«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

كتابة استرجاعية عن قيم ما زالت في الذاكرة لكنها لم تعد في الواقع المعاش

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية
TT

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً، كما عاشت شخوصه وأحداثه في ذاكرة الكاتب طويلاً تُلحُّ عليه أن يخرجها إلى النور. هو كتاب في حب البشر، خاصة أولئك المستثنين من حب بقية البشر. يبحث الرحيمي عن قاع المجتمع، فإذا ما وجده راح ينبش فيه عن قاع القاع. عن تلك الطبقة الدنيا التي ليس هناك ما هو أدنى منها. عن الطبقة التي أقصاها المجتمع عنه، حتى لم يعد يراها وإن رآها فلا يراها بشراً ولا يعدّها من جنسه، حتى نسيتْ هي أيضاً بشريتها. يلتقط الكاتب تلك الطبقة ويكتشف إنسانيتها ويكشف لنا عنها، يلتقط أفراداً منها، ويكشف لنا أنهم مثلنا تماماً وإنما طحنتهم قوى تاريخية ومجتمعية قاهرة حتى حجبت إنسانيتهم عمن حولهم، بل وعن ذواتهم. ينتشلهم الكاتب من قاع القاع ويغدق عليهم من فيض روحٍ مُحِبَّة للبشر ترفض أن تنسى من نسيهم المجتمع والتاريخ.

يكتب الرحيمي عن الريف المصري في شيء كثير من العاطفية والنوستالجيا. يكتب عن الريف الذي نشأ فيه قبل أن ينزح إلى المدينة ويكتب عن التحولات الهائلة التي ألمت به منذ الخمسينات من القرن العشرين إلى يومنا هذا. يكتب عما عاصره في نشأته ولكن أيضاً عما سمعه صغيراً من الأجيال الأسبق. يكتب عن بؤس الفلاح المصري في العصر الإقطاعي وخاصة عمّال «التملية»، المعروفين أيضاً بعمال التراحيل، والذين كتب عنهم يوسف إدريس في قصته الأشهر «الحرام» (1959)، وعن مجيء ثورة 1952 والإصلاح الزراعي الذي طال الكثيرين، لكنه أغفل «التملية» أو هم غفلوا عن الانتفاع منه لأنهم كانوا مسحوقين إلى حدٍ لا يمكنهم معه إدراك أن ثمة تغيرات كبرى تحدث في المجتمع وأنه يمكن لهم الانتفاع منها. يكتب أيضاً عن سائر التحولات التي جرت في الريف المصري بعد انتهاء الدور الإصلاحي لثورة 1952 والنكوص عن إنجازاتها المجتمعية في عصري السادات ومبارك، حتى لم يعد الريف ريفاً وتقلصت الزراعة واختفت المحاصيل ومواسمها التي من حولها نشأت تقاليد الريف المصري الحياتية وقيمه الأخلاقية التي دامت قروناً طويلة حتى اندثرت تدريجياً في العقود القليلة الماضية. يكتب على حد قوله «فيما جرى لبلدنا وقرانا».

يتجول الكتاب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة» في شرق الدلتا. تصبح القرية بؤرة لمصر كلها. تصبح رمزاً للثابت والمتحول، أو بالأحرى للثابت الذي تحوَّل إلى غير عودة بعد قرون وقرون من الثبات، ولا يساعدك النص أن تقرر ما إذا كان تَحَوَّلَ إلى الأفضل أو الأسوأ. فالأمران ممتزجان، وليس النص إلا محاولة لاسترجاع الأنماط الجميلة للحياة البشرية والبيئية التي ضاعت إلى الأبد ضمن التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القاهرة التي تُصنع في العاصمة لتطال موجاتها العاتية قرى مصر ونجوعها في كل مكان من حيث لم تكن تحتسب.

ما نراه في هذا الكتاب هو نماذج عديدة لآلام التحول ولكن أيضاً لأفراحه. نماذج للعامّ حين يقتحم حياة الأفراد فيرفع من يرفع ويخفض من يخفض ويعيد تشكيل ما يُسمى بالمجتمع. يخبرنا التاريخ المعاصر بحرب اليمن الفاشلة ضمن مشروع القومية العربية التوسعي لجمال عبد الناصر في ستينات القرن الماضي، لكن هذا النص يشعرنا بمأساة مجندي القرية مثل «المسكين» وآلاف أمثاله الذين ذهبوا ولم يرجعوا ليحاربوا حرباً لا يفهمون لها سبباً في بلد لم يسمعوا به قبلاً. يحدثنا التاريخ الذي عاصرناه أيضاً عن تهجير أهل مدن القناة حماية لهم من القصف الإسرائيلي عبر قناة السويس عقب هزيمة 1967. لكن الكتاب الذي بين أيدينا في الفصل المعنون «المهاجرون» هو الذي يرينا مذلة أولئك المهاجرين (أو المُهجَّرين كما عُرفوا وقتها في تسمية أصحّ) لدى وصول بعضهم للعيش في قرية «الدراكسة» بعيداً عن الخطر. لكنه أيضاً هو الذي يرينا قدرة المهاجرين على التأقلم مع الظرف الجديد، ويرينا الروح المصرية الأصيلة وقت الأزمة حيث يكرم أهل القرية ضيوفهم طويلي المكث خير إكرام. لكنه فوق هذا وذاك يحكي لنا من واعية الطفل الذي كأنه الكاتب في ذلك الوقت عن الأثر التمديني العميق الذي مارسه هؤلاء الضيوف الآتون من مدينة بورسعيد الساحلية ذات التاريخ الكوزموبوليتاني على القرية النائية المعزولة عن الحضارة، فلم يتركوها بعد سنوات إلا وقد تغيرت عاداتها العريقة في المأكل والملبس والمشرب والسلوك الاجتماعي. هكذا تختلط المآسي والمنافع في الحياة كما في كثير مما يصوره الكتاب.

يصعُب تصنيف «طباطيب العبر». هل هو تسجيل لتاريخ شفهي؟ هل هو مجموعة تحقيقات صحافية متأدِّبة؟ هل هو دراسة أنثروبولوجية عفوية تخففت من المناهج والتقعر الأكاديمي؟ هل هو رصد واقعي أم خيال قصصي؟ هل فصوله وحدات منفصلة أم أن ثمة شيئاً يصهرها معاً في كلٍّ؟ الأرجح أن الكتاب فيه من كل هذه الصفات وأن مرونته السردية جاءت نتاجاً للعاطفة الاسترجاعية الكامنة وراءه والتي كان من الصعب أن تُصبَّ في قالب جامد أو تسلسل زمني، وكان لا بد أن تكتب في هيئة زخات شعورية متباعدة. مرونة السرد هذه هي نفسها التي تجعل الكتاب في بعض المواضع يلتحق برومانسية محمد حسين هيكل في روايته الشهيرة عن الريف المصري «زينب» (1912؟ 1914؟)، بينما في مواضع أخرى نراه يلتحق بواقعية «نائب في الأرياف» (1937) لتوفيق الحكيم وبالتصويرات الواقعية لكتّاب الريف الآخرين، أمثال عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف القعيد وغيرهما، وعلى الأخص يوسف إدريس الذي لا أشك أنه كان له أثر كبير أسلوبياً وفكرياً على الرحيمي.

على أنني لا أظن أني قرأت عن الريف المصري كتابة تغرق مثل هذا الإغراق في فنون المدرسة الطبيعية «الناتورالية» التي تجاوز تقنياتها تقنيات المدرسة الواقعية، فلا تترك تفصيلاً من تفاصيل البيئة إلا ذكرته ووصفته مهما بلغ من قذارة ومهما كان مقززاً ومهما كان خادشاً للحياء ومهما كان فاضحاً للنفس البشرية وللجسد البشري ومخرجاته. كل شيء هنا باسمه القح وقبحه الصادم ورائحته العطنة الفائحة وأصواته الناشزة (انظر على سبيل المثال لا الحصر الفصل المعنون «روائح القيظ القديمة»). هذه كتابة غير مُراقَبة، غير مهذبة ولا منمقة، لا تحاول أن تحمي القارئ ولا تراعي نعومته وترفه المديني أو الطبقي ولا يعنيها أن تمزق تغليفه السيلوفاني شر تمزيق. ذلك أنها كتابة تريد صدم الحس المُرفَّه وتحريك الضمير المٌخدَّر وتوليد الإحساس بالذنب لدى المجتمع الغافل عن أبنائه وعن الثمن الفادح الذي يدفعه جنود الريف المجهولون من أجل رفاهتهم. هي كتابة لريفي تمدَّن ولكن بقي على حبه وولائه للريف.

يتجول الكاتب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة»

غير أنني أيضاً لا أظنني قرأت منذ يوسف إدريس كتابة عن الريف المصري تتسم بهذا الفهم المُشرَّب بالعطف الإنساني. إلا أن ثمة فارقاً. كان إدريس يكتب عن ريف موجود فلم يكن في كتابته حنين، أما هنا فنحن أمام كتابة استرجاعية، كتابة عن ريف وناس وعادات وقيم ما زالت في الذاكرة لكنها لم تعد في الواقع المعاش، وربما من هنا تنبع الرغبة في اقتناصها في كتاب قبل أن تزول من الذاكرة أيضاً بغياب الجيل الذي عاصرها، وهذا ما يفعله أسامة الرحيمي الذي يصحب حواسَّنا الخمس في رحلة نلمس فيها أشجار الريف وحقوله ونشم روائحه، الطيب منها والخبيث، ونسمع أصوات بشره وحيوانه ونرى جماله وقبحه ونذوق طعومه، كما في فصل «أكل التوت» مثلاً وفي سائر الكتاب.

يكتب الرحيمي في لغة عذبة سلسة، لا يعنيها التأنق المصطنع لأن فيها رشاقة طبيعية تتنقل بك في خفة بين الفصحى والعامية، ومن لغة القرية إلى لغة المدينة، ومن لغة الطفل في لحظة الحدث إلى لغة الكاتب الناضج المتأمل لطفولة الماضي، ويحلّق بك عند الطلب من سهول النثر إلى مرتفعات الشعر.
في هذا الكتاب السهل الممتنع في أسلوبه، الثري في شخصياته وحكاياته، المتأمل في الريف وتحولاته، والملآن بالعطف على الإنسان وسائر الكائنات، على الترع والحقول والأشجار، تنضح الصفحات بالحزن على الحيوات التي ذهبت بدداً، والأجيال التي لم تجرؤ على الأمل. إن كانت أتراحها وآلامها - وأحياناً أفراحها - ما زالت تتردد في الفضاء، فهذا الكتاب قد التقط أصداءها.


مقالات ذات صلة

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

ثقافة وفنون جيمس بالدوين

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل».

ندى حطيط
كتب «الشارقة الثقافية»: حضور نجيب محفوظ في الصين

«الشارقة الثقافية»: حضور نجيب محفوظ في الصين

صدر أخيراً العدد الـ94، لشهر أغسطس (آب) 2024م، من مجلة «الشارقة الثقافية»، وقد تضمّن مجموعةً من الموضوعات والمقالات والحوارات

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
ثقافة وفنون مأدبة أفلاطون

هل طرد أفلاطون الجسد من جنة الحب؟

لم يكن كتاب «المأدبة» الذي وضعه أفلاطون قبل خمسة وعشرين قرناً مجرد مدونة منتهية الصلاحية حول الحب والرغبة والعلاقات بين البشر

شوقي بزيع
ثقافة وفنون مجسمان من محفوظات متحف الكويت الوطني مصدهما جزيرة فيلكا

وجهان فتيّان من فيلكا يتبعان الأسلوب اليوناني

في نهاية خمسينات القرن الماضي، شرعت بعثة دنماركية في استكشاف جزيرة فيلكا الكويتية، وأظهرت الحفائر الأولى مسكناً كبيراً عُرف باسم «دار الضيافة».

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون دولوز

دولوز... انحاز إلى المقهورين ووقف مع الشعب الفلسطيني

لم يكن جيل دولوز، الفيلسوف الفرنسي الشهير (1925 – 1995)، ممن يرجون فائدة من الكتابة عن حياة المؤلفين الشخصيّة، إذ كان يعتقد بأهمية أن تستحوذ على اهتمامنا.....

ندى حطيط

هشام مطر يروي سيرة الفن والفقد والمواساة

هشام مطر يروي سيرة الفن والفقد والمواساة
TT

هشام مطر يروي سيرة الفن والفقد والمواساة

هشام مطر يروي سيرة الفن والفقد والمواساة

قبل أن يعبر هشام مطر بقارئه إلى ضفة مدينة سيينّا الإيطالية، يستهل السطور الأولى من كتابه «شهر في سيينّا» بإيماءة تحية لوطنه الليبي بما يحيلنا إلى الكتابة السيّرية التي لا تُغادر مشروع الأديب الليبي البريطاني، فترافقه أينما حل «ليبيا» التي عرفها طفلاً، قبل أن يقطع طريقه في الغربة وينتهي به المطاف للعيش في لندن، وبعد ثلاثة عقود من الغياب يعود إلى موطنه بحثاً عن والده المفقود بها، فالعودة لم تكن فقط عنوان سيرته الذاتية، لكنها ثيمة مركزية في أعماله، وليبيا هي «نقطة الانطلاق التي منها سافر أبعد وأبعد»، كما يقول في مطلع كتابه الجديد.

صدر الكتاب أخيراً عن «دار الشروق» بالقاهرة، بتوقيع المترجمة العمانية زوينة آل تويّة التي ترجمته عن الإنجليزية، وفيه يقطع هشام مطر مع قارئه أميالاً طويلةً من المسافات الجغرافية صوب مدينة سيينا الإيطالية، ويُحلّق خلال رحلته بها في متاهات يبحث في غبارها عن الفن والحب والمواساة والفقد، وهي تأملات لا تخلو من طيف الوطن الليبي الذي تنثال ذكراه في محطات الرحلة التي يقتنصها من الزمن، ويقرر القيام بها بعد سنوات من افتتانه بالفن السييني، الذي يشير مؤرخو الفن إلى انتمائه للفترة من القرن الثالث عشر حتى الخامس عشر ويمثل مرحلة فنية خاصة تفصل بين الفن البيزنطي وفنون عصر النهضة، أو كما سيُقاربها هشام مطر بصورة بلاغية فيقول إن الفن السييني: «مثل الأوركسترا التي تُدوزن أوتارها في وقت الاستراحة».

انفعالات فنية مبكرة

قبل أن يصل هشام مطر إلى قلب مدينة سيينا، تحديداً ساحتها الأشهر «إل كامبو»، يكون قد شارك مع قارئه رحلة افتتانه المُبكرة بمطالعة الفن، الذي تسلل الشغف به إلى قلبه منذ كان طالباً في لندن لم يتجاوز العشرين من العمر، فيتذكر كيف كان يزور «المعرض الوطني» بلندن يومياً خلال فترة استراحته للغذاء ليتوقف كل يوم أمام لوحة واحدة، وأن التفاته المبكر في هذا الوقت لأعمال المدرسة السيينية لم يكن مجرد إعجاب بلون فني بقدر ما كانت تتكثف حيال لوحاتها مشاعر ظلّت تعتمل بداخله، ويعبر عنها في كتابه وكأنما يصف بها توتر علاقته بحبيبة قديمة، فيقول: «في البدء لم أعرف كيف أقاربها»، يتحدث كيف أن التحديق المباشر في لوحات المدرسة السيينية كان يمثل بالنسبة له تحدياً في ذاته، ربما لغموضها، أو لغرابتها عن أعمال كان يهتم بها في تلك المرحلة من حياته كلوحات سيزان ومانيه على سبيل المثال، أما اللوحات السيينية بما كانت تحمله من شفرات ورموز مسيحية فكانت تجعله يشعر أنه «غير مستعد» لمقاربتها بعد، وهي مشاعر ربما كانت تحمل وعداً منه بالعودة لها من جديد، ولكن هذه المرة بزيارة لموطنها وبيتها الأصلي في سيينا الإيطالية.

لم يكن تطوير الذائقة الفنية هو السبب الوحيد الذي كان يدفع مطر لبناء علاقة مع الأعمال الفنية منذ كان طالباً في لندن، وإنما كانت تجمعه آصرة شديدة الذاتية في تلك العلاقة، التي بدت علاقة سلوان ومواساة بعد صدمة اختفاء والده، الذي اختُطف في عهد القذافي وزُج به في طائرة من القاهرة إلى ليبيا حتى اختفى أثره، فذاب بها كما يذوب الملح في الماء، وهي مشاعر يستدرجها هشام مطر من ذاكرته، ليرسم بها نصاً موازياً لزيارته إلى سيينا، ويترك من خلالها شهادته عن الفن كملاذ.

ظل الفن السييني الذي يطالعه هشام مطر عبر النماذج المعروضة له في المتحف الوطني بلندن، كلوحة دوتشو دي بوننسينيا الشهيرة «شفاء الولد المولود ضريراً» يثير لديه الرغبة والحلم بزيارة سيينا على مدار نحو 25 عاماً، حتى باتت تلك المدينة الإيطالية تحتل داخله «تبجيلاً مرتبكاً كالذي يشعر به المؤمن وهو يتجه نحو مكة أو روما أو القدس»، كما يقول في كتابه، وبهذا الارتباك، وبكثير من الاشتياق، يقطع الطريق لتلك المدينة التي تحتضن تلك الحقبة العتيقة من تاريخ الفن.

قلب المدينة المُتقّد

يجوب الكاتب دروب مدينة سيينّا بدهاليزها وممراتها القديمة، ساعياً لتلمس نبضها الخاص، فهي توحي له بوجه هادئ يُخفي قلباً مُتقداً، يرسم معالمها على امتداد صفحات كتابه، فلا يمكن قراءة انطباعاته عن لوحات المدرسة السيينية بمعزل عن هوامشه عن المدينة، التي يبدو كل ما فيها من معالم، وبشر متفانين في العناية بالأغراب، والتدقيق في تفاصيل الحياة، ينبع من «عادة سيينية» أصيلة، على حد وصفه.

إلى جانب اعتماد هشام مطر على الكتابة الذاتية في مقاربة رحلته إلى سيينّا، فهو يضفر سرده بالحوارات العفوية التي جمعت بينه وبين زوجته ورفيقة رحلته «ديانا» التي يُهدي إليها الكتاب، وأضفت أحاديثهما في الفن والتقاطهما تفاصيل من داخل اللوحات طابعاً حوارياً يزيد من تعميق قراءة اللوحات، ومنح النص كثيراً من الحميمية، لا سيما التقاطعات مع ذكرياتهما الخاصة التي كانت تجددها مشاهدتهما لكل لوحة عبر لمحة خاطفة، والنظرة للحياة من خلال تلك المسافة بين ما كانت عليه وما كان يمكن أن تكون، في رابط زمني لا يفقد تراوحاته وشجنه على مدار الكتاب، ففي أحد المشاهد يسرح هشام مطر في المسافة بين المكان الذي وقف فيه في سيينا مع زوجته أمام لوحة لورنزيتي «رمز الحكومة الصالحة»، وبين لحظة تسبقها بأعوام، عندما هبط هو وديانا في روما قادمين من طرابلس في أعقاب عودته إليها بعد أكثر من ثلاثة عقود في المنفى، فيقول إنها «مدة من الزمن غدوت في أثنائها رجلاً وربما رجلاً مختلفاً عن ذلك الرجل الذي كان من الممكن أن أكونه لو بقيت في ليبيا (..) هنا كنا في سيينا، وروما، وطرابلس دفعة واحدة، وهنا كنا نرنو إلى وجهي العدالة وضحيتها في لوحة لورنويتي، وكذلك وجهي داوود وجالوت في لوحة كارافاجيو».

يبدو هشام مطر في جولته بين لوحات سيينا وكأنه يؤسس آصرة سردية مع اللوحات التاريخية، فهو يتقاطع معها بخياله الأدبي، فينظر مثلاً للوحة «مادونا دي فرانشيسكاني»، بعد أن يضعها في سياقها التاريخي الذي رسمها فيه دوتشو قرابة عام 1290 قبل أن يصبح فنان سيينا الأعظم، فيتأمل هشام مطر تلك اللوحة وينظر إلى ثوب الأم العذراء الأسود الذي يُميط اللثام عن فضاء خاص، بهشاشته البائسة التي تُقارن بقوة ابنها العظيم، فيلتقط تلك الإشارات من عمق حكايا اللوحات القديمة مثيرة داخله صيحات من الإلهام والمُخيلة، ومقاربات لكيانه الوجودي كذلك، فعلى مدار سيره في ثنايا سيينا وهو يُلح عليه سؤالان: «ماذا لو وُلدت هنا، وماذا لو قُدر لي أن أموت هنا؟»، ويقول إن هذين السؤالين هما التوأمان اللذان يتعقبانه في كل مدينة.

صدرت ترجمة «شهر في سيينا» للعربية بالتزامن مع وصول هشام مطر للمنافسة على جائزة «البوكر» البريطانية لهذا العام عن روايته الجديدة «أصدقائي» ضمن القائمة الطويلة للجائزة من بين 156 رواية باللغة الإنجليزية، ومن المقرر إعلان القائمة القصيرة للأعمال المرشحة للجائزة في 16 سبتمبر (أيلول) المقبل، ويأتي هذا الترشيح بعد أيام من فوز رواية مطر بجائزة «جورج أورويل» للكتابة السياسية لعام 2024.

كما سبق وفازت مذكراته «العودة» التي تحدث فيها عن بحثه عن والده بأكثر من تتويج، أبرزها جائزة «بوليتزر» عن فئة السيرة الذاتية في عام 2017، وأُدرجت روايته الأولى «في بلد الرجال» في القائمة القصيرة لجائزة «مان بوكر» الأدبية في عام 2006.