القصيدة أنثى رهن الحب دئماً

عبد الوهاب الشيخ في ديوانه «اسمها في الغيب زُلَيخا»

القصيدة أنثى رهن الحب دئماً
TT

القصيدة أنثى رهن الحب دئماً

القصيدة أنثى رهن الحب دئماً

ينفتح الشاعر عبد الوهاب الشيخ في ديوانه «اسمها في الغيب زُلَيخا» على الحب؛ فمنه يبدأ الفعل الشعري، وإليه ينتهي أيضاً. يطالعنا ذلك في العنوان نفسه عبر التناص التراثي الصريح مع قصة امرأة العزيز والنبي يوسف، وافتتانها به إلى حَدِّ مُراودته عن نفسه، وهي القصة التي أصبحت واحدة من أهم عناصر الميثولوجيا الدينية، وتم توظيفها في المسرح والفن والمرويّات السردية، كما يستهل الشاعر ديوانه بمقولة افتتاحية لنجيب محفوظ من «أصداء السيرة» يصف فيها محفوظ الحب بأنه تدريب للوصول، قائلاً: «ما الحب الأول إلا تدريب ينتفع به ذوو الحظ من الواصلين»، كما يختم الديوان بنص قصير بعنوان «معكِ الحب»، وهو نص مُشرب بنفَس صوفي، يَشِي بفكرة ذوبان العاشق في المعشوق.

صدر الديوان حديثاً عن دار «أروقة» بالقاهرة، ويضم عبر مائة صفحة مجموعةً من القصائد القصيرة الخاطفة، التي يغلب عليها مجاز حدس اللحظة، أو «المجاز اللحظوي»، إن صحّ التعبير، وهو مجاز مخاتل، يتطلّب مهارة في الالتقاط والتأمل والاختزال، والتكثيف اللغوي والدلالي، مع مراعاة المحافظة على سلاسة الصورة الشعرية وتضافرها بعفوية في نسيج الحالة وإيقاع المشهد، بحيث تصبح مرآةً كاشفة لما يدور داخل الذات الشعرية، وكيف ينعكس بدوره على الأشياء والعناصر والوجود.

من ناحية أخرى تَفتر وتنطفئ فاعلية هذا المجاز حين يصبح محض إنشاء، وخَبط عشواء، يتناثر في الهواء من دون أي نواظم، أو وشائج، تربط ما بين المرئي واللامرئي، الكامن في بنية الصورة الشعرية وأفق الرؤية، وما وراءها، وكذلك لغة النص الشعري، وما تفرضه من اعتداد بخصوصيتها الجمالية والأسلوبية؛ فاللغة الشعرية - برأيي - ستظل دائماً اقتراحاً جمالياً، مفتوحاً بحيوية على الكون وتحولاته المباغتة على شتى المستويات الثقافية والاجتماعية.

يعي الشاعر ذلك، فيتعامل مع القصيدة كأنثى رهن الحب دائماً، لا بأس أن تنفعل وتغضب وتتوتر، فالبحث عن الحب أصبح بمثابة الإمساك بطوق النجاة وسط أمواج هذا العالم المضطرب، المستعِر بنيران الحروب والكوارث والأوبئة.

ومن سمات هذا الوعي في بداهته الأولى اقتران الحب بالطيبة، فهو صِنوها النجيب، لا يعرف الشر، لكنه يعرف التسامح والمغفرة، حتى يظل مشهد الحياة محتملاً، وأكثر عدلاً وأماناً... من فوق عتبة هذه الطيبة يقدّم الشاعر نفسه للحب قائلاً:

«نعم!

أنا رجل طيب!

أحمل في عنقي نيرَ أجدادي

وأسير خفيفاً كنسمة ريح..

رجل طيب!!

لذا حين آمُره.. يطيعني الفراغ

فيمتلئَ بأصوات كثيرة،

تسلّيني

وتُسرِّي عني،

والحزنُ يسير

وبيني وبينه أميال

حرصاً على مشاعري

التي يشهد الجميع برقَّتها

حتى إنهم يرتبكون بشدةٍّ

عند السلام عليّ،

ويضغطون بخفّةٍ

على أصابعي،

لئلا تنكسر».

لا تكمن فاعلية هذا النص فنياً في تلقائيته وبساطته، إنما فيما يصنعه من التباس يصل إلى حد التناقض، فنحن أمام ذات تؤكد طيبتها وتعشقها، وفي الوقت نفسه تتعجّب منها، وفي محاولة للتخفُّف من ثقل هذه الطيبة تُموِّه على ذلك باستخدام علامات التعجب. لكن التناقض يكمن في عدم قدرة الذات على الامتلاء بنفسها وبالوجود من دون الامتلاء بالحب والانفتاح عليه جسداً وروحاً.

ورغم ذلك لا ترتبط جدلية الحب في الديوان بثنائية الروح والجسد، وما ينشأ بينهما من تعارضات عاطفية مُغوِية، إنما تضيف إليها ثنائية أخرى، تتمثّل في جدلية الحضور والغياب، التي توسِّع من فضاء هذا الحيز الوجداني الضيق، وتفتح له نوافذ إدراك ومعرفة جديدة، وهو ما يطالعنا، على نحو ما، في نص بعنوان «أهل الله»، حيث يتحول العشق إلى صرخة مجذوب لا يملك سوى الدوران في فلكه إلى ما لا نهاية:

«يا أهل الله

ساعِدوا روحي

كي ترى

أنا الموشوم بالمحبة

على قلبي وساعدي

أمام جمرة العشق الإلهية

وكل هذا الضياء الذي ينتفي

ليُفسح الطريق

أمام مُقلة زرقاء

وجبهة عابسة

هذا الفراغ المحيط بي

بعض غيابها..

هذا الفراغ

هو جرّة الندم الثقيلة

التي أحملها على كتفي

وأسير وحيداً بلا هدف

شريداً... دونما وجهة».

تطل أجواء من روح الشاعر الألماني غوته صاحب «آلام فيرتر»، و«فاوست» في بعض نصوص الديوان، وتظلّل العلامات والرموز، حيث ترتكز فاعلية الحب على إطلاق نوافذ الشعور، وإكسابها دائماً معنى الإرادة الحرة في التعامل مع الأشياء والعناصر، وهو ما نلاحظه في نصوص الفصلين الأول «بلا شك»، والثاني «ظلال دارسة»، فالذات الشاعرة تركز على حيوات الحياة في الخارج، على حركة الشعور في تعيُّنها المادي المباشر، من دون فواصل أو عُقَد زمنية سميكة، فالمهم شعرياً وعاطفياً أن تظل الذات مشدودةً أكثر لحركة المشهد؛ في المقهى، والشارع، وفي نظرات البشر المهادنة والعنيدة لتفاصيل الحياة، تحاول من خلالها الوصول إلى حكمةٍ ما أو لحظة خلاص تخصها... وهو ما نلاحظه في نص بعنوان «التعب كامل»:

«التعبُ كاملٌ

بما يكفي

لما نحن مَدِينون به

لطائر اليقظةِ...

السماوات أبعدُ

من رحم الأرض

والنجاة حِرْزٌ حريزٌ

بين ضفتَي نهر

أعبُره بمصباحي

ويَعبُر العالمُ خلفي

حاملاً مرآته الصدئة

التي لا تعكس إلا الأحلام».

لا تتسلَّل أجواء غوته مصادفة، أو من الباب الخلفي للنصوص، إنما تأتي من معرفة واسعة بالتراث الألماني؛ فالشاعر عبد الوهاب الشيخ يُتقن اللغة الألمانية، وصدرت له مجموعة من الترجمات المهمة لنماذج من هذا التراث، من أبرزها ديوان «جوته... مراثي روما»، و«نون النسوة الألمانية - مختارات شعرية»، ما يعني أننا إزاء حالة من الهضم والتمثّل، تتّسم بحيوية الاشتباك والبحث عن الخاص، ليس فقط بقوة المعرفة، إنما بقوة الأمل والحب معاً، فمن نافذتَيهما يخاطب الأنثى في نص بعنوان «الأمل»:

«هكذا

أنتِ أشبه بطائرٍ

حطَّ على عتبة حُلمه

قليل،

ليعاود الصعودَ

وفي منقاره قشّةٌ

قشّةٌ وحيدة

لعلها الأمل».

ثم ينوّع الخطاب بمسحة من الأرق والانتظار في «أناشيد الهاتف»، مستعيداً أجواء الغزلية الشعرية قائلاً:

«ساعات كاملة

بيننا الهاتف

وهمسُكِ مدائنُ متروكة لمديحي

أنا العاشق، أبسُط وجدي سجادةً

تحت قدمَيك الناعمتين

وأستحيل ناياً لا يكُفّ عن الأنين

بعيداً عنكِ ليس ثمة صباح

الشمس مُسدلة الجفون

وكل شيء ساكن

في انتظار بَوحك الدفيء..

ونظرتك المرهفة

لتستعيد الأشياء لمستها

ويستقيم الوقت

على نبضات قلبك الخفيضة..

أنبِئيني عن العشق، عن مائك في الطوايا

وحناياكِ المسكونة باللذة

انثُري الألم ربيعاً، وأعيدِيني لنقطة البدء

كي أشرَع في كتابة اسمي

على لوحة الدرس

وأنتِ أمامي حروف متناثرة

أجمعها بشفتي

ثم أبدأ نشيدي».

فهكذا، يتواتر الاحتفاء بالأنثى، والانفتاح على الحب، ويتّسم في الفصل الأخير من الديوان بنكهة حسية شيقة، حيث الأشياء في ملمسها الحي المباشر، ومجازها الممسوس بنثرِيّات الواقع ومفارقات الحياة، فيما يبدو البَوح وكأنه نشيد الذات ونشدانها الأعمق في الصعود لأعلى مراتب الحلم والوجود.



ما الذي تبقى من الاستشراق؟

أرنست رينان
أرنست رينان
TT

ما الذي تبقى من الاستشراق؟

أرنست رينان
أرنست رينان

أثار المفكر المرموق أنور عبد الملك في حينه (1962) موضوعاً مهماً، وهو يعرض لأزمة الاستشراق. لم يتحدث أنور عبد الملك عن استشراقين، معرفي وسياسي، كما فعلت في كتاب «الاستشراق في الفكر العربي - 1993»، كان معنياً بالأزمة التي رافقت ظهور الحركة بصفتها المعرفية التي سرعان ما اختلطت بمصالح الاستعمار. ونبّه الدارس والعالم الاجتماعي المصري المقيم في باريس في حينه إلى العوائل الفلولوجية التي ساهمت المدارس الاستشراقية في ترسيخها على أساس انقسام العالم إلى آري، وآخر سامي يشتمل العرب، واليهود، والملونين، وغيرهم. كان التوزيع بمثابة تبرير استيطاني يشتغل بوجهين: فإذا أراد نابليون مثلاً الاستحواذ على مصر قبل إنجلترا فعليه ادعاء أمرين: أنه مسلم، وأسلم بحضور علماء مسلمين في القاهرة؛ ولكن أيضاً على أساس أن مصر شرق متوسطية، وبالتالي فهي تعود لفرنسا، لا إلى إنجلترا في التوزيع الاستعماري للمعمورة. ولذا كان فريقه من العلماء والباحثين يكتب «وصف مصر»، المجلد الواسع الذي تصدرته مقدمة تقول إن على مصر أن تتجاوز قروناً من «إسلاميتها» لتعود إلى الحضن المتوسطي - الفرنسي. هكذا تأتي المقدمة التي استدرجت مثقفين عرباً، من بينهم طه حسين. لم يذهب عبد الملك إلى هذه المساحة، ولم يذهب إليها الراحل المرموق المفكر إدوارد سعيد. كان إدوارد سعيد معنياً بالمكونات المعرفية لحركة تمايزية تمييزية تدعي المعرفة بالشرق، أي بالشرق الأوسط، والعرب والمسلمين تحديداً، قبل أن ينتقل مفهوم «الشرق» إلى جنوب شرقي آسيا. الشرق الأوسط الذي التقليدي يصر «الدارس التقليدي» ورحالة الإمبراطوريات الناهضة هو الذي يعنيه سعيد؛ أي أنه مجموعة الانطباعات السطحية العائمة التي تعرض لسكان كتل بشرية عظيمة على أنهم كسالى مخدرون ثابتون على فكرة واحدة، لا أمل في تغييرهم إلا بنابض وحاضر أوروبي يديره الرجل الأبيض. من المفارقات التي لم يذكرها الراحل العظيم أن الدارس الإنجليزي المعروف صاموئيل جونسن، صاحب أول قاموس إنجليزي متكامل، كتب على لسان شخصيته المركزية «عملاق» الشاعر أن «إيثوبيا» الشرقية شأنها شأن مجاوريها تحتاج إلى رعاية «استعمار» أوروبي «شمالي» يتيح لها الخروج من وحدتها وجنوبيتها. إذ العالم منذ القرون الوسطى ينقسم إلى شمال وجنوب، ويسقط التوزيع الجغرافي سطوته على الديانات والأقوام، وكان أن عرض لهم بعض «تنويريّي» القرن الثامن عشر على أنهم يعانون سباتاً لا أمل منه من غير سطوة رجل أوروبا الأبيض. هكذا كان الذهن «التنويري» الأوروبي. علينا ألا ننسى أن «صاموئيل جونسن» هو من المبرزين في الحركة «الإنسانوية» لتمييزها عن غيرها لخصومتها مع دعاة العبودية والاستعباد. وإذا كان جونسن يميل إلى هذا المعتقد، فكيف لنا بغيره؟ علينا ألا ننسى ثانية أن جونسن قرأ ترجمات دارس الاستشراقين المبرز في المشرقيات سير وليم جونز وكتاباته، وهو الذي أطلق عليه تسمية «جونز الشرقي» Oriental Jones، بحكم انهماك الأخير في قراءة أدب العرب والفرس. وترجماته وكتاباته ذائعة ومؤثرة. وهو نفسه - أي جونز - الذي في نهاية حياته وعند مراجعته ورصده لهذا الانهماك يستنتج أن ثقافته الأم أهم من ذلك الذي قضى عمره في دراسته.

إدوارد سعيد

لم يتطرق الراحل سعيد إلى هذا الأمر لأنه كان معنياً بمجموعة التهيؤات والتصورات لعدد كبير من الرحّالة والكتّاب لما كان يتصورونه شرقاً رثاً ساكناً شهوانياً لا فكر له ولا مستقبل من دون اللمسة الإمبراطورية. دعني أضيف: إنهم يستكملون ما بدأه بارتياح، بالغ دانيل دفو في روايته الذائعة منذ صدورها 1703 «روبنسون كروسو» التي تعرض إلى الشرق وأفريقيا أرضاً بوراً يسكنها ويعمرها كروسو ليلقن فرايدى الأسود الطريد لغته التي تبتدئ بالرضوخ، أي بمفردة: نعم. والخلاصة: أن أرنست رينان سيقفز على حصيلة هذا التراكم. وسيستعمر هو الآخر نتاج «دي ساسي» ليعيد توظيفه في التوزيع الفلولوجي الفقهي للعالم على أساس آري - سامي، ولم يعنِ رينان بالتوزيع ما بين شمال وجنوب مستعْمِر ومستعْمَر. كان معنياً بالتوزيع المتناقض في رأيه ما بين آري متماسك تركيبي عقلاني حضاري، وآخر سامي راكد ساكن. ولكن نظرية أرنست رينان التي سادت في حينه واجهت مشكلات نهاية القرن التاسع عشر، وحصيلتها النهائية للديمقراطية الانتخابية التي فسحت المجال للهجرات والأقليات، ولا سيما الأقلية اليهودية الناشطة القادمة من ألمانيا، التي استفزتها منذ زمن نظرية العرق الجرماني الذي يسعى للمّ الشمل والتكامل على أساس نقاوة العرق الجرماني. هذه النظرية التي سيسخر منها بصراحة المثقف العراقي المظلوم، ذو النون أيوب، في روايته «الدكتور إبراهيم» هي التي تشكل البذر النازي. وإذا كان يهود أوروبا من الكتّاب ورجال المال يؤثرون إنجلترا وفرنسا هرباً من ألمانيا منذ نهاية القرن التاسع عشر، فإن الأمر الذي تمخض جراء ذلك هو أنه ليس بالإمكان الركون إلى نظرية أرنست رينان وتوزيعها العرقي الديني ما بين: آري وسامي. فكان أن ولد التوزيع: الأوروبي أو الغربي والشرقي!! ومن السخرية أن اللغة النازية العرقية تحولت إلى جزء أساس من لغة المستعمر الجديد الذي يستخدم تعبير حيوانات بشرية في الإشارة إلى العرب والفلسطينيين منهم بشكل خاص كما يتأكد في خطب المستعمر الاستيطاني اليوم!

وعندما ألقى الراحل العالم ياروسلاف ستيتكيفتش محاضرته المبكرة في كلية سينث أنتوني بجامعة أكسفورد سنة 1967 كان ينبه إلى أمر آخر قد لا يبدو متصلاً بما نحن فيه؛ كان يلوم «نحن المستشرقين» على دراسة الشرق كموضوع من دون الانتماء إليه حباً وتعاطفاً. كان ينحو باللائمة عليهم لأنهم يكتبون ويقرأون باللغات قيد الدرس، لكنهم يعجزون عن استعمالها في التخاطب والعلاقة بالعرب موضوع درسهم. كان يدعو بإصرار إلى محبة حقيقية، وليس دراسية فحسب، لكي يشعروا بالانتماء إلى ما يخصونه بالدرس. ولهذا عجزوا عن العلاقة بموضوعهم، أي العرب. ومن هؤلاء كان المستشرق مرغليوث مثلاً الذي جمع أحاديث التنوخي ورسائل أبي العلاء المعري. لكنه أيضاً رافق البعثة البريطانية التي احتلت العراق. ويذكر الشاعر الدارس محمد مهدي البصير أحد معاصريه آنذاك أنه أي «مرغليوث» قال عند التفاوض مع الوفد الوطني العراقي: «إنه لم يعرف عن العراقيين القدرة على إدارة أنفسهم» بما يعني أنهم بحاجة إلى المستعمر البريطاني أو غيره!!

اللغة النازية العرقية تحوّلت إلى جزء أساس من لغة المستعمر الجديد الذي يستخدم تعبير حيوانات بشرية في الإشارة إلى العرب والفلسطينيين منهم بشكل خاص

هذه هي نهاية المستشرق؛ فهي ليست نهاية معرفية فحسب، ولكنها سياسية أيضاً، لأنها اقترنت بالتمايزات العرقية التي رافقتها، والتي قادتها إلى النهاية. هذا لا يعني التقليل من المنجز المعرفي عند السير وليم جونز ودي ساسي وسير شارلز لايل، وغيرهم. لكن إشارة الراحل ياروسلاف إلى أهمية التخاطب ودوره في توطيد حب حقيقي لموضوع الدرس تعني ضمناً لزوم التباعد عن عقدة المستعمر، أي ادعاء السيادة على الأقوام الأخرى. لهذا انقاد الاستشراق إلى حتفه، مع ازدهار العلوم الاجتماعية، وبروز المستعرب شريكاً ثقافياً. لكنها بداية المستعرب الذي درس العرب من زوايا مختلفة، وجاء بعدة أخرى، قوامها الحب والمودة لموضوع الدرس. المستعرب ليس دارساً للأدب وحده، وقد يكون مؤرخاً وسوسيولوجياً، وفيلسوفاً وغير ذلك، إنه ابن الثقافة التي يعنى بها، إذ لا تمييز بينه وبين أهلها، ولأنهما لا يقلان جهداً وتمعناً. ولنعد إلى السؤال: ما الذي تبقى من الاستشراق؟ لا يغمط السؤال الإرث الترجمي الفلولوجي الواسع الذي قام به المستشرق، لكن التقليديين منهم الذين مضوا على جادة مرغليوث لم يحققوا غير منجز ضئيل، مقارنة بالجهد الذي يقوم به المستعرب والمستعربة، وهما يمتلكان آليات بحث وتنقيب وتحليل مستجدة، لا تغمط الأقوام درايتها ولا تعددية ثقافاتها وتلويناتها المختلفة التي تفترق عن «النمطية» الأوروبية والنظرة الاستنكارية للآخر لمجرد تباينه عما يتصوره «التقليدي» نمطاً وحيداً عقلانياً قادراً على إدارة الآخرين.

جامعة كولمبيا، نيويورك.