في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

أصبحت كتاباته معياراً للواقعيّة الأدبيّة ومادة لفهم خليط الألم والتكاذب

جيمس بالدوين
جيمس بالدوين
TT

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

جيمس بالدوين
جيمس بالدوين

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ والروائي والمسرحيّ والناشط السياسيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل». وعندما نشر روايته «بلد آخر» (1962)، اختارت «الصنداي تايمز» الأسبوعية اللندنية المرموقة وصفه بـ«الزوبعة».

واليوم، وبينما يحتفل العالم بمئوية ولادته (في 2 أغسطس 1924)، تبدو تلك الأوصاف عاجزة عن إيفائه حقه لدوره اللامع في توظيف أدوات الخيال الأدبي لنقل النقاش حول المسألة العرقيّة في مجتمعات الولايات المتحدة إلى المستوى الشخصيّ لكل الأميركيين؛ ذوي البشرة البيضاء منهم، قبل السود. لقد تجرأ ابن حي هارلم الشعبيّ في نيويورك على نكء جروح مرحلة الفصل العنصري بكل آثارها النفسيّة العميقة، وكشف، بلغة وثيرة، عن مرارات تعتمل في قلوب المجموعتين على جانبي خط التفريق بين بني آدم وفق ألوان بشرتهم.

وقبل وقت طويل من وفاته بسرطان غادِرٍ في 1987، أصبحت كتاباته معياراً للواقعيّة الأدبيّة ومادة لا بدّ منها لفهم خليط الألم والتكاذب والنّدم الذي يملأ تاريخ الحياة الأميركيّة في القرن العشرين.

جاء بالدوين إلى الأدب من الصحافة، لكنّه كان قد حسم مبكراً اختياره لقضيته بانحيازه إلى الإنسان لمحض إنسانيته، فكانت مقالاته مثالاً متقدماً على استحضار روح الجرأة والشجاعة والمنطق الهادئ للتأثير على أهم الأسئلة التي طالما راوغ المجتمع الأميركي لتجنبها، فيما ألقت قصصه القصيرة ورواياته ومسرحياته بالضوء على معاناة الأفراد جرّاء تلك المراوغة المكلفة، مدققاً في كل الزوايا المظلمة التي حفرتها في الحياة الاجتماعية للأميركي العادي. على أن الاستماع اليوم لبعض من خطبه ومقابلاته المصورة تظهر كم وجدت روحه المحلقة صوتها الأعلى في الخطابة. لقد وقف ذات يوم أمام نخبة الأكاديميا البريطانية (بجامعة كامبريدج) كما شامان ينظر إلى ما وراء الأفق، وأنذرهم بأنه «لن يكون ثمة مستقبل للحلم الأميركي ما لم يكن الأفروأميركيين طرفاً فيه. هذا الحلم، إن كان على حسابهم، سيتحطم». لم يكن قلقه المزمن الذي لوّن خطابه نتاج يقينه بالفشل الكارثي للحلم الأميركي فحسب، بل وأيضاً جزعه من ذلك العجز الجمعي للشعب الأميركي عن التعامل مع تلك الكارثة. فأي بصيرة تلك، وأي جسارة على توصيف الظلام.

جمع بالدوين إلى موهبته الأدبيّة الظاهرة، ولغته المضيئة كما بلّورٍ صافٍ، قدرة بتّارة على استكشاف أوجاع ناس المجتمعات المعاصرة، واستقامة تفوق مجرد الصراحة في استدعاء مواضع الخلل المتوارية، وطرحها بكل عريها المخجل على العلن. لقد كان شخصية قلقة بامتياز، ولكن أيضاً مُقْلِقةً ومخلّة بالسلام الخادع الذي يتظاهر البعض به حفاظاً على أوضاع قائمة لمجتمع غارق حتى أذينه في لجة وهم الرضا عن الذات.

إن فلسفة بالدوين الأثيرة العابرة لمجمل تراثه الأدبيّ كانت دائماً وحدة المصير البشري بحكم الإنسانية المشتركة، ولذلك كان يرى أن مهمة المثقف المبدع لا تبتعد عن نطاق اكتشاف حر لمساحات القواسم المشتركة - على الرغم من وجود الاختلافات التي ينبغي عنده أن تكون مصدراً لإثراء الاتصال بين البشر، لا أساساً لخنقه - ليخلص إلى أن العائق الأساسي أمام تلك المهمة في حالة المجتمع الأميركي جبن أخلاقيّ ترسّخ في القطاع الأبيض منه ولم يَعُد يَسهُل اقتلاعه. على أن هذا التخلي، وفق بالدوين دائماً، لا يُلحق فقط أضراراً مدمرة بنفسيات الأفروأميركيين الذين تنكر عليهم إنسانيتهم، وإنما تسقط الأميركي الأبيض أيضاً في هاوية من الاستحقاق الظالم، وفقدان الحس الإنساني الأساسي، والتناقض القاتل.

انخرط بالدوين شاباً بالقراءة، ويبدو أنه لجأ إلى الأدب والأفلام والمسرح لتجاوز بيئته الفقيرة القاسية وهرباً من إغراءات الجريمة والمخدرات التي تفشت بين الشبان الأفروأميركيين بحكم الواقع الموضوعي لظروف عيشهم حينئذٍ فئة منبوذة. وكانت له في بداياته اهتمامات دينية تأثراً بزوج والدته الواعظ الإنجيليّ، لكنه سرعان ما بدأ، مع تفتح وعيه السياسيّ، بالتشكيك في منطق قبول السود للمبادئ المسيحية، التي استخدمت - في توظيف فجّ - لاستعبادهم. لكن تجربته في أجواء الكنيسة كانت مهمة كي يدرك أن لديه سلطة كمتحدث ومَلَكة كخطيب، ويمكنه التأثير على حشد من المستمعين.

بعد فترة وجيزة على تخرجه من المدرسة الثانوية بداية أربعينات القرن الماضي، اضطر بالدوين إلى العثور على عمل للمساعدة في إعالة إخوته وأخواته، بعدما أعجز المرض زوج والدته، لكن قناعة تكونت لديه بأن مستقبله سيكون في الكتابة، فانطلق يدبّج رواية بينما يجمع قليلاً من الدولارات بالعمل في وظائف بسيطة ومؤقتة إلى أن التقى ملهمه الأديب ريتشارد رايت في عام 1944، الذي تدبّر له أمر الحصول على زمالة يوجين إف ساكستون كي يتفرّغ للكتابة. ومع أن بالدوين بدأ يتلقى نوعاً من الاعتراف بموهبته من خلال قبول نصوص منه للنشر في مجلات مهمة، فإنه وبشكل متزايد شعَر بالاختناق والغربة عن المناخ الاجتماعي المسموم في الولايات المتحدة حينئذٍ، لينتهي به الحال إلى العاصمة الفرنسية باريس، حيث تكفلت أموال زمالة أخرى حصل عليها عام 1948 بتكاليف سفره، وفيها نشر روايته الأولى «أعلِنوا مولده من فوق الجبل» (1953) ومعظم أعماله التالية. ويشعر معظم من عرفوا بالدوين أن هذا الانتقال عبر الأطلسي كان جذرياً في مسار تطوره الفكريّ والأدبيّ، وفهم ذاته كأفروأميركي ينحدر من أسرة من المستعبدين تصادف أنه امتلك ناصية أدوات التعبير.

أمضى بالدوين الأربعين عاماً التالية متنقلاً في أرجاء أوروبا؛ حيث تعرّف على أشهر مثقفيها، مع زيارات قصيرة للولايات المتحدة لقضاء بعض الوقت مع عائلته الكبيرة، والمشاركة في المؤتمرات الأدبية المهمة كما نشاطات حركة الحقوق المدنية، فكان شاهداً على مسيرات الحركة الشهيرة في واشنطن (1963) ومونتغمري (1965) وغيرهما. لكن الاغتيالات التي طالت أصدقاءه من القادة الأفروأميركيين السود خلال ستينات القرن العشرين المضطربة (مدغار إيفرز، ومالكولم إكس، ومارتن لوثر كينغ الابن) أنهكته عاطفيّاً، وتسببت بمرضه؛ ليقصد، بداية السبعينات، جنوب فرنسا سعياً للتعافي.

اشترى بالدوين منزلاً له في سانت بول دي فينس الخلابة على أطراف جبال الألب، وتوفي فيه يوم 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1987، بعد معركة قصيرة خاسرة مع سرطان المعدة. وقد دفن تالياً في مقبرة فيرنكليف بنيويورك، وأقيم لراحة روحه قداس مهيب شاركت فيه عائلته ورموز الثقافة الأفروأميركيّة، وكتب أحدهم - أوردي كومبس - في رثائه: «لأن بالدوين كان موجوداً معنا، شعرنا أن المستنقع العنصري الذي يحيط بنا لن يستهلكنا، ولست أبالغ حين أقول إن هذا الرجل أنقذ حياتنا أو، على الأقل، أعطانا الذخيرة اللازمة لمواجهة ما كنا نعرف أنه سيظل عالماً عدائياً ومتعالياً».


مقالات ذات صلة

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

ثقافة وفنون «طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً

د. رشيد العناني
كتب «الشارقة الثقافية»: حضور نجيب محفوظ في الصين

«الشارقة الثقافية»: حضور نجيب محفوظ في الصين

صدر أخيراً العدد الـ94، لشهر أغسطس (آب) 2024م، من مجلة «الشارقة الثقافية»، وقد تضمّن مجموعةً من الموضوعات والمقالات والحوارات

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
ثقافة وفنون مأدبة أفلاطون

هل طرد أفلاطون الجسد من جنة الحب؟

لم يكن كتاب «المأدبة» الذي وضعه أفلاطون قبل خمسة وعشرين قرناً مجرد مدونة منتهية الصلاحية حول الحب والرغبة والعلاقات بين البشر

شوقي بزيع
ثقافة وفنون مجسمان من محفوظات متحف الكويت الوطني مصدهما جزيرة فيلكا

وجهان فتيّان من فيلكا يتبعان الأسلوب اليوناني

في نهاية خمسينات القرن الماضي، شرعت بعثة دنماركية في استكشاف جزيرة فيلكا الكويتية، وأظهرت الحفائر الأولى مسكناً كبيراً عُرف باسم «دار الضيافة».

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون دولوز

دولوز... انحاز إلى المقهورين ووقف مع الشعب الفلسطيني

لم يكن جيل دولوز، الفيلسوف الفرنسي الشهير (1925 – 1995)، ممن يرجون فائدة من الكتابة عن حياة المؤلفين الشخصيّة، إذ كان يعتقد بأهمية أن تستحوذ على اهتمامنا.....

ندى حطيط

نظرية بودلير حول الضحك تدخل الحملة الانتخابية الأميركية

مارغريت دوراس
مارغريت دوراس
TT

نظرية بودلير حول الضحك تدخل الحملة الانتخابية الأميركية

مارغريت دوراس
مارغريت دوراس

ما العلاقة بين كامالا هاريس، وترمب، وبودلير؟ للوهلة الأولى لا شيء، فمرشحا الانتخابات الأميركية شخصيتان سياسيتان، أما بودلير فقد كرّس حياته للكتابة. لكنَّ الشاعر الفرنسي دخل بصفة غير مباشرة الحملة الانتخابية الأميركية، واستطاع أن يفسر لنا بنظريته حول الضحك وباستنتاج منطقي حجم الخطأ الذي ارتكبه ترمب وفريقه حين اختاروا استراتيجية الهجوم على كامالا هاريس مستخدمين سلاح «الضحك».

كامالا هاريس

الباحثة وأستاذة الأدب الفرنسي في جامعة «أكزيتر» البريطانية ماريا سكوت، شرحت في مقال بموقع «ثي كنفرسيشن» يحمل عنوان «الاستهزاء بضحكة كامالا هاريس استراتيجية غير مضمونة وفقاً لبودلير»، أنه كان من المفروض على المرشح الأميركي وفريقه أن يقرأوا أعمال الشاعر الفرنسي تشارلز بودلير، ولو فعلوا لما اختاروا «الضحك» للهجوم. صاحب ديوان «أزهار الشر» يشرح الفكرة في محاولة نثرية عنوانها «جوهر الضحك» نُشرت عام 1855، يميز فيها بين الضحك الذي يهدف إلى السخرية والازدراء من أشخاص نعتقد أننا متفوقون عليهم (ضحك ترمب) والضحك الهزلي البريء الذي يؤدي إلى نشر روح البهجة والتعاطف (ضحك هاريس)، وقد شرح ذلك عبر مفهومَي «المُضحك العادي le comique ordinaire» و«المُضحك الهزلي le comique grotesque»، إذ كتب كأنه يصف شيئاً رآه: «رجل ممدَّد في الشارع، يتعثر على مدرج الطريق ويتسبب في سقوط تاجه. وعلى مرأى هذا الرجل الملقى في الشارع، يبدأ الآخرون في الضحك». يستنتج بودلير أن الضحك هنا شّر وأنه تصرُّف شيطاني وعلامة على الخطيئة الأصلية حتى إنه كتب «الرجل الحكيم لا يضحك إلا وهو يرتجف».

بودلير

ويواصل الشاعر موضحاً أن الحكماء يخافون من الضحك لأنهم يشعرون بوجود «تناقض سرِّي» بين الحكمة والضحك، وأن المجانين وحدهم هم من يضحكون، لأنهم لا يدركون ضعفهم ويظنون أنهم عظماء. وكان الضحك الذي يسميه بودلير «عادياً» قد نظّر له أيضاً الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز. وهو الضحك الذي يثيره مشهد تعثر شخص ما وسقوطه. وما يجعلنا نضحك، وفقاً لهوبز، هو الاعتراف بـ«تفوقنا» على الشخص الذي نراه يسقط. وقد تبنّى الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون أيضاً هذه النظرة إلى الضحك في كتابه «الضحك» (1990). فبالنسبة إلى برغسون، نحن نضحك على الآخرين عندما يتصرفون مثل الكائنات الميكانيكية، ونفعل ذلك كنوع من التنشئة الاجتماعية: لتشجيعهم على أن يكونوا أكثر إنسانية.

نظرية التفوق تفسر إذن لماذا نضحك على غباء الآخرين أو على المهرّجين، ومع ذلك، عندما يُستخدم الضحك سلاحاً سياسياً فإن الأمور تصبح أكثر تعقيداً، إذ يوجب علينا الأخذ بعين الاعتبار نقطتين أساسيتين: أولاهما العلاقة المركبة بين الفكاهة والتعاطف. فالروائي والكاتب المسرحي ستندال الذي قضى جزءاً من حياته محاولاً كتابة الكوميديا، كان يجد صعوبة في كتابة شخصيات فكاهية لأنها، كما كان يقول، تثير التعاطف وتمنع عموماً مشاعر الازدراء. وهنا المفارقة: فالفكاهة تخلق روابط من التعاطف بين الأشخاص الذين يتشاركون النكتة ويضحكون بينهم لكنّ الأشخاص أنفسهم لا يشعرون بأي تعاطف مع موضوع النكتة. ولكن ماذا يحدث لو أن الشخص موضوع النكتة يضحك بنفسه أيضاً كما هو الحال مع السيدة كامالا هاريس؟ في هذه الحالة قد يحّل التعاطف مع الشخص الضاحك محل الازدراء. وبعبارة أخرى، ترمب يريدنا أن نضحك على كامالا هاريس بغرض الاستهزاء بها ولكن ما يحدث هو أننا نضحك معها بدلاً من الضحك عليها. وهو ما يشرحه بودلير في «جوهر الضحك» حين يكتب: «الممثل الذي يقع على خشبة المسرح هو أول من يضحك، ضحكة بريئة متفوقة، فهو قادر على أن يكون نفسه وشخصاً آخر في أن واحد، هو مدرك لوضعه لكنه لا يخشى أن يصبح مثيراً للضحك: يسقط الرجل في الشارع، فيستقيم وينفجر ضاحكاً، إنه رجل حكيم ساخر...».

فرجينبا وولف

تكتب الباحثة ماريا سكوت في موقع «ثي كنفرسيشن»: أليست كامالا هاريس هي هذا «المُضحك الهزلي» الذي يتحدث عنه بودلير؟ تضحك مع الآخرين، لا عليهم، كما يفعل ترمب. صحيفة «سلات» أكدت الفكرة في مقال بعنوان «القصّة وراء نكتة شجرة جوز الهند لكامالا هاريس» جاء فيه ما يلي: «كيف أصبحت نكتة شجرة جوز الهند you think you just fell out of coconut tree متداولة بكثرة في شبكات التواصل؟ لا أحد يعلم فعلاً، لكنَّ الطريقة (شبه المُحرجة) التي تروي بها القصّة والضحكة المدوية التي تختمها بها قد جلبت لها بالتأكيد التعاطف ومزيداً من الأنصار. خصومها حاولوا استغلال القصّة للاستهزاء بها، لكنَّ السخرية الذاتية التي اعتمدها أنصارها قلبت السحر على الساحر»... وإذا كنا نستطيع الضحك مع الآخرين وليس الضحك عليهم فهذا يقودنا إلى النقطة الثانية التي تنتج عن استعمال الضحك سلاحاً سياسياً وهي قوة «الفرحة»، هذه العبارة المتداولة بقوة في التعليقات السياسية والرسائل التي ترد بخصوص ضحك كامالا هاريس، حتى أصبحت بمثابة العمود الفقري لحملتها خلال الأيام الماضية. وإن لم تكن نظرية بودلير حول الضحك كافية، فإن مراقبين كثراً قد لاحظوا أيضاً أن وضع الضحك في قلب الحملة الانتخابية بين رجل وامرأة يحمل في طياته مشاعر الازدراء وكره النساء والغرض منه التمييز بين ضحك الرجال «الجيد»، الذي يفترض أنه محترم، وضحك النساء «السيئ»، غير اللائق وغير المحترم. شخصيات أدبية كثيرة تطرَّقت إلى هذا التمييز، وهو ما شرحته الباحثة المختصة في تاريخ الأدب سابين ملشيور بوني في كتابها «النساء والضحك» (دار نشر بوف) حين قالت إن «الضحك والقدرة على الإضحاك ظلَّا لفترة طويلة حكراً على الرجال، بل إن ضحك المرأة قد يبدو خطيراً وعلامة من علامات الوقاحة، وناقلاً للجنون والهستيريا». المرأة التي تضحك كثيراً هي إذن امرأة «مجنونة»، وقد يكون هذا ما حاول ترمب إقناعنا به حين صرّح في تجمع ميشيغان في العشرين من شهر يوليو (تموز)، حين قال: «أنا أسميها كامالا الضاحكة، هل شاهدتموها وهي تضحك؟ إنها مجنونة. تعلمون أننا نستطيع معرفة الكثير من الضحكة. لا، إنها مجنونة. بالتأكيد إنها مجنونة». هذا المنطق الكاره للنساء حاربه كثير من الشخصيات الأدبية. فمارغريت دوراس، مثلاً، تحدَّت السلطة الذكورية في كثير من أعمالها مستعملةً الضحك والسخرية. ورأت فرجينيا وولف، رغم المآسي التي مرَّت بها، فعل الضحك خاصّية «تحريرية» وقد تحدثت عن ذلك في مقال رائع نشرته في صحيفة «الغارديان» عام 1905 بعنوان «قيمة الضحك» تقول فيه إن الضحك يفتح أعيننا لأنه «يرينا الكائنات كما هي، مجردة من زخارف الثروة والمرتبة الاجتماعية والتعليم».