«في بيت أحمد أمين»... ذكريات الصبا وسط رموز أدبية وفكرية

ابنه الأكبر يستعيدها بـ«مرح وخفّة ظل»

توفيق الحكيم
توفيق الحكيم
TT

«في بيت أحمد أمين»... ذكريات الصبا وسط رموز أدبية وفكرية

توفيق الحكيم
توفيق الحكيم

* كان يسرد على الأسرة طرائف عن بخل توفيق الحكيم ويشبه أسلوب طه حسين بـ«غزل البنات» أو يتنبأ بمستقبل باهر لموظف صغير يُدعى نجيب محفوظ

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «في بيت أحمد أمين» للكاتب حسين أحمد أمين (1932 - 2014)، الذي يستعيد ذكريات الطفولة والصبا خلال سنوات نشأته الأولى، كونه الابن الأكبر للمفكر والمؤرخ المصري أحمد أمين (1886 - 1954) صاحب مؤلفات «موسوعة الحضارة الإسلامية» التي تتكون من «فجر الإسلام» و«ضحى الإسلام» و«ظهر الإسلام»، فضلاً عن سلسلة أجزاء «فيض الخاطر»، ومذكراته الشخصية «حياتي».

يتوقف المؤلف عند مفارقة أن أصدقاء وضيوف والده الذين يردُّ عليهم في التليفون أو يستقبلهم بالمنزل، كانوا من عمالقة الأدب والفكر وجيل المؤسسين في الثقافة العربية. ويروي كيف كان يُهرَع حين يدق جرس التليفون، ويرد بصوته الرفيع المتحمس، والسماعة الكبيرة يضعها بصعوبة فوق أذنه: «آلو... من حضرتك؟»، فيجيب المتكلم بأنه عباس العقاد أو توفيق الحكيم، أو محمود تيمور، ثم يسأل: «أحمد بك موجود؟»، فيجيب الطفل: «دقيقة واحدة»، ثم يجري إلى المكتبة صائحاً: «بابا، بابا، محمود تيمور»، فيتوجه والده إلى التليفون، ويسمعه يسأل محمود تيمور عن سبب تخلُّفه عن حضور جلسة المجمع اللغوي، ثم يسرد عليه ما دار خلالها، وكيف اقترح فيها إقرار المجمع الكلمة العامية «محندق» لخلو معاجم اللغة من كلمة تعبر عن المعنى نفسه بدقة. ويقص عليه ما كان من موقف طه حسين واعتراض لطفي السيد، ثم يقرأ عليه رسالة وصلت إليه لتوه من المستشرق الألماني برجشتراسر يُعلّق على ما ذكره في كتابه «فجر الإسلام» من طبيعة العقلية العربية.

طه حسين

ويتناهى إلى سمع الطفل حسين أسماء ابن خلدون والجاحظ والغزالي وابن رشد، تُنطق في أُلفة غريبة وتتكرر على لسان أبيه، فكأنما هم أقارب للعائلة أو جيران أو مستأجرو أرض. وكثيراً ما تهتف والدة حسين إذ يفرغ زوجها من المحادثة التليفونية طالبةً إما أن يشرح لها من هو «ابن عبد ربه»، مؤلف «العقد الفريد»، أو ألا يأتي بسيرته لأن تكرار نطقه بهذا الاسم قد بدأ يغيظها حقاً. وهو أحياناً يعود من الخارج يسأل عمن اتصل به تلفونياً فتجيب زوجته: «اتصل بك ابن خلدون مرتين». ويسأل أحمد أمين مبتسماً: «هل ترك رسالة؟»، فتجيبه: «نعم، يقول إنه قد بدأ يتململ في قبره من كثرة تناولك سيرته بالحديث».

ويشير حسين أحمد أمين إلى أن أسماء: محمود تيمور، مؤسس فن القصة القصيرة في طبعته العربية، ومحمد حسين هيكل، مؤلف أول رواية عربية، وعبد القادر المازني، الشاعر والكاتب الساخر، وغيرهم، كانت مألوفة لديه مذ كان في الخامسة أو السادسة، وقبل أن يقرأ لأصحابها حرفاً. وكانت والدته تُقلّد له أصواتهم وطريقتهم في الكلام فيضحك لصدق محاكاتها لصوت العقاد الضخم، وبطء طه حسين الشديد، وثرثرة الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الفقيه القانوني البارز ووزير المعارف، وصياح الشاعر علي الجارم باسمه فكأنما يعلنه للتاريخ: «أنا الجارم»، وتَبسُّط عبد العزيز فهمي باشا، أول من وضع مُسوّدة الدستور المصري في صيغته الحديثة، في الأخذ والرد.

وكان أحمد أمين يقص على زوجته وعلى مسمع من أبنائه أصل العداء المرير بين السنهوري وطه حسين وحيرته بينهما؛ فكلاهما صديقه الحميم، كما يسرد على الأسرة طرائف عن بخل توفيق الحكيم، ويُثني على أريحية تيمور وسماحته وطيب خلقه، ويشبه لهم أسلوب طه حسين بحلوى «غزل البنات»، كما يقص عليهم ذكرياته عن الشيخ محمد عبده ونبأ مقابلاته لحافظ إبراهيم، أو يتنبأ بمستقبل باهر في الأدب لموظف صغير بوزارة الأوقاف يدعى نجيب محفوظ. وإن ولدت قطتهم، أسمعهم قصيدة أمير الشعراء أحمد بك شوقي في القطة التي ولدت بحجرة مكتبه، وإذا حلّ الباذنجان على طاولة الغداء أنشدهم قصيدة شوقي الساخرة «نديم الباذنجان» التي يقول في مطلعها:

كان لِسلطانٍ نَديمٌ وافِ

يُعيد ما قال بلا اختلافِ

على ضوء هذا وغيره من مئات القصص والتفاصيل عن الحياة الخاصة لهؤلاء الأدباء والكتاب والمفكرين ولأنماط شخصياتهم، بدأ حسين أحمد أمين يقرأ كتبهم، فهم ليسوا غرباء عليه وباستطاعته حين يقود محمود تيمور إلى حجرة الاستقبال أن يعبّر له عن إعجابه بروايته «سلوى في مهب الريح»، أو حين يرد على العقاد في التليفون أن يخبره أنه قرأ له كتابه الشهير «عبقرية عمر»، فيداعبه العقاد بقوله: «كم سنك يا جحش؟»، وحين يعرف أن نجل صديقه أحمد أمين في العاشرة من العمر، يقول: «لا أعتقد أنك فهمته كل الفهم»، فيتحداه الطفل الصغير الذكي متحمساً: «بل فهمته، واسألني فيه إن أحببت»، فيتهرب العقاد من استمرار النقاش بقوله: «ليس لديّ وقت لسؤالك فيه. نادِ لي أباك».

وكان الصبي حسين يجد أحياناً صعوبة في إقناع والده بحاجته إلى حُلة أو حذاء جديد؛ خشيةَ أن يغضبه، أما فيما يتعلق بالكتب فالباب مفتوح على مِصراعَيه يشتري منها ما يحب؛ فهو يأذن له أن يأخذ من «مكتبة النهضة المصرية»، التي تتولى نشر مؤلفاته، أي عدد من الكتب دون قيد، ثم تحاسبه المكتبة في آخر العام. وكان حسين أكثر أبنائه استغلالاً لهذه الرخصة، ولم يحدث أن اعترض والده على إسرافه في هذا الاستغلال إلا مرة واحدة؛ حين قرأ في كشف الحساب السنوي اسم كتاب في تاريخ العالم من خمسة عشر مجلداً بلغ ثمنه أربعين جنيهاً، وهو ثمن باهظ يفوق راتب موظف كبير في شهر بمعايير ذلك الزمان.

ويشير حسين أحمد أمين إلى ملاحظة مهمة تتعلق بتكوين والده الثقافي: «فقد كان لا يكاد أحد يجاريه في معارفه الإسلامية، وفي إلمامه بتاريخ حضارة الإسلام وعلومها لا سيما في الفلسفة والأدب. أما فيما عدا ذلك فثمة خلل كبير، تداركه بعض كتّاب عصره كالعقاد وطه حسين. فهو لا يعرف شيئاً عن الموسيقى الغربية ولا يستسيغها، والأسماء الرنّانة في ميدانها هي عنده مجرد أسماء. وهو لا يكاد يقرأ قصصاً أو مسرحيات غير بعض ما يهديه إليه من مؤلفاتهم أدباء عصره كتوفيق الحكيم ومحمود تيمور والروائي الشاب نجيب محفوظ تجنباً للحرج حين يقابلهم بعدها». ولا يعتقد حسين أن والده قد قرأ في حياته رواية لتولستوي أو دوستويفسكي أو مسرحية لموليير، وهو لا يعرف شيئاً عن الأوبرا والباليه ولا عن فنَّي التصوير والنحت، ولا يظنه زار متحفاً للفنون في مدينة أوروبية إلا من قبيل الواجب.

غير أنه مع كل هذا القصور لم يكن يتظاهر بعكسه ولا كان الأمر يؤرقه. كل ما هنالك هو أنه حين ضعف بصره ضعفاً شديداً وصار مهدداً بفقده، وأحسّ بحسرة شديدة إذ لم يُعْنَ في شبابه بتنمية اهتمامات وهوايات مختلفة ولم يهوَ غير القراءة والكتابة اللتين أصبح الآن مهدداً بأن يُحرَم منهما فكان يردِّد قوله: «لو أني نمّيت في نفسي هواية الاستماع إلى الموسيقى مثلاً، لكان في لجوئي الآن إليها العزاء عن فقد البصر».

وقد كان على حد علم حسين على علاقة طيبة بجميع أدباء عصره، ولم تكن هناك بينه وبين أحدهم ما يشبه الخصومة غير زكي مبارك، بسبب سلسلة طويلة من المقالات نشرها الأخير في مجلة «الرسالة» بعنوان «جناية أحمد أمين على الأدب العربي»، يرد فيها على سلسلة طويلة من المقالات نشرها أحمد أمين في مجلة «الثقافة» بعنوان «جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي». أما الأديب الأثير عنده الذي يشبهه خلقاً وطباعاً فهو محمود تيمور، وكثيراً ما كان يجتمع بتوفيق الحكيم سواء في مقهاهما المفضل على البحر بالإسكندرية في أشهر الصيف، أو في اجتماع كل خميس بمقر «لجنة الـتأليف والترجمة والنشر»؛ حيث كانت تلتقي نخبة من مفكري مصر وأدبائها وعلمائها ورجال التربية فيها. كان أحمد أمين يأذن لابنه وهو بعدُ صبيٌّ في المرحلة الابتدائية بحضور تلك الندوات. ويذكر حسين أنه كلما استفسر من توفيق الحكيم عن كتب يقرأها أو آداب ينصح بأن يغترف منها، كان ينصحه بأن يركز على الآداب الغربية، ولا بأس من النظر بين الفَينة والأخرى في «العقد الفريد» أو «الأغاني»، طالباً منه وهو يضحك أن يكتم هذه النصيحة عن والده حتى لا يغضب منه.



«الأديب الثقافية»: محور عن الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية

«الأديب الثقافية»: محور عن الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية
TT

«الأديب الثقافية»: محور عن الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية

«الأديب الثقافية»: محور عن الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية

صدر العدد العاشر من مجلة «الأديب الثقافية - صيف 2024»، وهي مجلة فصلية عراقية تُعنى بـ«قضايا الحداثة والحداثة البعدية»، يرأس تحريرها الكاتب العراقي عباس عبد جاسم، وقد تضمّنت دراسات وبحوثاً ومقالات ثقافية مختلفة.

كتب رئيس التحرير «افتتاحية» العدد بعنوان «أسلمة العروبة أم عوربة الإسلام».

وتضمّن حقل «بحوث» ثلاث دراسات؛ «أدونيس بين النص والشخص» للشاعر والناقد والمترجم عبد الكريم كاصد، إذ «يكرّر أدونيس في حديث له أخير، ما قاله سابقاً في مناسبات كثيرة، وهو أن القارئ العربي غير معني بالنص قدّر عنايته بالشخص الذي يقرأ له، وبعبارة أخرى أنه يقرأ النص، فما يشغله هو الشخص ذاته كما يفهمه القارئ من خلال الصورة التي كوّنها عنه، الصورة التي قد تكون مفارقة تماماً للصورة الحقيقية للشخص».

والدراسة الثانية «الخطاطة المعرفية: المفهوم وتعدّد التسميات» للناقدة الدكتورة وسن عبد المنعم، وذلك من خلال تفكيك «المتوالية القصصية» للدكتور ثائر العذاري، وفيه تسعى إلى التوصل لمفهوم جديد للنقد المتفكّر بآركيولوجية معرفية، من منطلق ما يصطلح عليه بـ«الخطاطة المعرفية» من حيث المفهوم العابر للنقد الأدبي، بوصفها تمثّل أهم الثيمات المفصلية في التحولات المعرفية ما بعد الحداثية بأفق سوسيو ثقافي أوسع.ونشر الدكتور فاضل عبود التميمي «قراءة في ضوء الدراسات الثقافية» لـ«يوميات الطفولة في سيرة - أمواج» للناقد العراقي الدكتور عبد الله إبراهيم.

وتقدّم «الأديب الثقافية» محور «الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية» بأفق نقدي موسع، يضم دراسات لنقاد وأكاديميين عرب وعراقيين، منها: مشروعية ما بعد الأكاديمية في النقد العربي المعاصر - للدكتورة آمنة بلعلي من الجزائر/ ما بعد المنهج: مسارات النقد العربي المعاصر من التمثل إلى الكاوس - للدكتور فيصل حصيد من الجزائر أيضاً/ المفاتيح الإجرائية للمرحلة ما بعد الأكاديمية - للدكتور محمد سالم سعد الله/ النقد العربي ما بعد الأكاديمي (قفزة نوعية برهانات كبيرة) - للدكتور عبد العالي بوطيب من المغرب/ المقاربات البينية أفقاً للدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية - للدكتور عبد الحق بلعابد من جامعة قطر/ النقد وسلطة المؤسسة - للدكتور سامي محمد عبابنة من الأردن/ الممهدات النظرية والفكرية للدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية - للدكتورة إنصاف سلمان/ مقدمة في الفكر النقدي لما بعد النظرية النقدية - عباس عبد جاسم.

وفي حقل «ثقافة عالمية»، نشر المترجم والكاتب المغربي عبد الرحيم نور الدين ترجمة لـ«حوار بين المفكر الأميركي مايكل ساندل والفيلسوف الاستراقام إلى بيتر سينجر»، وتضمن مستويات متعدّدة من الفكر والفلسفة: «العدالة في العالم/ الأخلاق/ منطق السوق/ الثقافة النفعية». وفي حقل «نصوص» أسهمت الشاعرة والروائية العراقية المغتربة نضال القاضي بقصيدة حملت عنوان «يممت وجهي».

وفي حقل «تشكيل» كتب عبد الكريم كاصد مقالة بعنوان «تعبيريون: كاندنسكي، مونتر، والفارس الأزرق» عن معرض تشكيلي شامل.

وفي حقل «نقطة ابتداء»، تناول الدكتور عبد العظيم السلطاني «محنة قصيدة النثر»، إذ استتبع فيها العلامات الفارقة في تاريخ قصيدة النثر من حيث التنظير لها والمنجز منها، ابتداء من كتابها في مجلة «شعر» في بيروت مثل أدونيس وأنسي الحاج، وغيرهما، ومحمد الماغوط قبلهما، وتوقف عند النقاط المفصلية لمأزق قصيدة النثر ومحنتها في المرحلة الراهنة.

وتصدر «الأديب الثقافية» بطبعتين؛ ورقية وإلكترونية في آن واحد.