قسطنطين كفافيس... مكانة شعرية «مُبالغ فيها»

ولد وعاش ودفن في مصر إلا أن شيئاً منها لم يتسلل إلى شعره

كفافيس
كفافيس
TT

قسطنطين كفافيس... مكانة شعرية «مُبالغ فيها»

كفافيس
كفافيس

وُلد قسطنطين كفافيس في مصر سنة 1863 لأسرة يونانية استقرت في الإسكندرية في أوائل القرن التاسع عشر، وأثرت من التجارة قبل أن تنضب مواردها ويتبدد إرثها بعد وفاة الأب. عاش كفافيس حياته كلها في الإسكندرية (فيما عدا بضع سنوات من طفولته قضاها في لندن حتى عادت به أسرته في سن التاسعة)، وعمل موظفاً بسيطاً لدى الحكومة المصرية في وزارة الأشغال العامة حتى تقاعده ووفاته عن سبعين عاماً في سنة 1933، حيث دُفن في الإسكندرية، واليوم يحمل الشارع الذي عاش فيه اسمه وتحولت شقته إلى متحف. إلا أن شيئاً من حياة مصر أو ثقافتها أو ناسها لم يكد يتسلل إلى شعره رغم هذه المعايشة الطويلة. عاش عمره كاملاً في الإسكندرية، إلا أنه عاش أجنبياً، يونانياً، منغلقاً على التاريخ اليوناني والروماني القديم والإرث الأدبي والأسطوري لتلك الثقافة، ورغم أن التاريخ اليوناني والتاريخ المصري وحضارتيهما امتزجا في مراحل عدة منذ الإسكندر الأكبر الذي أسس الإسكندرية ومنذ حكم البطالمة الذي تلى موته (323 ق.م.)، إلا أن هذا الامتزاج القديم والاحتضان المصري للثقافة الهيلينية لقرون طويلة لم يتسلل إلى الواعية الشعرية لذلك الشاعر اليوناني المحدث.

لعل هذا لم يكن بالشيء الغريب تماماً في مدينة كوزموبوليتانية مثل الإسكندرية كانت في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين تموج تحت الاحتلال البريطاني بشتى الأجناس واللغات والأديان من أقطار أوروبا، وقد ينعزل بعضها عن البعض، وإن اشترك الجميع في الانعزال المتعالي عن المصريين. ربما لا يُستغرب هذا كله في وسط كوزموبوليتاني كولونيالي، لكني أستغربه من نفس شاعرة، دارسة للتاريخ والحضارة، المفروض فيها الانفعال بما حولها، وأن تصل الحاضر بالماضي. لذلك اندهشت دهشة شديدة حين استجبت مؤخراً لفضول معرفي قديم لم يُتح لي إشباعه من قبل، فضول نحو استكشاف هذا الشاعر اليوناني «المصري» الإسكندراني، الذي ظننت أنني أستطيع أن أعده ابن بلدي على نحو ما. فحصلت على ديوانه الشعري الكامل مترجماً إلى الإنجليزية للأكاديمي الأمريكي Daniel Mendelsohn، فقرأته من الغلاف إلى الغلاف مع المقدمة المسهبة للمترجم المتخصص وشروحه وهوامشه التي فاقت في طولها مجمل قصائد كفافيس، الذي يقصر إنتاجه الشعري الكامل عن ثلاثمائة قصيدة قصيرة، أغلبها لا يتجاوز الصفحة الواحدة.

أقبلت على القراءة بمزيد الشغف كما يحدث لي كلما شرعت في استكشاف كاتب أو شاعر جديد عليَّ، خصوصاً إن كان ذا مكانة تاريخية وشهرة واسعة وإجلال نقدي. إلا أني كنت كلما أمعنت في التوغل في عالمه الشعري، تناقص شغفي وتعاظمت دهشتي أني لا أجد في ذلك الاسم الكبير شيئاً مما كنت أتوقعه. أُحبطتُ وخاب أملي ولن يمنعني من التنويه بذلك المقام العالي الذي رفعه إليه مؤرخو الأدب اليوناني ودارسوه.

كاد الديوان يخلو من قصيدة واحدة يمكن أن تلصق بالذاكرة الفردية أو الجماعية، كما الحال دائماً مع الشعراء العظام، بل لم أجد أبياتاً مفردةً تقبس حكمة كبرى أو فكرة متفردة تظل تراود الذهن وتقفز إلى الواعية إذا ما استدعتها التجربة المُعاشة، ناهيك عن أن شعره يكاد يخلو من الصور والأخيلة والاستعارات التي تثري التجربة البشرية، وتقيم الصلة بين عوالم من الإدراك ما كنا نتصور وجود الصلة بينها حتى يكشف عنها لنا شاعر ذو حسٍّ مرهف.

فكيف يكتب كفافيس الشعر؟ شعره قائم على السرد الأجرد لمواقف أو شخوص تاريخية أو أسطورية، إبان لحظة لحظة فارقة. ومن أين يستقي ذلك؟ كله من التاريخ الإغريقي والروماني القديم ومن أساطير هاتين الحضارتين. هذا شاعر كان يعيش في عالم يموج بالاضطرابات الكبرى وعاصر الحرب العالمية الأولى كما عاصر صعود الفاشية والنازية والبلشفية في أوروبا وعاش حتى مشارف الحرب العالمية الثانية وكان يعيش في مصر الخاضعة لاستعمار بغيض، وعاصر ثورة 1919 التي هزَّت البلاد إلخ إلخ. فأين كان يعيش شاعرنا؟ ليس في هذا العالم. كان يعيش في عالم خاص به، عالم من صنعه، عالم استخرجه من كتب التاريخ الكلاسيكي، عالم يعود أشخاصه وحوادثه وقصصه التاريخية والخرافية إلى ما يزيد على ألفي عام، وإذا بالغ في الحداثة فلن يجاوز لفتة هنا أو هناك إلى العصور الوسيطة في أوروبا. وكيف يتناول هذه المادة؟ عن طريق السرد الأجرد. يأتي بحدث أو شخصية تاريخية في كثير من الأحيان لم يسمع بها أحد، فيستدعيها في قصيدة من عشرة أو عشرين بيتاً مليئة بذكر أماكن وشخوص مغرقة في الإغراب، ومن هنا الهوامش الغزيرة التي وضعها المترجم لكل قصائد الديوان تقريباً، فنجد قصيدةً لا تتجاوز أبياتها الصفحة الواحدة قد يُكرّس لها هامشاً في عدة صفحات، ليس لفكّ ما فيها من رموز وكشف ما فيها من تأمل وعِبَر ولكن فقط لشرح السياق التاريخي أو الأسطوري والتعريف بالأماكن والأسماء المذكورة. فهل تكافئك القصيدة بعد كل ذلك العناء بشيء يصالحك مع الحياة، بحكمة تعينك على احتمال الوجود؟ لا شيء من ذلك، بل يذهب عناؤك في الأغلب بغير تعويض.

في كل ما قرأت من شعر وشعراء من ثقافات مختلفة ومن عصور مختلفة، لم أعثر على شاعر غير كفافيس لا ينفعل بالحياة المُعاشة، بالأحداث الواقعة من حوله، بالتاريخ الحي والدامي، بل يضع على عينيه عصابة تحجب عنه كل ذلك لا يخلعها إلا ليقرأ في كتب وأضابير عتيقة وحينئذ فقط يتحرك فيه شيء. ولكن إحقاقاً للحق كان ثمة موضوع واحد كتب فيه كفافيس من واقع التجربة الحياتية، ذلك هو الغزل الذكوري. كان الشاعر مِثْليّاً وديوانه يحفل بعدد لا بأس به من قصائد الغزل المثلي، ومن تسجيل تجاربه الجنسية. في بدء حياته كان يلجأ إلى التورية مستغلاً التباس الضمائر، ولكنه لاحقاً أسقط هذا التحفظ. على أن غزله الحسي هذا كان أيضاً يخلو من الخيال ويميل إلى السردية التقريرية، وحين تقرأ الديوان كاملاً يدهشك أن القصائد التي تفصل بينها سنوات أو عقود تدور كلها في نفس المجال اللغوي والوصف الحسي المباشر، ما يجعلني أقول إن كفافيس في المجال الوحيد من شعره الذي قام على الخبرة الحياتية المباشرة لم ينجح في ضح الحياة فيه تماماً، كما لم ينجح في ضخ الحياة في شعره التاريخي الكُتُبي. تأمَّلْ هذه الأبيات التقريرية «أن أكون مراتٍ عديدة على قربٍ حميم/ من تلك العيون وتلك الشفاه الشبقة/ من ذلك الجسد المراود للأحلام/ أن أكون مرات عديدة على قربٍ حميم» (ص311).

ولنتأمل في منظور كفافيس، إذ يكتب عن الغزوات الصليبية للأراضي المقدسة التي توالت على امتداد قرنين من أواخر القرن الحادي عشر حتى أواخر القرن الثالث عشر: «الآن وقد وقفوا أمام أورشليم/ غادرتهم الحميّة والشره والمطامع/ ومن أرواحهم تسلل هارباً على عجل كبرياؤهم الفروسي (...) الآن وقد وقفوا أمام أورشليم/ الصليبيون الشجعان الذين لا يُقهرون/ المتأججون حماسةً في كل زحف وكل هجوم/ هم الآن خائفون متوجسون/ لا يقدرون على التقدُّم ويرتعبون كالأطفال الصغار/ وكالأطفال الصغار يبكون، جميعهم يبكون/ إذْ ينظرون لأسوار أورشليم». (ص 274) هو منظور غاية في السذاجة يبُطن نفس الكولونيالية المتقنِّعة بالدين التي وسمت الحملات الصليبية نفسها. القصيدة تمجد الغازين وتصورهم تصويراً رومانسياً مفرطاً في سذاجته أو نفاقه، إذا يتحول الفرسان الغازون السافكون للدماء الباحثون عن الغنائم والأسلاب إلى أطفال أبرياء تسيل من عيونهم دموع الورع الديني أمام أبواب بيت المقدس.

لا يتسع المجال للمزيد من الاستشهاد والاقتباس من ديوان كفافيس، لكني لا أود أن أختم مقالتي بدون أن أقول إنه حينما يجد المجاز المناسب للحالة الشعورية ويستخدم الخيال عوضاً عن السرد والتقرير، فإنه قادر على الوصول والتأثير ولمس الشعور بغنائية جميلة، لكني - وأسفاه - لم أحصِ في ديوانه الكامل سوى 20 قصيدة أو نحوها مما ترك فيَّ أثراً ومما يطيب للنفس أن تعود إليه من وقت لآخر. ها هي واحدة من تلك القصائد بعنوان «النوافذ»: «في هذه الغرف الظليلة/ حيث أقضي أيامي المقبضة، أذرع المكان جيئة وذهاباً/ لعلي أجد النوافذ/ ذلك أن فتح نافذة فيه بعض التسرية/ لكنه ليس هناك نوافذ/ أو أني لا أستطيع أن أجدها/ وربما من الأفضل ألّا أجدها/ فقد يكون في الضوء قهرٌ جديدٌ/ ومن يعلم أي أشياء جديدة قد يكشف عنها»، هنا في قصيدة قصيرة محكمة لا تتجاوز الأبيات الثمانية، يتسلل بنا كفافيس في يسر شديد إلى عالم خصوصي شخصي، تسوده الظلمة والكآبة، عالم موحش منغلق على الخارج فهو بلا نوافذ بمعنييها الحرفي والمعنوي، لكن من ناحية أخرى فإن قاطن هذا العالم يخاف الضوء، وما قد يكشف عنه من أهوال غير مألوفة، فيستسلم لسجنه في ظلمته ووحشته الأليفة.



«هذيان» يفتتح عروض «ملتقى المونودراما» في الدمام

من العرض المسرحي «هذيان» لفرقة «مسرح جمعية الثقافة والفنون» بجدة وهو العرض الافتتاحي لـ«ملتقى الدمام المسرحي للمونودراما والديودراما»
من العرض المسرحي «هذيان» لفرقة «مسرح جمعية الثقافة والفنون» بجدة وهو العرض الافتتاحي لـ«ملتقى الدمام المسرحي للمونودراما والديودراما»
TT

«هذيان» يفتتح عروض «ملتقى المونودراما» في الدمام

من العرض المسرحي «هذيان» لفرقة «مسرح جمعية الثقافة والفنون» بجدة وهو العرض الافتتاحي لـ«ملتقى الدمام المسرحي للمونودراما والديودراما»
من العرض المسرحي «هذيان» لفرقة «مسرح جمعية الثقافة والفنون» بجدة وهو العرض الافتتاحي لـ«ملتقى الدمام المسرحي للمونودراما والديودراما»

افتتح مساء أمس الأربعاء «ملتقى الدمام المسرحي للمونودراما والديودراما» في دورته الخامسة، الذي تنظمه «جمعية الثقافة والفنون» بالدمام، بالتعاون مع «هيئة المسرح والفنون الأدائية»، ومسرح «كواليس»، وبرنامج «ستار» المسرحي، برعاية رئيس مجلس إدارة «الجمعية العربية - السعودية للثقافة والفنون» عبد العزيز السماعيل.

وشهد الافتتاح حضوراً واسعاً من فنانين ومسرحيين ومن الجمهور الفني في المنطقة الشرقية. وكذلك حضور المدير العام لـ«جمعيات الثقافة والفنون» بالمملكة خالد الباز، ومدير فرح الجمعية في جدة محمد آل صبيح، ومدير فرع الجمعية في الطائف فيصل الخديدي، ومدير فرع الجمعية بالأحساء.

وفي كلمته خلال افتتاح الملتقى، قال رئيس مجلس إدارة «الجمعية العربية - السعودية للثقافة والفنون» عبد العزيز السماعيل: «تأتي هذه الدورة الخامسة في مجال المسرح بوصفها أحد الأنشطة الثقافية الكبيرة التي تعمّ المملكة، وبمشاركة الفرق من مناطق عدة».

شهد حفل افتتاح «ملتقى الدمام المسرحي للمونودراما والديودراما» حضوراً واسعاً من فنانين ومسرحيين ومن الجمهور بالمنطقة الشرقية

وأوضح مدير «جمعية الثقافة والفنون» بالدمام، يوسف الحربي، أن «هذا البرنامج هو أحد البرامج المتنوعة التي تؤكد استمرار الجمعية بإسهاماتها الفاعلة، وتعزيز دورها الثقافي، والوصول إلى الأثر المرجو، من خلال البرامج الثقافية المقدمة لجميع أفراد المجتمع».

ونوه الحربي بأن الدورات الخمس استقبلت 169 عملاً مسرحياً؛ عرض منها 43 عملاً، ساهم فيها 650 مسرحياً متنوعو المجالات.

كما قدم صالح الدخيل، من برنامج «ستار» التابع لـ«هيئة المسرح والفنون الأدائية»، شرحاً لآلية التسجيل والمشاركة في البرنامج، وطريقة تقييم الأعمال المشاركة، بهدف تمكين ودعم الفرق المسرحية وتطويرها، ورفع الإنتاج المسرحي المحلي والدولي.

وبدأت النسخة بالعرض المسرحي «هذيان» لفرقة مسرح «جمعية الثقافة والفنون» بجدة، وهو من تأليف أحمد الصمان وإخراج هائل عقيل. تلا العرض الندوة التطبيقية للعرض، حيث قرأ العرض المسرحي يوسف أحمد الحربي؛ وقال إنه بدأ بموسيقى تصويرية جميلة، ودخول المخرج باستهلالية تعبير حركي (بانتومايم)، أعقبت المشهد الاستعراضي (السينوغرافيا) بـ(سيمترية عالية)؛ مما أدى إلى الرتابة في تشابه الأطراف وزوايا الديكور من حيث تماثلية الفضاء المسرحي».

وقال: «في المسرح عندما يضع (السينوغرافيا) أو المخرج قطعة ديكور، فمن المفترض أن يكون لها مبرر درامي، ما عدا ذلك؛ تكون زوائد حشوية ليس لها مبرر، وتكون عائقاً أمام الممثل على خشبة المسرح».

وبشأن الأزياء، لاحظ أنها «كانت مناسبة للعرض. وعلى صعيد النص، فكان هو بطل العمل من حيث الحبكة (وسط - بداية - نهاية). وشبكة العلاقات بين الممثلين كانت مرسومة بشكل احترافي للانتقال من خط درامي إلى آخر، وكان الربط يتميز بالانسيابية والحوارات المعبرة... نص ممثل بامتياز».

وتشارك في الملتقى فرق مسرحية من الرياض وجدة والطائف والدمام والخبر، تتنافس على جوائز عدة في المسرح وفنونه. كما يتضمن الملتقى «مسابقة النصوص المسرحية»، وورشة تدريبية عن كتابة نص «المونودراما» و«الديودراما» يقدمها الكاتب المسرحي يحيى العلكمي، ولقاءات حوارية للمخرج البحريني خالد الرويعي عن «المهرجانات المسرحية»، وتقدم رؤى الصحاف ورشة عن الأزياء ودورها في المسرح بعنوان: «فن حياكة الحكاية في المسرح».

وترافق العروض المسرحية ندوات فكرية تُقرأ فيها العروض من قِبل مختصين في المسرح؛ لإلقاء الضوء عليها وتقديم قراءة فنية عن أداء الممثلين.

وتتكون لجنة التحكيم في المسابقات من: سمعان العاني، ورجا العتيبي، وعبد الله الجفال. أما لجنة تحكيم النصوص فتتكون من: عباس الحايك، ويحيى العلكمي، وأحمد بن حمضة.