزندق»، كما كانوا يقولون. كانوا يظنون (وربما لا يزالون حتى الآن) أن الفلسفة تُبعِد عن الله والدين، وهذا سبب ازدرائها وتحريمها من قِبل الفقهاء على مدار التاريخ حتى وقت قريب. والسؤال الذي يطرحه أركون هو التالي: لماذا فشل فكر ابن رشد في العالم الإسلامي، ونجح نجاحاً باهراً في العالم المسيحي الأوروبي اللاتيني؟

للجواب عن هذا السؤال يقول لنا ما معناه: لقد سقط فكر ابن رشد في مهاوي النسيان وسط جماعته العربية الإسلامية منذ القرن الثالث عشر الميلادي، أي بعد وفاته عام 1198، هذا في حين أن الفلسفة الرشدية راحت تشهد إشعاعاً كبيراً في كل أنحاء أوروبا المسيحية، وكانت أطروحاته تُدرَّس في جامعات بادوا بإيطاليا، والسوربون في فرنسا، وأكسفورد في إنجلترا... إلخ.

محمد أركون

هكذا نلاحظ الوضع؛ فشل كامل من جهة، ونجاح دائم من جهة أخرى. ولهذا السبب يرى أركون أن المسلمين لم يساهموا في تشكيل الحداثة الفكرية والعلمية والفلسفية منذ القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين، فقد تجاهل شيوخ السلطنة العثمانية، وشيوخ الإسلام عموماً، كل فتوحات غاليليو وديكارت وسبينوزا وفولتير وكانط وهيغل... إلخ، بل واحتقروها وازدرَوها وكأنها لم تكن، في حين أنها شكَّلت فتح الفتوح بالنسبة للروح البشرية، هنا يكمن جوهر الحداثة.

ولكن لماذا نلومهم على ذلك إذا كانوا قد تجاهلوا فكر ابن رشد ذاته وهو العربي المسلم؟ لماذا نلومهم إذا كانوا قد تجاهلوا فكر ابن سينا وكفَّروه منذ أيام الغزالي؟ وقُل الأمر ذاته عن الفارابي المعلِّم الثاني بعد أرسطو، وقل الأمر ذاته عن عبقري العباقرة شعراً ونثراً أبي العلاء المعرّي، هو الآخر كفَّروه وزندقوه ولعنوه، شيء مُخجِل ومُرعِب، ولكن هذه هي الحقيقة. هل نحن أمام شرق كسول وعقيم من جهة، وأمام غرب ديناميكي ناشط منفتح على الفلسفة والعلم من جهة أخرى؟ يحق لنا أن نطرح هذا السؤال: لماذا انقرضت الفلسفة في العالم العربي الإسلامي منذ القرن الثالث عشر، وانتعشت في العالم الأوروبي المسيحي؟

إننا دخلنا في عصور الانحطاط الطويلة بدءاً من القرن الثالث عشر وحتى القرن التاسع عشر، أي حتى عصر محمد علي الكبير وانطلاقة النهضة العربية على يد رفاعة رافع الطهطاوي، وكل ذلك الجيل النهضوي العظيم، بل ليس فقط الفلسفة هي التي انقرضت في العالم العربي، وإنما فكر المعتزلة أيضاً، ومعلوم أنهم كانوا يُشكِّلون التيار العقلاني في الإسلام في مواجهة الحنابلة، والأشاعرة، وتيار النقل والتقليد والانغلاق الديني اللاهوتي. هل نعلم أن ابن رشد كان يشتكي في عصره من عدم قدرته على التوصل إلى كتب المعتزلة وهو الأندلسي القرطبي؟ كان يبحث عنها في كل مكان دون أن يجدها، وذلك لأن التيار الظلامي كان يلاحقها ويمزِّقها ويحرقها، بل ويحرق أصحابها! هذه حقيقة. نحن شهدنا محاكم التفتيش قبل الأوروبيين بزمن طويل، وهي تفسِّر لنا سبب انحطاط العالم العربي على مدار القرون.

أركون يطرح هذا السؤال: لماذا دخلنا بدءاً من القرن الثالث عشر في عصور الانحطاط الظلامية الطويلة التي لم نخرج منها حتى الآن، بدليل ازدهار كل هذه الموجة الأصولية العارمة؟ ما هي هذه القوى الاجتماعية الانحطاطية التي جعلت حتى مفكراً كبيراً كابن خلدون يشتم الفلسفة ويغرق في التصوف، بل وحتى الانغلاق اللاهوتي والتعصب؟ نقول ذلك على الرغم من إبداعاته وكشوفاته العبقرية في مجال دراسة الاجتماع والعمران، وسبب نشوء الحضارات وصعودها ثم انهيارها. ثم يقول لنا أركون ما يلي:

لا ريب في أن الفقهاء مارسوا قمعاً آيديولوجياً ولاهوتياً كبيراً على جميع الناس في كل الغرب الإسلامي، أي في بلاد الأندلس والمغرب الكبير، وقد عانى ابن رشد ذاته من إرهابهم اللاهوتي في أواخر حياته كما هو معلوم، لقد عانى من تعصُّبهم وتزمُّتهم، ومحدودية أفُقهم، وعقلياتهم الضيقة، لقد هاجَموه دون حق؛ لأنه هو ذاته كان ينتمي إلى عائلة من كبار الفقهاء، لدرجة أن الناس يتحدَّثون عن ابن رشد الجد وابن رشد الحفيد، فجده كان أيضاً قاضي القضاة في قرطبة، وعالماً كبيراً في الدين، ومع ذلك لم ينجُ من شرِّهم، والمشكلة هي أن المثقفين العرب التجديديِّين لا يزالون يعانون من التزمُّت ذاته حتى في عصرنا الحالي، بل ويتعرَّضون للضرب والقتل والاغتيال، كما حصل لفرج فودة في مصر، أو لنجيب محفوظ، وكما حصل للدكتور محمد الفاضل رئيس جامعة دمشق، وكما حصل للمثقف الأردني التنويري اللامع ناهض حتر... إلخ. القائمة طويلة، وإرهاب الحركات الإخوانية الظلامية يخيِّم على الجميع.

ثم يتحدث أركون عن فضل النزعة الإنسانية والحضارية العربية على الفكر الأوروبي، وهو يقصد بذلك فضل العصر الذهبي ومفكريه الكبار، كابن رشد وابن سينا والفارابي وابن باجه وابن الطفيل، وعشرات آخرين على المثقفين الفرنسيين في العصور الوسطى، فبعد أن ترجموا النصوص العربية الكبرى إلى اللغة اللاتينية انطلقت فعلاً الحركة النهضوية العقلانية الأوروبية. نقول ذلك في حين أن هذه النصوص كانت مجهولة من قِبل أصحابها خاصةً، أي العرب والمسلمين، بل وكانت محتقَرة ومُدانة لاهوتياً من قِبل الفقهاء المزمجِرين أسلاف الإخوان المسلمين الحاليين، ما أشبه الليلة بالبارحة!

لقد شرح لنا المفكر الفرنسي الكبير إيتيان جيلسون كيف استفاد أساتذة السوربون من التراث الفلسفي العربي الخصب والغني جداً، في ذلك الوقت ابتدأت أوروبا تخرج رويداً رويداً من ظلمات العصور الوسطى المسيحية، ولكي تخرج فإنها كانت بحاجة إلى دعم فلاسفة العرب والمسلمين، كنا وقتها أساتذة أوروبا، في حين أن مفكريها أصبحوا اليوم هم أساتذتنا، كان المثقف الفرنسي أو الإيطالي أو الإنجليزي يفتخر آنذاك بأنه يعرف ابن رشد أو ابن سينا أو الفارابي، مثلما نفتخر نحن اليوم بأننا نعرف ديكارت أو كانط أو هيغل، الحضارات دوَّارة، وكذلك العصور الذهبية، مَن سرَّه زمن ساءته أزمان.

أخيراً السؤال الجوهري الذي يطرحه أركون هو التالي: ماذا يفيدنا فكر ابن رشد اليوم؟ هل له راهنية حقاً أم عفّى عليه الزمن؟ وجوابه عن ذلك هو بالإيجاب طبعاً، فإعادة الاعتبار إلى فكر ابن رشد في العالم العربي تساعدنا على مواجهة الظلاميين المتزمِّتين من إخوان مسلمين وخُمينيين وسواهم، فقد خاض فيلسوف قرطبة معركة متواصلة ضد أسلافهم من فقهاء عصره المتزمِّتين، لقد خاض هذه المعركة على صعيد العلوم الدينية التي فسَّرها بشكل مختلف عن تفسيرهم الضيق المتعصب، وقد استخدم كفاءاته الفلسفية في هذا المجال أفضل استخدام، صحيح أنه لم يصل به الأمر إلى حد الخروج من السياج الدوغمائي اللاهوتي العقائدي المغلق على ذاته، وهو السياج أو الإطار العقائدي الذي ينحصر داخله جميع المؤمنين أو جميع المسلمين قاطبةً دون استثناء. لكن هذا الشيء ما كان ممكناً في عصره؛ لأنه كان محكوماً بسقف العصور الوسطى وما هو مستحيل التفكير فيه في تلك العصور، ولكنه عقلَن مفهوم الدين عن طريق دحض أطروحات الغزالي الواردة في كتابه الشهير «تهافت الفلاسفة». لقد دحضها ليس فقط من خلال كتاب «تهافت التهافت»، وإنما أيضاً من خلال كتاب «مناهج الأدلة». أهم شيء قدَّمه لنا ابن رشد هو النص على مشروعية الفلسفة والفكر العقلاني في العالم العربي الإسلامي، ونفهم من كلامه أن الفلسفة لا تتعارض مع الدين، وإنما فقط مع المفهوم المتزمِّت والخاطئ للدين.

الفلسفة لا تتعارض مع الدين... وإنما فقط مع المفهوم المتزمّت والخاطئ للدين

لكن بعد كل هذا التمجيد لابن رشد فإن أركون يحذِّرنا قائلاً هذا الكلام الخطير: من ناحية أخرى، لقد أصبح فكر ابن رشد ذا قيمة تاريخية فقط، لقد أكل عليه الدهر وشرب، ينبغي ألا ننسى أنه تفصلنا عنه ثمانية قرون. ولكن هذا الكلام لا ينطبق عليه وحده فقط، وإنما ينطبق على كل فكر العصر الذهبي القديم، على الرغم من روعته وعظمته، لماذا؟ لأن كل فكر فلاسفتنا القدماء حصل تحت سقف العصور الوسطى، ونحن نعيش الآن تحت سقف العصور الحديثة، وشتان ما بينهما، ما كان مستحيلاً التفكير فيه في عصر ابن رشد أصبح ممكناً التفكير فيه بعد عصر ديكارت وسبينوزا وبقية فلاسفة الأنوار الذين تحرَّروا من هيمنة اللاهوت الديني كلياً.

يضاف إلى ذلك أن مرجعياتنا الفلسفية أصبحت لايبنتز وكانط وهيغل وماركس ونيتشه وفرويد، وحتى برغسون وهابرماس... إلخ، وبالتالي فلا ينبغي أن نبالغ ونهوِّل في قيمة ابن رشد، إنه لا يستطيع إنقاذنا، يُنقذنا فقط فكر الحداثة العلمية والفلسفية الذي تجاوز ابن رشد وسواه بسنوات ضوئية.

أخيراً يمكن القول بأن المعرِّي تجاوز ابن رشد، وتحرَّر من النطاق الديني اللاهوتي التكفيري المنغلق على ذاته أكثر منه بكثير، وذات الكلام يمكن أن يقال عن ابن سينا والفارابي. المعرّي طرح أسئلة تتجاوز سقف عصره، وترهص بالعصور الحداثية الحالية، ولم يكن ذلك فقط في «اللزوميات»، وإنما أيضاً في «رسالة الغفران» التي تُعدّ جوهرة الجواهر الأدبية والفكرية العربية، بحياته كلها لم يستطع الخيال الإبداعي العربي التوصل إلى هذا المستوى المذهل من الابتكار الخلّاق الذي استعصى على الجميع.


مقالات ذات صلة

«أميرة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

ثقافة وفنون «أميرة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

«أميرة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

لطالما اقترن الرقم «سبعة» بخصوصية سِحرية في مُخيلة سرديات البِحار، فحكايات السندباد البحري وأسفاره السبعة تُحيلنا إلى متاهات البحور التي لا تنقطع حبائل غرابتها

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون محمود الرحبي

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون زهرة دوغان - مدينة نصيبين

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

تأتي علاقة الفن بالقانون من عدة جوانب، فيمكن أن يكون موضوعاً يجري التعبير عنه، أو عن المفاهيم والحالات الإنسانية المرتبطة به، كالعدالة والمساواة والبراءة.

د. جواهر بن الأمير
ثقافة وفنون جيمس بالدوين

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل».

ندى حطيط

هل مات جاك بيرك مسلماً؟

جاك بيرك
جاك بيرك
TT

هل مات جاك بيرك مسلماً؟

جاك بيرك
جاك بيرك

حينما قرأت نعي المستشرق أو قل المستعرب الفرنسي جاك بيرك في الصحف... وأنه مات على إثر نوبة قلبية داهمته وهو في قرية سان جوليان «ون يورن» حيث كان عاكفاً على ترجمة أجزاء من السنة النبوية الشريفة – شخصت أمامي على الفور تلك اللحظات التي قضيتها معه قبل سنوات قليلة حين زار الرياض في نهاية السبعينات الميلادية مستشاراً من قبل بضع الجهات في دراسة مظاهر التغيير الاجتماعي التي حدثت في بلادنا بعد حدود الطفرة النفطية في منتصف السبعينات.

كنت قرأت له بعض الدراسات حول التاريخ الاجتماعي والسياسي في المغرب الحديث، وحركة الريف التي قادها عبد الكريم الخطابي ضد الاستعمار، وكذلك فقد كان كتابه الذائع الصيت «العرب من الأمس إلى الغد» طاغي الحضور في الأوساط العربية المحتفية بجاك بيرك فرنسيّاً درس حضارة الإسلام وحياة العرب المعاصرين في المغرب العربي ومصر... بحب موضوعي الأسلوب، وله في ذلك كتابان شهيران.

وكان حضوره طاغياً لأنه من الأجانب القلائل الذين أنصفوا العرب وقدّروا الإسلام... ولأنه كان ذا نزعة آيديولوجية مناهضة للاستعمار والتغريب، فقد جاء إصراره في معظم ما يكتب على أن الصيغة المناسبة لفك اشتباك الهوية بين الأنا والآخر في العالم العربي والإسلامي هي إحياء إسلام عصري.

ولم يكن قول بيرك هذا خطاباً استهلاكيّاً يصرِّح به لهذه الصحيفة العربية أو تلك ليكسب مزيداً من المكانة المزيَّفة في المجتمع العربي... كلَّا. إنما كان يقول ذلك عن فهم دقيق لخصائص المجتمع العربي الذي وُلِدَ فيه. فجاك بيرك ولد سنة 1910م في قرية تابعة لولاية وهران الجزائرية حيث كان والده موظفاً مدنيّاً معروفاً في الإدارة الفرنسية المهيمنة على مقدرات الجزائر... ولكن هذا لم يمنع الأب والابن على السواء من التأثُّر بخصال المجتمع العربي هناك... وبعد تخرجه الأولي في مدارس الجزائر الفرنسية، ذهب وهو فوق العشرين موظفاً ذا سلطة في المغرب... إلَّا أن هذا لم يمنعه من الاحتكاك بالمجتمع وهمومه وقضاياه، ولتعرفه على عقلية المجتمع المغربي طفق يُثني ركبتيه في جامع القرويين أمام مشايخ المغرب ليدرس الفقه الإسلامي... كما يؤكد ذلك ألبرت حوراني في كتابه الأخير قبل رحيله، وهو «الإسلام في الفكر الأوروبي».

وقد أدهشني حقاً وأنا أسجل معه حواراً تلفازياً في برنامجي الأول «الكلمة تدق ساعة» كيف أبكى جمهور قريته الفرنسية، وهو يقرأ أمامهم - في لقاء أدبي - قصيدة «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب، فوجدهم متفاعلين مع صور القصيدة، التي استوحاها الشاعر العراقي من طبيعة قريته جيكور، ونهيرها الصغير (كما وجدته).

ولنا هنا أن نقف باندهاش وتساؤل وتفكير أمام ما يقول حوراني في صفحة 164 من كتابه عن جاك بيرك: «إن كتابات بيرك مليئة فعلاً بالمشاهد والأصوات، بالروائح والمذاقات، لقد تشرَّب هذا الرجل العالم العربي بكل جوارحه، إنه لا يُصادق ببساطة في كتبه، إنه شخص يُرى سائراً في شوارع فاس الضيقة... عيناه منخفضتان، سجادة الصلاة تحت إبطه... خطواته تنم عن احتقاره لمشاهد العالم من حوله... كياسته الزلقة، أعصابه أعصاب أحد سكان المدن القدامى، حيلته كحيلة أحد رجال الحاشية القدامى، تعلقه بالمخمل المستعمل للزينة والحصى المنحوت في المنازل الرائعة، يجعله البطل المثقف لحضارة تعبر عنها جيداً موسوعية رجل الفكر، ومهارة الحرفي، ومتعة مآكلها».

ويواصل ألبرت حوراني حديثه عن جاك بيرك مسترشداً هنا بكتابه «عربيات» الذي هو كتاب سيرة ذاتية أملاه سنة 1978م على الباحثة اللبنانية دنيز عكر، يقول حوراني:

«هكذا يستحضر الجزائر التي عاش فيها طفولته بالمشاهد والروائح... ضوء ما بعد الظهر المتلألئ، رائحة (البرانس) الملوثة بالشحم، رائحة الأفاوية، والمغرب بطبقها الملوكي، فطيرة الحمام واللوز (البستيلا)، مثل هذه الانطباعات المحسوسة في كتاباته تصبح رموزاً لطبيعة الغرب المحددة، ولقبوله الخاص لها، ليس عنده شيء من فقدان السهولة، التي رسمت اتصال العديد من العلماء من الجيل السابق لجيله بالحقيقة الإنسانية التي درسوها، ببساطة - يقول جاك بيرك - إنني أذهب إلى البلدان العربية لأنني سعيد هناك».

في بحث للمستشرق الفرنسي روبير منتران، كتبه بمناسبة زيارته لبعض الجامعات العراقية قبل سنوات حول «الاستشراق الفرنسي، أصوله، تطوره، آفاقه» طفق منتران يقدم عرضاً بانوراميّاً عن تاريخ الاستشراق الفرنسي وظروف نشأة الاستشراق في الغرب عامة بعد الحروب الصليبية، وكذلك ذكر رموز الاستشراق الفرنسي وأعمدته... ودور مدرسة اللغات الشرقية والمكتبة الوطنية التي أنشئت بباريس في بداية الأمر لدراسة واقع الشرق المستعمر هنا وهناك في العالم الإسلامي.

حين مرّ روبير منتران على هذا كله، لم يتمالك من رمي بعض حصوات النقد في بركة الاستشراق الفرنسي التي اكتشف أنها تقف في مستوى تقليدي ساكن، رغم ما قدمته من خدمات إجرائية لدراسة التراث العربي والإسلامي... ولذلك فهو يطالب في بحثه الذي نشر في دورية «الاستشراق» البغدادية الصادرة في فبراير (شباط) سنة 1987م بالخروج من مفاهيم الاستشراق التقليدية، وذلك «بربط الموضوع (المدروس) بوشائج المجتمع العربي والإسلامي، أي في البيئة التي عرف فيها هذا الأدب ولادته وانتشاره».

وهذا ما حدث فعلاً لجيل المستشرقين الجدد في فرنسا، الذين واكبوا حركة المتغيرات الاجتماعية والسياسية في العالم العربي مؤخراً، ومنهم جيل كيبيل وريان يشار وأوليفيه روا في دراساتهم عن تجربة الإسلام السياسي... غير أن الإنصاف العلمي ينبغي أن يرجح شيخ المستشرقين الفرنسيين المعاصرين جميعاً «جاك بيرك»، فهو الذي خرج بالمفهوم التقليدي للدراسات الاستشراقية أو الاستعرابية إلى آفاق جديدة حين تم ربط الظاهرة الفكرية والأدبية بجذورها الاجتماعية من خلال تخصصه كعالم اجتماع درس «التاريخ الاجتماعية لقرية مصرية في القرن العشرين» حيث تطور هذا البحث إلى كتابه ذائع الصيت «مصر الاستعمار والثورة».

ويذكر الكاتب اللبناني حسن الشامي في مقالة بجريدة الحياة ملمحاً مهمّاً في هذا الجانب من حياة بيرك العلمية، وهو المتعلق بأول بحث نشره في الجزائر سنة 1936م، فقد كان بعنوان «الوثائق الرعوية لبني مسكين».

لهذا، فلم يكن مستغرباً أن يتصاعد تفاعل بيرك بالمجتمع العربي ودراسة همومه وقضاياه وفكره، فإذا به يعكف في السنوات العشرين الأخيرة على إعداد ترجمة واسعة ومميزة للقرآن الكريم، أكملها في أخريات حياته، كشفت بعمق عن تعلق عاطفي وعقلي بكل ما لدى العرب من فكر وحضارة ودين، شغل لبّ المستعرب الفرنسي الذي كان كما يقول ألبرت حوراني: «يتأبط سجادة الصلاة في أزقة فاس».

هل كان جاك بيرك مسلماً؟

إنه سؤال يستحق اهتمام الدراسين، خصوصاً أن الرجل أنهى حياته بدراسة مصدري الدين الإسلامي الحنيف؛ القرآن الكريم والسنة النبوية.

بل السؤال المحير الذي تم تجاهله...

لماذا أوصى جاك بيرك بدفن نسخة من ترجمته للقرآن الكريم معه في قبره، رغم الحملة الشرسة التي طالت هذه الترجمة، من قبل بعض المسلمين، في الوقت الذي كان عاكفاً على دراسة السنة النبوية في أخريات أيامه سنة 1995م؟!

كما أنه أوصى بأن تنقل مكتبته الضخمة من بيته في باريس، إلى مسقط رأسه في مدينة فرندة الجزائرية، حيث ولد هناك سنة 1910م.