اليمني أحمد الزين يتأمل تاريخاً مخادعاً

لوعة الوطن المفقود وعنف المنفى في «رماية ليلية»

اليمني أحمد الزين يتأمل تاريخاً مخادعاً
TT

اليمني أحمد الزين يتأمل تاريخاً مخادعاً

اليمني أحمد الزين يتأمل تاريخاً مخادعاً

تميّز عمل أحمد زين في رواياته الخمس بجهد كيفي يتطلّع إلى الإتقان المُرتجَى، برهن على أن الرواية من الراوي، وأنها من دون اجتهاده المتراكم حكايات مألوفة المحتوى فقيرة الأشكال، جاء تميّزه من منظور روائي بصير، يستولد الشكل من موضوعه، ويشتق الأخير من تاريخ يمني معيش زامَله الأمل فترة، وصدمه إخفاق غير منتظر في فترة لاحقة، التبس بالفجيعة.

قرأ، حال كل روائي بصير، تطوّر اليمن من زمن الاستقلال الوطني إلى تداعيه وسيطرة أسياد الظلام، ألزمَته تلك القراءة، المستمَدة من وطن يستيقظ ويكبو اقتفاءَ ما كان منتظراً، وحاصَره عثار متقادم ومتجدّد عاينه، بجرأة يُداخلها الشجن في روايته «ستيمر بوينت»، وأضاء وجوهه بنظر دامع في «فاكهة الغربان»، قبل أن يرثي وطناً افتُقد ولن يعود كما كان، في عمله الأخير «رماية ليلية» (منشورات المتوسط 2024).

حمل أحمد زين أوجاع يمني اغترب عما كان، واغترب بدوره وهو يكتب، عن «وطنه القديم»، دفع، في حالين، بالاغتراب إلى حدوده القصوى؛ ذلك أن الاغتراب، في حالاته المألوفة، يتلوه «تحقّق الإنسان»، على مَبعَدة من اغتراب يمني يلتهم فيه الحطام ما تبقى واقفاً، سأل ملتاعاً كيف تكون روائياً في زمن يذهب فيه اليمن إلى غرق أخير. وصفت/ سردت رواية «رماية ليلية»، الساخرة العنوان، تكامل الفقد وبؤس النسيان، حيث الباحث عما فقد يفقد ذاته وهو ينتظر عودة المفقود، معتقداً أنه عثر على ذاته وعلى المفقود معاً، كما لو كان قد قايض «اليمن السعيد» بمنفى بائس الجوهر، تتوالى أيامه مرتاحة، أو هكذا تبدو، قبل أن يسقط في خلاء من أشواك ونفايات.

عاين زين، في رواياته الأربع الأولى، تاريخاً مقيّداً تُقلق حركته سلطة «تؤبّد ذاتها»، وتصيّر الاستقلال إلى ألغاز متوالية، تُراكم جشعها، وتُطلق النار على أحلام اليمنيين، عاد في روايته «رماية ليلية» إلى «القادة المسوخ» الذين توهّموا أنفسهم قادة، ذات مرة، وحملوا خواءهم المحتجب إلى المنفى، فبدوا عُراة، وظهر فقرهم أكثر عرياً، تأمّل الروائي تاريخاً مخادعاً فتّتَه جشع سلطوي يُحسن الخداع، إلى حين، يسخر منه التاريخ، الذي يكسر عنق القادة المسوخ المأخوذين بأرباح صغيرة، داخل الوطن المفقود وخارجه.

رسم زين لوعة الوطن المفقود، وعنف المنفى، في صورة جمعت بين ذكريات صنعاء البعيدة، وجراح كرامة وطنية، والبكاء على أطلال وطن لم يَعُد وطناً، أطلق صوتاً متشكّياً مختنق الشكوى، أوكل إلى اللغة تبيان الفرق بين الوطن كما يمكن أن يكون، وأرض مقلقة يبيعها مرتزقة إلى مشترٍ يكره اليمن، ويعبث بيمنيين قصّروا عن وعي الوطن والتاريخ والسياسة والسلطة، لكأن اليمن مسرح مهجور ترتع في أرجائه مخلوقات عجيبة غريبة تُحسِن الخراب وتعتبر المسرح عدواً جاء به الكفرة، مخلوقات تتأبّط الكلام، وتحرص على الكلام الفخيم بديلاً عن الفعل الوطني والكرامة الذاتية المهدورة.

استهلّ الروائي الكتابة بقول الشاعر الآيرلندي ييتس: «لا أكره الذين أقاتلهم، ولا أحب من أحرسهم»، مايَز الشاعر المتمرد، الذي تُذكّر قصائده بالفلسطيني محمود درويش، بين عدو مقاتل جدير بالاحترام، ومسؤول متداعي الكرامة يحتاج إلى حراسة.

تناول أحمد زين في روايته عدواً بصيغة الجمع، أعداء يمنيين أقرب إلى المرتزقة، بينهم «سفير أو وزير سابق فارّ، صعب عليه افتقاد الرفاه الذي غمره فجأة، وجنرال عجوز حياته كلها حروب خاسرة، ولم يعدم بعدُ الصفاقةَ ليتكلم عن خطة حربية منتصرة»، حشر بين هؤلاء شيخ قبيلة لم يتبقَ له من نصير، تخلّى عنه الذين يحترمون أنفسهم، يردّد في سرّه: «عز القبيلي بلاده...» (ص: 34).

أشاعت الرواية من صفحتها الأولى فضاءً ناصع السواد، حدّه الأول ألم نازف وفزع مما جاء وسيجيء، وحدّه الآخر موات يُكمله منفى يستدعي موتى أُجّل دفنهم، استجاروا بإخفاق أخير لا يُجير أحداً، وبأمانٍ مؤجّلة كلما اقتربت زادت بُعداً.

تبدأ الرواية بكلمات قابضة: «سرعان ما أطبقت يداك على عنقي»، ما يبتدئ بالشروع بالموت يُستكمل بما ينتسب إليه: «المعاناة، التمزّق، الصراخ، الدم، الاختناق...»، مناخ كابوسي ينفتح على يأس صريح ونظرات تائهة: «غيوم تنزف دخاناً، وجوارح ترتفع في تحليق كسول تحطّ على بقايا حيوانات نافقة وصيحات قبيحة تنمّ عن سأم ونباح ضجر لكلب وأكثر...»، لكأن اللغة ضاقت بتشقّق الوضع اليمني، وقصّرت عن وصفه، والتمست صبراً يحتضن ما لا يمكن احتضانه، أو لكأن رواية الموات المهين تعيّن السرد شخصيةً مسيطِرة تفيض على الشخصيات المحتملة.

أنتجت رواية «رماية ليليّة» خطابها المتأسي، متوسّلة مستويَين؛ أحدهما: تقليدي خادع البساطة، قوامه شخصيات محدودة تُرى ولا تَرى، إذ المتداعي المهزوم لا يمكن القبض على جوهره المتناثر، وثانيهما: رمى بالتقليدي جانباً، وانتهى إلى بنية روائية معقّدة من الإشارات والصور واللغة الطليقة، ومجازات تحايث حكايات ناقصة، وجُملاً معترضة ووقائع صارخة خانها الصوت، واكتفت بتنهّد مخنوق، وشخصيات تحترف الكلام ولا تقول شيئاً.

لا تُقصد شخصيات أحمد زين، في مستواها الأول، لذاتها، بل لما تشهد عليه في منفى مشتّت الأفق، شخصيات مرايا تعكس

مآلها الذاتي، وتعكس أكثر «بقايا» الذين أوصلوها إليه، فالأولى، وهي الأكثر وضوحاً، مذيعة تشهد على «مسؤول» يستغرقه السفر، تلازمه «سكرتيرة» تردّد حركاته، تقاسمه بلاغة الاختراع الكذوب؛ إذ «صنعاء في متناول اليد بعد أيام»، تستهلك المذيعة المفترضة فراغها، ويستهلكها فراغها بعد أن هربت من صنعاء.

أما الشخصية الثانية، وهي أقل حضوراً، فتتذكر أباً رسخت في صدره صورة بطله المصري الأثير، الذي حلم بعروبة منتصرة، تكمل شهادة الشخصية السابقة، تراقب كرنفال الأرواح الميّتة، وترتكن إلى أنوثتها الطاغية، لـ»تحتقر»«مسؤولين كباراً» انصرفوا إلى استهلاك بذيء، وأحلام اختصرت اليمن في سلع غالية الأثمان تافهة الاستعمال.

أنتج السرد الملتفّ على ذاته شخصيات من ظلال، أضاع قوامها، واكتفت بالاستهلاك والكلام، وجسّر بينها بمتواليات من حكايات باكية، تمتد من امرأة يمنية شجاعة افتقدت القيادة ووسائل القتال، إلى يمني يرفع علم بلده بيد مبتورة، وآخر يعطي روحه إلى رفيق غادرته الروح، بعد اليمن الموحَّد يأتي يمن مبدَّد الأوصال، معفَّر بالذل والهوان.

رأى أحمد زين الحاضر اليمني وما سيأتي بعلاقات فنية، تتساند وتتكامل وتقترح وتنتهي، دون أن تنتهي، باجتهاد لغوي حافل بالأسئلة، فـ«الحال»، أو الجملة الحالية، مبتدأ الكلام لا تصف؛ إذ في الوصف حركة، تنفتح على حطام لا ضرورة لوصفه، والأفعال المستقبلية، أو صيغ الاستقبال، لا تشير إلى مستقبل لن يأتي إلا على صورة حاضرة، إنما تقرّر العجز عن الفعل وتصويب الحال. والخبر يسبق المبتدأ الذي غدا من متاع الماضي، والإخفاق الشامل كامل الحضور، يستغرق يمنيين سقطوا في متاهة، يصنع صنعاء تقوّضت، وأحجاراً حالت ألوانها، وأناشيد يمنية سقطت في الطريق.

يكتفي السرد الروائي بالشظايا، أكانت شخصيات أم حكايات، فمن العبث حضور السليم في فضاء من حطام، ومن العبث أكثر الأخذ بسرد خطّي قوامه بشر يعرفون مصيرهم؛ لذا تأتي الشخصيات مشظّاة، ويكون مسارها مرصوفاً بالشظايا، يستولده منفى، ويصادر حركته منفى لاحق، يخفق في أرجائه إخفاق شامل يُنهى عن الحركة، لا تتبقى إلا الذكرى التي تسكن الشخصيات وأفعالها، ذكريات مستقرة عن يمن لن يعود، بعيداً عن التذكر الذي يلازمه فعل محتمل، ولعل سقوط الشخصيات في ذكريات مستقرة؛ ما يختصرها في أقنعة متناظرة، تتبادل جملاً ناقصة، تتذكّر ولا تحلم، وتنتقل من تلعثم كسيح إلى وعود مؤجّلة.

تتضمن «رماية ليليّة»، في كثافتها المدهشة، أبعاداً تاريخية وسياسية وأيديولوجية واجتماعية، تُنصت إلى التاريخ القريب، وأصوات القبائل والمظاهرات الحالمة السابقة.

عمل زين على تجسيد «علم جمال الخسارة»، الذي أنجز عملاً لغوياً متفرداً، قدّم شهادة عن الخسران الكامل، شهادة ترثي وطناً كان، وتستبقي آثاره المتبقية في لغة تدوم، كأن المصائب الكبرى تأتي، أحياناً، بشهادات أدبية كبرى تضيف إلى الإبداع الأدبي العربي أبعاداً غير مسبوقة، وتصرخ عالياً بأنها «تحترم الأعداء الذين يدافعون عن قضاياهم، وتحتقر موتى يحرسون موتى أعلى رتبةً، ساقوهم إلى الموت والمنفى».

برهن أحمد زين على أن الوقائع الوطنية الكبرى، التي تلازمها الخسارة، تستولد وقائع أدبية كبرى، ترد على الخسران الوطني بالإبداع الأدبي، ولا تعد بشيء، في عمل روائي هامس التوثيق مبدع الكتابة ترجم زين مأساة اليمنيين داخل اليمن وخارجه، وأومأ إلى واقع عربي منخول العظام، تتصادى فيه أصوات عرفت الخراب الشامل وتحذّر منه.

*ناقد وباحث فلسطيني.



«هذيان» يفتتح عروض «ملتقى المونودراما» في الدمام

من العرض المسرحي «هذيان» لفرقة «مسرح جمعية الثقافة والفنون» بجدة وهو العرض الافتتاحي لـ«ملتقى الدمام المسرحي للمونودراما والديودراما»
من العرض المسرحي «هذيان» لفرقة «مسرح جمعية الثقافة والفنون» بجدة وهو العرض الافتتاحي لـ«ملتقى الدمام المسرحي للمونودراما والديودراما»
TT

«هذيان» يفتتح عروض «ملتقى المونودراما» في الدمام

من العرض المسرحي «هذيان» لفرقة «مسرح جمعية الثقافة والفنون» بجدة وهو العرض الافتتاحي لـ«ملتقى الدمام المسرحي للمونودراما والديودراما»
من العرض المسرحي «هذيان» لفرقة «مسرح جمعية الثقافة والفنون» بجدة وهو العرض الافتتاحي لـ«ملتقى الدمام المسرحي للمونودراما والديودراما»

افتتح مساء أمس الأربعاء «ملتقى الدمام المسرحي للمونودراما والديودراما» في دورته الخامسة، الذي تنظمه «جمعية الثقافة والفنون» بالدمام، بالتعاون مع «هيئة المسرح والفنون الأدائية»، ومسرح «كواليس»، وبرنامج «ستار» المسرحي، برعاية رئيس مجلس إدارة «الجمعية العربية - السعودية للثقافة والفنون» عبد العزيز السماعيل.

وشهد الافتتاح حضوراً واسعاً من فنانين ومسرحيين ومن الجمهور الفني في المنطقة الشرقية. وكذلك حضور المدير العام لـ«جمعيات الثقافة والفنون» بالمملكة خالد الباز، ومدير فرح الجمعية في جدة محمد آل صبيح، ومدير فرع الجمعية في الطائف فيصل الخديدي، ومدير فرع الجمعية بالأحساء.

وفي كلمته خلال افتتاح الملتقى، قال رئيس مجلس إدارة «الجمعية العربية - السعودية للثقافة والفنون» عبد العزيز السماعيل: «تأتي هذه الدورة الخامسة في مجال المسرح بوصفها أحد الأنشطة الثقافية الكبيرة التي تعمّ المملكة، وبمشاركة الفرق من مناطق عدة».

شهد حفل افتتاح «ملتقى الدمام المسرحي للمونودراما والديودراما» حضوراً واسعاً من فنانين ومسرحيين ومن الجمهور بالمنطقة الشرقية

وأوضح مدير «جمعية الثقافة والفنون» بالدمام، يوسف الحربي، أن «هذا البرنامج هو أحد البرامج المتنوعة التي تؤكد استمرار الجمعية بإسهاماتها الفاعلة، وتعزيز دورها الثقافي، والوصول إلى الأثر المرجو، من خلال البرامج الثقافية المقدمة لجميع أفراد المجتمع».

ونوه الحربي بأن الدورات الخمس استقبلت 169 عملاً مسرحياً؛ عرض منها 43 عملاً، ساهم فيها 650 مسرحياً متنوعو المجالات.

كما قدم صالح الدخيل، من برنامج «ستار» التابع لـ«هيئة المسرح والفنون الأدائية»، شرحاً لآلية التسجيل والمشاركة في البرنامج، وطريقة تقييم الأعمال المشاركة، بهدف تمكين ودعم الفرق المسرحية وتطويرها، ورفع الإنتاج المسرحي المحلي والدولي.

وبدأت النسخة بالعرض المسرحي «هذيان» لفرقة مسرح «جمعية الثقافة والفنون» بجدة، وهو من تأليف أحمد الصمان وإخراج هائل عقيل. تلا العرض الندوة التطبيقية للعرض، حيث قرأ العرض المسرحي يوسف أحمد الحربي؛ وقال إنه بدأ بموسيقى تصويرية جميلة، ودخول المخرج باستهلالية تعبير حركي (بانتومايم)، أعقبت المشهد الاستعراضي (السينوغرافيا) بـ(سيمترية عالية)؛ مما أدى إلى الرتابة في تشابه الأطراف وزوايا الديكور من حيث تماثلية الفضاء المسرحي».

وقال: «في المسرح عندما يضع (السينوغرافيا) أو المخرج قطعة ديكور، فمن المفترض أن يكون لها مبرر درامي، ما عدا ذلك؛ تكون زوائد حشوية ليس لها مبرر، وتكون عائقاً أمام الممثل على خشبة المسرح».

وبشأن الأزياء، لاحظ أنها «كانت مناسبة للعرض. وعلى صعيد النص، فكان هو بطل العمل من حيث الحبكة (وسط - بداية - نهاية). وشبكة العلاقات بين الممثلين كانت مرسومة بشكل احترافي للانتقال من خط درامي إلى آخر، وكان الربط يتميز بالانسيابية والحوارات المعبرة... نص ممثل بامتياز».

وتشارك في الملتقى فرق مسرحية من الرياض وجدة والطائف والدمام والخبر، تتنافس على جوائز عدة في المسرح وفنونه. كما يتضمن الملتقى «مسابقة النصوص المسرحية»، وورشة تدريبية عن كتابة نص «المونودراما» و«الديودراما» يقدمها الكاتب المسرحي يحيى العلكمي، ولقاءات حوارية للمخرج البحريني خالد الرويعي عن «المهرجانات المسرحية»، وتقدم رؤى الصحاف ورشة عن الأزياء ودورها في المسرح بعنوان: «فن حياكة الحكاية في المسرح».

وترافق العروض المسرحية ندوات فكرية تُقرأ فيها العروض من قِبل مختصين في المسرح؛ لإلقاء الضوء عليها وتقديم قراءة فنية عن أداء الممثلين.

وتتكون لجنة التحكيم في المسابقات من: سمعان العاني، ورجا العتيبي، وعبد الله الجفال. أما لجنة تحكيم النصوص فتتكون من: عباس الحايك، ويحيى العلكمي، وأحمد بن حمضة.