الفتاوى التكفيرية تلاحق سبينوزا منذ 400 سنة حتى اليوم

بسبب رفضه مقولة «شعب الله المختار»

الفتاوى التكفيرية تلاحق سبينوزا منذ 400 سنة حتى اليوم
TT

الفتاوى التكفيرية تلاحق سبينوزا منذ 400 سنة حتى اليوم

الفتاوى التكفيرية تلاحق سبينوزا منذ 400 سنة حتى اليوم

كان المجلس الديني اليهودي في مدينة أمستردام بهولندا، قد أصدر فتوى لاهوتية، بتاريخ 27 يوليو (تموز) من عام 1656، تدين سبينوزا إدانة قاطعة مانعة، بحجة الزندقة والكفر، والخروج على عقيدة الطائفة والملة.

وكان مما جاء في النص الحرفي للفتوى: «لقد اطلعنا منذ بعض الوقت على الزندقة الرهيبة والأفعال القبيحة لهذا الشخص المدعو سبينوزا، وقد حاولنا مراراً وتكراراً ردعه عن نهجه المنحرف، ولكن بلا جدوى، ولذلك قرّرنا فصله من أمة إسرائيل، ولعنه دينياً وأبدياً ولاهوتياً بإصدار هذه الفتوى، لعنه الله في الليل، ولعنه الله في النهار، لعنه الله إلى أبد الآبدين، لعنه الله إلى يوم الدين».

ما سبب كل هذه الغضبة الشديدة على المسكين سبينوزا؟ ماذا فعل؟ ما الجريمة التي اقترفها؟ نقول ذلك، خصوصاً أن كل الأخبار تقول بأنه كان تقياً ورِعاً منذ نعومة أظفاره، وكان مثابراً على الصلوات والتعبد في الكنيس اليهودي، بل كان والده يُحضّره لكي يصبح حاخاماً، أي رجل دين.

يبدو أن سبب ابتعاده عن التدين التقليدي الأصولي يعود إلى اطلاعه على الفلسفة الحديثة، أي فلسفة ديكارت، التي كانت رائجة كثيراً في تلك الأيام، كما يعود إلى اختلاطه بالأوساط المسيحية الليبرالية المستنيرة، الخارجة على العقائد اللاهوتية لرجال الدين من يهود ومسيحيين.

ولذلك انقطع عن التردّد على الكنيس اليهودي والطقوس والعبادات بعد سن الثامنة عشرة، لقد أقنعَته الأفكار الحديثة بالتراجع عن التدين التقليدي المجترّ والمكرور والعقيم في نهاية المطاف، لقد حصل له ما يحصل حالياً للعديد من الشباب العرب، الذين يُتاح لهم الاطلاع على الأفكار الحديثة واللغات الأجنبية.

فالطقوس أصبحت مُرهِقة بالنسبة للشباب الصاعد، الذي يبحث عن الخروج من الجو الخانق للقرون الوسطى، هنا تكمن مشكلة سبينوزا بكل بساطة، وهذا ما حصل له بالضبط. لقد أغوته الفلسفة العقلانية، وأبعدته عن التدين التقليدي ورجال الدين في آنٍ معاً، ولذلك لم يَعُد يذهب إلى الكنيس اليهودي في أمستردام لأداء الفرائض والصلوات... وهنا، في هذه القطيعة، يكمن لب الحداثة وجوهرها، هذا لا يعني أنه أصبح ملحداً أو كافراً كما يُشاع، ولكنه لم يَعُد قادراً على التقيد بكل هذه الإكراهات والقيود التي يفرضها رجال الدين.

علاوةً على ذلك فإن المسيحيين الليبراليين، الذين أصبح يعاشرهم ويختلط بهم، تخلَّوا هم أيضاً عن أداء الطقوس المسيحية في الكنيسة، وأصبحوا يعتقدون مثل سبينوزا بأن الإيمان الحقيقي يكمن فقط في المعاملة الطيبة مع الآخرين، واتباع قيم العدل والإحسان والنزاهة والصدق.

هذا هو الدين في نظرهم، هذا هو جوهر الدين، أما التعصب الطائفي والمذهبي، الذي كاد أن يدمر هولندا وكل أوروبا في عصر سبينوزا، فهو عدو الدين بالمعنى الحقيقي للكلمة، وعدو الفلسفة العقلانية، وعدو الإنسانية.

هناك الدين، وهناك الطائفية، وهما شيئان مختلفان تماماً، وهذا ما لا يفهمه الأصوليون وعامة الشعب، لهذا السبب انتفض سبينوزا ضد الكنيس اليهودي، وأعلن العصيان على الحاخامات الكبار، ولهذا السبب فتكوا به فتكاً ذريعاً، عن طريق إصدار هذه الفتوى اللاهوتية التي تكفّره وتزندقه.

ولكن المشكلة ليست هنا، فهذا الشيء كان متوقَّعاً في القرن السابع عشر، حيث كانت الطائفية الأفق الذي لا يمكن تجاوُزه تماماً، كما هو عليه الحال حالياً في العالم العربي، المشكلة هي أن هذه الفتوى التي خلّدتها كتب التاريخ لم تُرفَع عن سبينوزا حتى الآن، أي بعد حوالي الأربعة قرون من إصدارها، فعندما حاول دافيد بن غوريون عام 1953 إزالتها وردّ الاعتبار لسبينوزا، بوصفه أحد عباقرة اليهود الكبار على مدار التاريخ، رفض حاخامات إسرائيل طلبه رفضاً قاطعاً، بل حتى بعض فلاسفة اليهود ومثقّفيهم الكبار رفضوا إعادة الاعتبار له.

نضرب على ذلك مثلاً بالفيلسوف المشهور إميل ليفيناس، صاحب المؤلفات المعدودة، لقد قال لبن غوريون ما معناه: هذا الرجل عدو لليهود، حتى ولو كان من أصل يهودي أباً عن جد، إنه خائن لشعبه وأمّته، إنه خائن لدينه وتراثه، لقد أخضع اليهودية لعدوّها اللدود، أي المسيحية. هذا ما يقوله مثقف طائفي كبير هو إميل ليفيناس، فما بالك برجل الشارع؟

لقد جرت محاولة ثانية عام 2012، أي قبل بضع سنوات، لرفع فتوى التكفير عن سبينوزا، فقد اجتمع بعض عقلاء الطائفة اليهودية في مدينة أمستردام، وطلبوا رسمياً من السلطات الحاخامية الكهنوتية إزالة هذه الفتوى، قائلين: والله عيب! لقد مرّت حوالي الأربعمائة سنة على هذه القصة، أما آنَ الأوان لأن تُزال هذه اللعنة عن سبينوزا؟! فاجتمع الحاخامات الكبار في هولندا، وتشاوروا في الأمر على مدار سنة كاملة، فماذا كانت النتيجة؟ الرفض القاطع أيضاً. قالوا: لا، لا نستطيع إزالة هذه الفتوى عنه، ولا نستطيع أن نَعدّه يهودياً حقيقياً؛ لأنه كان مارقاً زنديقاً كافراً بثوابت العقيدة والدين، وأكبر دليل على ذلك أنه هو شخصياً لم يطلب من السلطات الدينية في عصره رفع الفتوى عنه، ولا ردّ الاعتبار له، ولم يهتم بالأمر على الإطلاق، ولم يقدّم التوبة عما فعل، ولم يطلب الصفح والغفران من الكنيس اليهودي، بل ربما كان يعدّ الفتوى التكفيرية هذه بمثابة وسام على صدره، ومفخرة كبيرة له، وبالتالي فلا نستطيع أن نفعل له شيئاً؛ لأننا إذا ما رفعنا الفتوى التكفيرية عنه، فهذا يعني أننا وافقناه على زندقته وكفره بعقائد الملة.

كيف نفسّر ملابسات كل هذه القضية التي شغلت اليهود على مدار القرون دون أي حلّ؟ كيف يمكن أن نفسّر في العمق موقف سبينوزا؟ يمكن أن نقول ما يلي: بما أن سبينوزا كان ينتمي إلى أقلّية محتقَرة ومضطهَدة على مدار التاريخ، فإن الحل الوحيد بالنسبة له كان الانصهار في المجتمع المسيحي كلياً، أي أغلبية الشعب.

نقول ذلك، وخصوصاً أن الأفكار التنويرية الجديدة كانت قد أخذت تنتشر بسرعة في هولندا آنذاك، وبالتالي فإن الانغلاق داخل جدران الطائفة ليس هو الحل، الحل الوحيد بالنسبة له هو الخروج كلياً من الانغلاقات الطائفية، الحل الوحيد هو اعتناق الفلسفة العقلانية الديكارتية، التي كانت واعدة بالمستقبل.

نحن نقول الآن: كانت تمشي ضمن اتجاه حركة التاريخ... بمعنى آخر فإن الحل الوحيد بالنسبة لسبينوزا كان يكمن في التخلّي كلياً عن التدين الطائفي السائد، نقول ذلك خصوصاً أنه هو الذي مزّق أوروبا ودمّرها بسبب الحروب الكاثوليكية - البروتستانتية التي لم تُبقِ ولم تَذَر.

كان سبينوزا يقول ما معناه: التدين الحقيقي هو أن نحب الله فكرياً وفلسفياً وعقلانياً، دون أي هيجانات طائفية، أو تعصب أعمى. ثم يُردِف: التدين الحقيقي هو اتّباع مكارم الأخلاق، أي ممارسة الفضيلة والنزاهة والصدق والعدل والإحسان، بقدر الإمكان طبعاً، ليست لدينا أوهام حول الموضوع، الناس ليسوا ملائكة، الإنسان ضعيف أمام الإغراءات والشهوات والانحرافات.

علاوةً على كل ذلك فإن سبب غضب حاخامات أمستردام على سبينوزا، هو أنه أنكر صحة بعض العقائد اليهودية الأساسية، وفي طليعتها: مقولة «شعب الله المختار»، فقد رفضها رفضاً قاطعاً، يقول بالحرف الواحد: «عندما ننظر إلى الشخص اليهودي بحدّ ذاته، فإننا لا نجد أنه يتمتع بميزات خارقة تضعه فوق بقية البشر، وبالتالي فلا يوجد أي فرق بين اليهود والأغيار، كلهم بشر، ومتساوون في البشرية والإنسانية».

بمعنى أنه يوجد في اليهود الأخيار والأشرار، الصالحون والفاسدون، تماماً كما لدى بقية البشر، وبالتالي فبأي حق نعتبرهم شعب الله المختار؟ هذه مقولة لاهوتية أصولية، وليست مقولة عقلانية منطقية. ثم يضيف سبينوزا هذه العبارة الخارقة التي جنّنت حاخامات هولندا: «لم يتفوق العبرانيون على بقية الشعوب، لا بالعلم، ولا بالنزاهة، ولا بالورع والتقوى»!

ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني ما يلي: لقد دشّن سبينوزا في عصره المثال الأعلى على المثقف الحديث اللاطائفي، أي المثقف الذي لا ينتمي إلى أي طائفة، ما عدا طائفة الفلسفة التنويرية وعشاق الحقيقة.

والآن دعونا نستجوب أحد كبار فلاسفة فرنسا المعاصرين بخصوص سبينوزا، عنيت آلان باديو، ما رأيه بهذا الفيلسوف المارق الزنديق؟ إنه مُعجَب به كل الإعجاب، إنه يقول حرفياً: لقد كان سبينوزا يهودياً متحرراً من كل القيود الدينية واللاهوتية والطائفية، لقد كان يهودياً حراً، ولذلك لا يمكن أن يفهمه المثقفون الطائفيون المنغلقون داخل جدران طائفتهم ومذهبهم، بينه وبينهم سنوات ضوئية، لقد كان سبينوزا يهودياً حراً، أو بالأحرى إنساناً حراً، نقطة على السطر.

ولكن بعض المثقفين الفرنسيين الحاليين، من أمثال جان كلود ميلنر، يعتبرونه عدواً لذاته، أي لليهود، فما رأيك؟

على هذا السؤال يجيب آلان باديو قائلاً: بهذا المعنى فأنا أيضاً عدو لذاتي، وعدو لفرنسا، على الرغم من أني فرنسي أباً عن جد منذ آلاف السنين، وذلك لأني أنتقد بشدة العنصرية الفرنسية تجاه المهاجرين والعمال المغتربين بشكل عام، هؤلاء الناس الذين يتّهمون سبينوزا ويلاحقونه بشراسة أشخاص ضيّقو العقول، إنهم لا يفهمون أنه توجد قيم كونية تتجاوز الطائفية والعنصرية كلياً.

هذه القيم الكونية التنويرية هي التي دشّنها سبينوزا في القرن السابع عشر، ثم مشى على خطاها كل فلاسفة الأنوار في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، من فولتير إلى كانط إلى هيغل... إلخ، ثم تجسّدت هذه القيم الكونية المضادة للطائفية والعنصرية في إعلان حقوق الإنسان والمواطن، الذي أعلنته الثورة الفرنسية عام 1789.

وأخيراً يضيف الفيلسوف الكبير آلان باديو هذه العبارة: هؤلاء الناس الانغلاقيون المتعصبون يريدون أن يقضوا على فكرة اليهودي الحر المستنير، ولكن لحسن الحظ فإنه يوجد في عالمنا اليوم عدد كبير لا يُحصَى من اليهود الأحرار المستنيرين.



«مدائح تائهة»... نصّ يتمرد على التصنيفات الأدبية

«مدائح تائهة»... نصّ يتمرد على التصنيفات الأدبية
TT

«مدائح تائهة»... نصّ يتمرد على التصنيفات الأدبية

«مدائح تائهة»... نصّ يتمرد على التصنيفات الأدبية

«الإنسان حيوان مدّاح»، يقول رائد العيد في كتابه الجديد «مدائح تائهة»، عادَّاً أن «تأمل الأشياء من حولنا نوع من ممارسة الخشوع»، ورؤية ما هو غير متاح عند النظرة العابرة. لذا؛ يصحبنا في رحلة إلى استكشاف جوانب لم نلتفت إليها، ومعاينة ظواهر لم نعرها اهتماماً.

لذا؛ فأنت تقرأ الكتاب مستلذاً وكأنك تستبطن ذاتك، وقد لا تدرك جيداً مرامي المؤلّف إلا وأنت تتقدم في الصفحات. في الفصل الأول تعاريف لفكرة «المديح» وحب المخلوقات للثناء، منذ نبينا آدم الذي «أسبغ عليه الله مديحه، فغار إبليس وفعل ما فعل لتبدأ الحكاية»، وصولاً إلى زمن الليكات، الذي يعتاش فيه الإنسان على الإعجاب الرقمي. إنه «عصر مدح ما لا يمدح». وكما الأمس كذلك اليوم «المديح مخدّر نفّاذ، وذو صدى عالٍ ولو كان صامتاً»، لا، بل يصح القول: «أنا أمدح، إذن أنا موجود».

فصول تحمل عناوين ذات طابع تأملي وشعري في آن: «المديح»، «البدايات»، «الإطار»، «السقف»، «اللامكان»، «اللعب»، «النظر من الأعلى»، «اللوز»، و«الهامش». كل منها يفتح الباب على أسئلة جديدة، خاصة وأن الكاتب السعودي رائد العيد يحاول أن يقلّبها، ويراها من زوايا مختلفة، مبتدئاً بزاويته الخاصة، ذكرياته الذاتية، وصداها في أعماق روحه.

هي نصوص حرّة ومترابطة، منعتقة من أسر الشكل أو هموم التأطير الجامد، تذكّر في بحثها عن جماليات الأشياء اليومية بكتابات رولان بارت. «مدائح» لا تنتمي إلى جغرافيا محددة أو هوية جامدة، بل إلى القيم المتحركة: البداية، النسيان، الانتباه، والدهشة.

البدايات الجديدة ممنوعة

فالكلام على «البدايات» مثلاً، قد يعني الولادة، ذكريات الطفولة، أو مقدمة كتاب، وقد تكون بداية حياة جديدة، على طريقة محمود درويش «تنسى كأنك لم تكن»، وهذا بات صعباً؛ لأن العصر الحديث يلغي حق الإنسان في نسيان ماضيه، لأننا نعيش في «عصر يسترزق من تجارة الذاكرة».

غونتر غراس، بعد نيله نوبل، أرفع جائزة أدبية عالمية، اضطر وهو على مشارف الموت، إلى أن يعترف بعمله مع الفرقة الخاصة بهتلر. كان يومها مراهقاً صغيراً. لكن هذا لم يغفر له فعلته، سُحبت منه الجوائز ونُزع عنه لقب «ضمير الأمة الألمانية». علم النفس بدوره يعيدنا أبداً إلى البدايات، يقول لك إن كل شيء ينبع من هناك. أما الإنترنت فهو الذي قضى على أي أمل في حذف تاريخ أو تعديل ماضٍ. مع أن العيش في سجن ما فات وانقضى هو انتهاك لحق الإنسان الطبيعي. «أن يكون باستطاعة المرء البداية من جديد على طريقته، وحسب إرادته ضرورة وليست ترفاً، وعلى المجتمع التكفل بحق صنع البدايات».

«الإطار» شاشة الأحلام

كل فصل يفتح نوافذ على الفصل الذي يليه. ننتقل إلى «الإطار» ليس فقط الإطار الذي يحيط باللوحة، فهذا يتحول في ذهن الكاتب وهو طفل إلى شاشة للأحلام. الأهم من الصورة ومشهديتها هو طريقة تأطيرها الذي يمنحها معنى آخر. هكذا هو الحال مع النص.

الإطار هو ما يحاول أن يتفلت منه الكاتب، وتحديداً رائد العيد نفسه، محاولاً الخروج من الأطر، ليرسم لنفسه بروازاً يحدده بنفسه، مكتفياً بـ«إطار الفكرة». ومثله فعل شعراء الحداثة الذين يتحدث عنهم حين رفضوا عمود الشعر، مطالبين بالتحرر منه. لكن النقاد يصرون أبداً على تصنيف الكاتب تبعاً لشروط ومفاهيم جنس أدبي بعينه. والمبدعون الحقيقيون يهربون كالأطفال من هذه التصنيفات، في محاولة دءوبة للحفاظ على حقهم في «دهشة متجددة». يقول: «قد نخسر الكثير من الحرية بالتأطير، وقد نخسر أكثر بفقدان الإطار».

«السقف» هو الضيق والاتساع

السقف، كما يصوره الكاتب، ليس فقط الجزء العلوي من الغرفة الذي يظلل رؤوسنا، بل هو «رفيق العزلة» و«ذاكرة الخيال». نتحدث عنه كأنه يرسم حدود الأشياء «سقف الطموحات»، «سقف الحرية»، «سقف الذاكرة»، وقد يكون «مكاناً للأوهام» كما عند ماركيز، أو «مساحة للفن» كما في أعمال سلوتاوا، أو «وجه الحرية» كما عند محمود درويش. تغيرت أشكال السقوف عبر التاريخ، من خشبية عند المصريين القدماء، إلى سماوية اللون مغطاة بالنجوم عند اليونان، إلى مزدانة بالرسوم عند الرومان، وليس أجمل ولا أروع من أسقف مايكل أنجلو. وفي الكتاب كلام عن جماليات الأسقف وفنون تزيينها، وعودة إلى السقف الأبيض كبياض الورقة في الكتاب. السقوف في كل الأحوال تتكلم، وقد تتحول وحشاً مخيفاً أو مساحة للتأمل، لكنها ليست حيادية أبداً، ومع ذلك نادراً ما ينتبه المصممون إلى ما يفعل السقف بالمتأمل.

السقف يفترض أن يكون متسعاً، يفسح مجالاً للعين والخيال والأفق. «مطلوب دوره أكثر من شكله، وإلا تحول من مكان يخصنا إلى لامكان». هو في الوقت نفسه، رمز للحدود، للقيود، والمدى الضيق الفكري والروحي الذي نحياه. أما «اللامكان»، فهو تأمل في الغربة، والتيه، والحنين إلى ما لم يكن.

«اللامكان» مكان ناقص

يتناول الكتاب مفهوم «اللامكان» كما قدمه الأنثروبولوجي الفرنسي مارك أوجيه، ويربطه بسمات الحداثة المفرطة التي تتسم بالتسارع وفقدان المرجعيات الثابتة. يرى المؤلف أن المكان يكتسب معناه وهويته من خلال ما ينسج فيه من علاقات ومعانٍ وتاريخ، وأن اللامكان هو على النقيض من ذلك؛ موضع بلا تاريخ أو مستقبل، غارق في اللحظة الراهنة، ومهموم بإشباعها.

يصف الكتاب «اللامكان» بأنه بلا إمكانات، موطن الأفعال الناقصة والبدايات غير المكتملة واللحظات العابرة. فالأماكن تتشكل بأهلها لا بجدرانها، بالتاريخ بالمستقبل. فما يجعل المكان مكاناً هو العلاقات التي تنشأ به. فنحن نشكل أماكننا ثم تعود هي لتشكلنا بدورها. «نخطط مدننا ونشيدها، لنصبح بعد ذلك أشبه بالأسرى لإيحاءاتها وتأثيراتها في أخلاقنا ومشاعرنا».

المقاهي، المطارات، الفنادق، الطرقات، أماكن موجودة، لكنها لا تضم مجتمعاً عضوياً. هي اللامكان لأنها تحرر من يدخلها من محدداته المعتادة، ليصبح مجرد مسافر أو زبون أو سائق.

«وإذا كان من معنى للحياة، «فهو أن تجعل من اللامكان مكاناً يخصك قبل أن ترحل عنه. هذه هي مهمة الحياة».

اللعب من أجل اللعب

يسهل مدح اللعب ويصعب تعريفه. لعله هو أمر نفعله لذاته، بمحض إرادتنا لمجرد التسلية دون أي هدف آخر. و«نتحصّل على فائدته وإن لم نطلبها». فنحن نلعب من أجل اللعب. و«لولا اللعب ما رأى عمل إبداعي النور قط» بحسب كارل يونغ. فهو يصقل شخصية المرء أكثر من أي نشاط آخر، ويساعد على استقصاء الذات واكتشاف كنهها وتمكين الإنسان من صنع كينونته الفردية. وأي لعبة من السهل تعلمها ولكن من الصعب إتقانها، كما الكتابة، يراها المبتدئ شديدة السهولة، ويراها المتمرس عصية على الإتقان.

فاللعب تجريب، وتسلية تتوق إليها الروح، وتحطيم للقواعد واستخدام لأعراف جديدة، وهو كله أصل في الابتكار.

«مدائح» لا تنتمي إلى جغرافيا محددة أو هوية جامدة... بل إلى القيم المتحركة: البداية، النسيان والانتباه والدهشة

صوفية «النظر من الأعلى»

أن تنظر إلى الأشياء من علٍ فيه توسعة للرؤية، وكشف عن جوانب لم نكن نراها من الداخل، ومصدر إلهام. تعلم برؤيتك العلوية أنك مجرد «نقطة في بحر اللانهائي» ويقر الإنسان بضآلته في هذه العوالم التي يراها. في هذا الفصل يستعين الكاتب بأمثلة من التصوير الجوي، والفلسفة، والسينما والأدب، كما في الفصول الأخرى. يضع القارئ أمام السؤال: ما الذي نغفله حين نعتقد أننا «نرى كل شيء»؟ وكيف أن التواضع في الرؤية قد يكشف أكثر مما يُخفيه التعالي؟

وبالعودة إلى الأدب، فإن الكاتب الذي لا يملك لعمله نظرة كلية من الأعلى يتوه في التفاصيل، وينفّر القارئ. «لا أنظر من أعلى بحثاً عن مكاسب عاجلة، عن منظر بديع فقط، أنظر من هناك تمريناً على سعة الأفق، وبعد النظر، واختبار انسجام الأشياء مع بعضها البعض»، يقول الكاتب.

«اللوز» من اليابان إلى فلسطين

يتناول الكتاب «اللوز» كرمز متعدد الدلالات، بدءاً من تجربة شجرة اللوز الهجينة في مزرعة العائلة، التي يربطها المؤلف بمفهوم الهوية الهجينة. يعبر عن حبه للوز بصفته عنصراً مندغماً في المأكولات. لعل فصل «اللوز» الثمرة التي يفضلها الكاتب على كل ما عداها، خاصة حين تصبح جزءاً من كرواسان الصباح هي المبرر للبحث عن مزاياها ومكانتها في الطبيعة والأدب واللوحة وعند اليابانيين بشكل خاص.

ويبدو أن الفلسطينيين هم أكثر من أجادوا الكتابة عن اللوز وزهوره وأشجاره هذا يذكرنا بديوان محمود درويش «كزهر اللوز أو أكثر». الشاعر الذي يحظى بصفحات من هذا الفصل والذي رأى أن «وصف زهر اللوز لا تكفيه موسوعة الأزهار ولا يسعفه القاموس في ذلك؛ لأن البلاغة تجرح المعنى وتمدح جرحه، ويبقى زهر اللوز مزهراً بلا وصف يليق به». يصف الكتاب طقس تكسير حبات اللوز بصفته جزءاً من اجتماع العائلة في أمسيات الشتاء، ويربطه بمفهوم الأنس، على عكس تجربة الكاتبة الإيرانية آذر نفيسي التي تستخدم اللوز جزءاً من طقوسها لتنفيس الغضب.