الندوي: 55 ألف مخطوطة عربية في متاحفنا غير محققة

المترجم الهندي يرى أن عدم وصول الأدب العربي للعالمية يكمن في الترجمة

مجيب الرحمن الندوي
مجيب الرحمن الندوي
TT

الندوي: 55 ألف مخطوطة عربية في متاحفنا غير محققة

مجيب الرحمن الندوي
مجيب الرحمن الندوي

يعد الناقد والمترجم الهندي دكتور مجيب الرحمن الندوي أحد أبرز الوجوه الأكاديمية والثقافية المعاصرة التي تخصصت في اللغة العربية وآدابها عبر قارة آسيا عموماً والهند بشكل خاص. يعمل حالياً أستاذاً للأدب العربي بجامعة «جواهر لال نهرو» العريقة وترأس لعدة سنوات مركز الدراسات الأفريقية والعربية بالجامعة. ترجم إلى العربية روايتي «نهر النار» عن الأردية للروائية قرة العين حيدر، و«الوشاح المدنس» عن الهندية للكاتب فانيشوار ناث رينو؛ فضلاً عن بعض المؤلفات الفكرية مثل «مواطن الحداثة» لديبيش شاكرابارتي، و«فكرة الهند» لسونيل خيلناني. يتحدث العربية الفصحى بطلاقة ويكتب في مختلف الدوريات عن أحدث الإبداعات في الأدب العربي، كما يترأس تحرير دورية «قطوف الهند» التي تصدر بالعربية وتستهدف صنع جسر للتواصل بين الثقافة الهندية والعالم العربي. هنا حوار معه:

> عشت طفولة قاسية في بيئة لا تشجع كثيراً على التفوق العلمي... ماذا عن البدايات الأولى وكيف تجاوزت تلك الصعوبات؟

- نشأت في قرية نائية في شرق بيهار الهندية، حيث كان معظم الناس يعملون بالزراعة، ولا يهتمون بتعليم أولادهم بسبب الفقر وقلة الوعي. والدي، رحمه الله، كان يدرك أهمية التعليم، رغم الظروف الاقتصادية الصعبة، فأصر على تعليم أبنائه الخمسة. تم اختياري لمدرسة دينية وأكملت المرحلة الابتدائية في «كُتّاب» القرية رغم محدودية الموارد. التحقت بمدرسة في المدينة ثم بـ«دار العلوم بندوة العلماء» في مدينة «لكناو» حيث درست الأدب العربي والمواد الإسلامية. أكملت الليسانس والماجستير في التاريخ الهندي الحديث بالجامعة الملية الإسلامية في نيودلهي، والماجستير الثاني والدكتوراه في الأدب العربي بجامعة جواهر لال نهرو، حيث أعمل حالياً أستاذًا ورئيساً لقسم اللغة العربية. تجاوزت التحديات بفضل دعم عائلتي وإصراري على التعليم وتحقيق النجاح الأكاديمي.

> لماذا اخترت التخصص في اللغة العربية وكيف كانت رحلتك معها؟

- اختياري للتخصص في اللغة العربية كان نتيجة لعدة عوامل متشابكة أثرت في رغبتي واهتماماتي الشخصية. بدأت الرحلة من خلال دروس مدرسة كُتّاب القرية وهو ما تم بالصدفة، لكن شدتني هياكلها اللغوية المعقدة وجمالياتها الأدبية الفريدة. تزايد اهتمامي وتعمقت معرفتي باللغة العربية خلال الدراسات الجامعية، حيث درست النحو والصرف والأدب العربي الكلاسيكي والمعاصر. استمتعت بقراءة الأعمال الأدبية الكبرى في الشعر والرواية والتعرف على أساليب الكتابة المختلفة والقضايا التي تناولها الأدباء والشعراء. ما جعل تخصصي أكثر إثراءً هو التفاعل المستمر مع النصوص العربية، سواء في الدراسات الأكاديمية أو في الحياة اليومية، حيث أستمتع بالترجمة والتنظير والنقد الأدبي. والآن أعتز بثقافتي العربية مثل أي عربي، وقد منَّ الله علي منناً كثيرة بفضل اللغة العربية، وأعد عضويتي في مجلس أمناء «مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية» شرفاً كبيراً لي، كما زرت أكثر من 25 بلداً في آسيا وأوروبا وأميركا.

> لك تصريح مثير للجدل تقول فيه إن اللغة العربية تشكل هوية الهنود، حتى لو كانوا عجماً، ما الذي تقصده بالضبط؟

- لم أقل إن اللغة العربية تشكل هوية الهنود عموماً، بل قلت إن اللغة العربية تشكل هوية المسلمين الهنود بشكل خاص وأنا منهم، وأقصد بالضبط أن اهتمام المسلمين الهنود باللغة العربية كبير جداً بدافع حبهم الشديد للإسلام والقرآن الكريم، والدليل على ذلك انتشار المدارس الدينية في القرى والمدن، وعلى أقل تقدير توجد في الهند أكثر من ثلاثين ألف مدرسة عربية وإسلامية وجميعها تدار بتبرعات أهل الخير من المسلمين، وتعاني هذه المدارس الدينية من نقص شديد في التمويل، وتمر بظروف صعبة جداً خصوصاً بعد وباء الكورونا. ومع ذلك تواصل هذه المدارس تأدية دورها الديني والثقافي، حرصاً على الحفاظ على دينهم وعقيدتهم، وأيضاً تدرس اللغة العربية في أكثر من أربعين جامعة حكومية، ولذلك قلت في أحد حواراتي إن العربية تجري في دماء وعروق المسلمين الهنود، وهم يفتخرون بالانتماء للعربية مع كل ما يعانونه من عوز مالي واقتصادي. وأنجبت الهند في الماضي كبار علماء اللغة العربية والفنون العربية والإسلامية؛ منهم العلّامة مرتضى الزبيدي صاحب «تاج العروس»، والصغاني، والشاه ولي الله الدهلوي، والنواب صديق حسن خان القنوجي، وحميد الدين الفراهي، وغلام علي آزاد البكرامي، وعلي الندوي، وكثيرون ممن لا يأتي عليهم الحصر، وخلّف هولاء مآثر ذهبية في الثقافة العربية الإسلامية في الهند.

> إلى متى يظل حضور اللغة العربية في الهند قاصراً على الفضاءات الأكاديمية والدينية دون أن يشتبك مع الحياة اليومية؟

- حضور اللغة العربية في الهند، كما في كثير من البلدان غير العربية، يرتبط بالاستخدامات الدينية والأكاديمية بشكل رئيسي. تاريخياً، لعبت اللغة العربية دوراً مهماً في الدين والتعليم في الهند، خاصة في العصور الوسطى. تم استخدامها لتدريس الدين الإسلامي والعلوم المتعلقة به، بالإضافة إلى الاستخدام في العلاقات الدبلوماسية والتجارة.

لم تكن العربية في يوم من الأيام اللغة الرسمية للهند حتى في فترة حكم السلاطين المسلمين الطويلة الممتدة إلى ثمانية قرون، ولكنها كانت لغة الكتابة والتأليف العلمي، وظل نطاق استخدامها الحديثي محصوراً في بعض العائلات فقط، فلم تصبح لغة الحديث اليومي. وقد رجّح الاستعمار البريطاني للهند الكفة لصالح اللغة الإنجليزية التي سرعان ما أصبحت اللغة المهيمنة على كل الفضاءات العلمية والثقافية والسوقية، محلياً وعالمياً، مما أضر باللغة العربية كثيراً.

>لماذا تراجع دور «المجمع العلمي العربي – الهندي» الذي أسسه مختار الدين أحمد، رئيس قسم اللغة العربية في جامعة عليكره عام 1976؟

- هذا المجمع كان مؤسسة مهمة تهدف إلى تعزيز دراسة اللغة العربية والأدب العربي في الهند، وكان له دور بارز في تعزيز التواصل الثقافي بين العالمين العربي والهندي. ومع ذلك، تراجع دوره يمكن أن يُعزى إلى عدة عوامل منها تحديات التمويل وتراجع الهبات. ومن إنجازات المجمع إصدار مجلة علمية محكمة «مجلة المجمع العلمي العربي»، التي يشرف عليها رئيس قسم اللغة العربية بجامعة عليكره، وهي تعد من أرقى المجلات العلمية الصادرة في الهند باللغة العربية ويرأس تحريرها حالياً علامة الهند الأستاذ محمد ثناء الله الندوي.

> أطروحتك للدكتوراه تتناول المواضيع الاجتماعية المشتركة بين الرواية العربية ونظيرتها الأردية في الفترة من 1900 حتى 1950... ما أبرز نقاط التلاقي في هذا السياق؟

- من بين أبرز نقاط التلاقي في هذا السياق النضال ضد الاستعمار الغربي، والبحث عن الهوية الوطنية. وكتب الروائيون من الجانبين عن الطبقة الوسطى، والتحولات في النسق الاجتماعي ومواقف المجتمع من حقوق النساء وتعليمهن ومشاركتهن في الحياة العامة. وكذلك التغيرات الاقتصادية والتحديات الاجتماعية مثل الفقر والبطالة، والتأثيرات الاجتماعية للتحولات الاقتصادية مثل الهجرة الريفية إلى المدن، والحركات الفكرية والثقافية التي قامت في كلا القطرين في ظل الاستعمار الغربي.

> ماذا عن أوجه الشبه والاختلاف بين الأدب العربي ونظيره الهندي في الوقت الراهن؟

- الهند قارة بأكملها وتزخر بتعددياتها اللغوية الهائلة، فليس هناك أدب هندي واحد، بل آداب؛ منها الهندي، والأردو، والبنغالي، وغيرها (طاغور كتب باللغة البنغالية وحاز جائزة نوبل)، والأدب العربي هو أدب كل العرب. ورغم التشابهات في التراث الثقافي والشعبية الدولية، يظل الأدب العربي والأدب الهندي يتمتعان بخصوصيتهما الثقافية واللغوية التي تميزهما وتجعلهما يعبران عن تجارب وثقافات فريدة تعكس التنوع الثقافي في كل منطقة.

> أنت متابع جيد للرواية العربية الحديثة، ما أبرز ملاحظاتك عليها ولماذا لم تنل حتى الآن مكانتها العالمية مقارنة بنظيرتها الهندية المكتوبة بالإنجليزية؟

- أعتقد أن الأدب العربي الحديث والمعاصر، لا سيما الرواية العربية، لا يعاني من أزمة الإبداع أبداً، وإنما يعاني من أزمة ثقافية تتمثل في تدني مستوى القراءة في العالم العربي وعدم الترجمة على نطاق واسع. وأتفق مع المفكر الكبير إدوارد سعيد الذي قال إن الرواية العربية المعاصرة رواية عالمية وثرية، وكثير من الروائيين يستحقون جائزة نوبل، فهي أزمة ثقافية بالدرجة الأولى.

الروائيون العرب لم يقصروا قط في الإبداع، وبالفعل هناك روائيون عالميون يكتبون روايات مدهشة لو أنها كُتبت باللغات الأوربية لعُدّوا نجوماً في بلادهم. قال لي صديقي الروائي السوري الكبير نبيل سليمان إن كتاباً في أوروبا يصدر على الأقل في 10 آلاف نسخة، في حين لا تتجاوز، في أحسن الاحوال، طبعة كتاب عربي 500 نسخة، وهذا يدل على مدى الإهمال والتهميش الذي يعيشه المبدع العربي في وطنه. أنا في الحقيقة معجب جداً بمستوى الإبداع الروائي لدى الروائيين الشباب الذين أتقنوا فنهم أيما إتقان.

للأسف لا تتم ترجمة أعمالهم، إلا نادراً، للغات العالمية فيظلون مغمورين للقارئ العالمي. ولولا ترجمة روايات نجيب محفوظ إلى الإنجليزية لظلت شهرته محصورة في العالم العربي. أما الهنود الذين يكتبون باللغة الإنجليزية فتكون أعمالهم في متناول القارئ العالمي مباشرة، فتحقق لهم الشهرة والقبول على المستوى العالمي.

> سبق أن نوهت بوجود كنز معرفي من آلاف المخطوطات العربية في الهند التي تنتظر تحقيقها ونشرها. ما أبرز تلك المخطوطات، وما الذي يعيق الاهتمام بها؟

على أقل تقدير، هناك ما يزيد على 55 ألف مخطوطة عربية، في مواضيع متنوعة، وكانت هناك جهود لفهرستها، ولا أدري إن تمت فهرستها أو لا، الأمر الذي يعيق الاهتمام بها هو قلة الاعتناء بالتراث بشكل عام بسبب التدهور الاقتصادي والمعيشي والثقافي الذي يعاني منه المسلمون اليوم في الهند، فليست هناك جهود مؤسسية للاعتناء بها كما ينبغي. ويعود تاريخ بعض المخطوطات إلى القرن الأول الهجري، وعلى رأسها مخطوط «تاريخ دمشق» لابن عساكر، و«التبيان لتفسير القرآن» لأبي جعفر الطوسي، و«تحفة الغريب» للدماميني.

> أين توجد تلك المخطوطات تحديداً؟

- يحتوي «متحف سالار جونغ» في مدينة «حيدر آباد» على بعض أنفَسِ المخطوطات العربية التي تقدر بـ2620 مخطوطة، وكذلك مكتبة «خدا بخش» الشرقية العامة في مدينة «بتنه» التي تحوي نحو 9 آلاف مخطوطة وتتوزع المخطوطات الأخرى على مكتبات جامعات دلهي مثل الجامعة الملية الإسلامية و«همدرد»، و«مولانا أزاد» في جامعة عليكره الإسلامية، و«دار العلوم» و«الجمعية الآسيوية» في كلكتا التي أسسها الإنجليز.

>ما المعايير التي تحكم خياراتك بصفتك مترجماً عند نقل أعمال بعينها من الأردية إلى العربية والعكس؟

- معظم الأعمال التي قمت بترجمتها كانت جزءاً من مشروع الترجمة لدائرة السياحة والثقافة بأبوظبي، وأفضل هذا النوع من الترتيب لأنه يجنبي كثيراً من المشقات والصعوبات الإدارية، وسبق أن تم اختيارها من قبل لجنة محكمة. وكلما أخُيّر بانتقاء كتاب للترجمة أختار الذي يعجبني ويشدني إليه، وأعتقد أن أي كتاب قمت بترجمته يجب أن يكون شائقاً ومفيداً على السواء.

> تترأس تحرير المجلة الفصلية «قطوف الهند» التي تصدر بالعربية منذ ما يقرب من عامين لتكون «جسراً للتواصل بين أبناء الثقافة الهندية والعالم العربي»، وتهتم بنشر الأدب العربي، ونظيره الهندي مترجماً إلى العربية... كيف تقيم تلك التجربة، وهل نجحت المجلة في تحقيق أهدافها؟

- أحدثت مجلة «قطوف الهند» الإبداعية دويّاً كبيراً في أوساط اللغة العربية في الهند، وعُقدت عليها آمال كبيرة من جهة تنشيطها بيئة الإبداع لدى الشباب من كتّاب العربية، وبالفعل لوحظ إقبال كبير لدى أدباء على كتابة القصة القصيرة، والمجلة ما زالت فتية تجاوزت بالكاد سنتين من عمرها، وما زالت أمامنا طريق طويلة.



في كلّية الطب

في كلّية الطب
TT

في كلّية الطب

في كلّية الطب

باستثناء عبق الذكريات، لديّ القليل مما أفكر فيه الآن كي أصير مثلما تشاء نفسي، وإنني أتساءل أحياناً: بماذا تُفيدُني الذكريات، وأنا أرويها مثل حكاية مهدّئة للنفس؟ إننا نستدعي الأدب لإحياء ما فات من سنيننا، فاللغة ليست أداةً للتواصل فحسب، وإنما هي فضاء حيّ للتذكّر. سأحظى وفق هذا المفهوم بمتعةِ تخيّلِ لوحةٍ فيها رفاقي في أيام الدراسة، وأخشى أن يرسم اليراع أخيلةً بائسةً لا غير، إذا ما قُورنت بالحقيقة.

يقول صاحب المثل القديم: «بغداد أكبر من العالم». نحن في حيّ باب المعظّم، نسبة إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، حيث يُناهزُ ارتفاع الأشجار علوّ صوتِ المؤذّن من الجوامع السبعة القريبة؛ جامع الأزبك والمُراديّة والأحمديّة والحِيدرخانة والسليمانيّة والسراي والعاقولي، وجميعها بُنيت عندما كانت بغداد ولاية عثمانيّة. على شاطئ نهر دجلة القريب قامت الكلّيّة التي حصلتُ فيها على شهادة الطبّ، وأسّسها الإنجليز الذين حكموا العراق عقب الحرب العالميّة الأولى، وكان أوّل عميد لها سندرسن باشا، طبيب العائلة المالكة في العراق، وهذا الكلام لا أقصد به التباهي ولا التأسّي، ولا منزلة بين منزلتين، وربما خلص قارئ المقال إلى فحوى لم تكن في البال، ووظيفة الأدب هي السير به في هذا القصد.

في مبنى الكليّة يُطالعُ الزائرُ أولاً سلّماً حلزونيّاً يرتفع برشاقة إلى هيكل شبه دائريّ، هي المكتبة التي تُشرفُ على حديقة حافلة بالورود. يا لجلالة من يجلس عند طاولة هناك، ويُذاكرُ علوم الطبّ! في ذلك اليوم البعيد مرّ بالمكان شيخٌ، وأشار إلى المبنى قائلاً:

- هذا من صُنعِ يدي.

كان الشيخ يقصد المشفى القريب من الكليّة لغرض العلاج، وزار المكان ربما ليتأكّد أن البناء سوف يظلّ حيّاً بعد موته. بعد أن دخلتُ المكتبة واسترحتُ، ومن النافذة القريبة ظلّت آثار خطوات الشيخ على الدرب ماثلة أمامي. لهذه الذكرى من القوّة أنّها تبدو الآن حقيقيّة، وأشاءُ أن أنتسبُ إلى البنّاء البغدادي هذا، في طريقي في العلم والأدب والمعيشة، والأهمّ من ذلك، سماع صوت الوطن في أيّ مكان أحلّ به. ثم تمضي خطوات الزائر إلى الكليّة في ساحات وأبنية وحدائق تناهز مساحتها ثلاثة كيلومترات مربّعة، وتبدو مثل قطعة حرير موشّاة بجواهر قديمة وجديدة. في تلك السنين كان هناك جوّ من النهوض العامّ في البلاد، فالرئيس الشابّ صدام حسين متحمّس لنقل البلد بخطوات واسعة إلى دولة متقدّمة ومزدهرة، وفي الوقت نفسه كانت الحرب العراقيّة الإيرانيّة تقرع الأبواب بقوّة، وكانت فاتحة لسلسلة من الحروب، وهذا ليس موضوعنا.

إذا أردتَ السؤال عن مستوى جامعة ما، عليك بفحص قاعة الدرس فيها، وكانت عبارة عن صرح فخم يشبه ما في أروقة الأمم المتحّدة، فيه جناحان يفصل بينهما مدرج عالٍ، الأيمن يضمّ طالبات وطلّاب العاصمة، والجانب الأيسر خُصّص للوافدين من المحافظات، والفروق بين شاغلي الجناحين عديدة، رغم أن المستوى المعيشيّ متساوٍ تقريباً، وهي الطبقة المتوسّطة العليا، أو دونها بقليل. يعود التباين بالدرجة الرئيسيّة إلى اختلاف البيئة في القرية عنها في المدينة، والتشدّد الديني لدى بعض العائلات الحضريّة. من هذه الفروق اختلاط الجنسين في الجانب الأيمن من القاعة، بينما انقسم الذكور والإناث في جهة اليسار بحدّ قاطع مثل شفرة السكّين، الطالبات في الصفوف الأماميّة فحسب، كأنهن يشغلن القسم الخاصّ بالحريم في البيوت الشرقيّة، كما أن الحجاب والجبّة الإسلاميّة هما اللباس السائد، وبألوان كامدة بين السواد والرمادي والبُنّي الغامق، كأن عتمة رماديّة حزينة تسود الجوّ في هذا الجانب، في الوقت الذي انشغلت طالبات القسم الأيمن بالأناقة والشياكة اللتين مصدرهما أسواق بغداد ذلك الزمان، وكانت تضاهي بيروت وباريس ولندن، والمشهد هنا يشبه غماماً سديميّاً يتخلله شعاع ذهبيّ، مصدره، بالإضافة إلى الثياب القشيبة، حديث الطالبات والطلّاب باللهجة البغداديّة الغنيّة بالتوافقات النغميّة الساحرة. الفتيات، بقمصانهنّ البيض، كأنهنّ أزهار بيضاء مزهرة، وبمناديلهنّ المعطّرة وابتساماتهنّ الرقيقة الرضيّة، يبدين مثل أيقونات سعيدة تُثبت للعالم بنورها وهدوئها أن الفعل «تبغدد» لا يزال حيّاً، رغم جور الزمان على مدينة بغداد. قُلْ هي حياة من نوع آخر كانت تسود هذا الجانب من الصرح الدراسي، وكنتُ موزّعاً في الحقيقة بين الجانبَين، لأني وُلدتُ في مدينة العمارة، وأسكن العاصمة، لكنّ قلبي كان يميل إلى جهة اليمين، فصار مقعدي الدائم، تقريباً، هناك.

حميَتْ بمرور سنين الدراسة ضراوة الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وكانت البلاد تسير بخطى ثابتة باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب، بما فيهم رفاقه وأصدقاؤه وأهل بيته، وكانت لنا، نحن الدارسين، حصّة منها، على نوعين في جانبي قاعة الدرس، عذابات مضيئة، وأخرى مُرّة. دار الزمان منذ ذلك التاريخ أربعة عقود عشناها بصورة شاقّة وصعبة، أخشى أنني لست في حاجة إلى أن أصفها بأنها صراع يستدعي قوّة وشجاعة هائلتين كي نجتاز أربع حروب كُبرى: حرب الخليج الأولى والثانية والغزو الأمريكي والحرب الأهليّة، وتفرّقنا شتاتاً في الأرض، ثم اجتمعنا ثانية في منصّتين على «الواتساب» من الغريب أنهما تشبهان نصفي القاعة التي تلقّينا فيها العلم في سنين الدراسة. من يستطيع أن يقرأ هذه المعادلة بوضوح، ويؤمن بنتائجها؟ منصّة «واتساب» تضمّ من كان يجلس في جهة اليمين، وأخرى تجمع جماعة الميسرة، وهم القادمون من خارج العاصمة، الغالبيّة منهم ينحدرون من بيئات ريفيّة، أو مدنيّة تسود عوائلها أفكار دينيّة متشدّدة، والملاحظ أنها البيئة ذاتها التي نشأت فيها أحزاب اليسار في السابق، والأحزاب الإسلاميّة فيما بعد، مثل «حزب الدعوة» الذي كان نشطاً في تلك السنين.

كأن تاريخ العراق الحديث يمثّله الصَّرح الدراسي في كليّة الطبّ بطوبوغرافيته التي ذكرتُها، حيث يشتدّ الصراع غالباً بين قوى اليمين واليسار، أو بين السنّة والشيعة، أو العرب والعجم، أو الغربيّة والشرقيّة... إلى آخر التسميات التي فرّقت بلد الرافدين منذ القدم. دائماً وأبداً، وهذا الكلام يقوله علماء الأنثروبولوجيا، يؤدي لقاء الحضارات إلى كارثة، إن لم يكن هناك استعداد ومناعة للحضارتين المتداخلتين في تقبّل الآخر، والدفاع عن الذات في الوقت نفسه. ثمة خرافة مضمرة في دخيلتي تقول إن المشكلة في بلدي لم تكن يوماً دينيّة أو سياسيّة، بل هي إثنية. جانبا قاعة الدرس ينحدران من حضارتين متجاورتَين ومتعاديتَين هما الآشوريّة والبابليّة، دارت بينهما حروب طاحنة في الماضي، وانتصر من انتصر وانهزم الآخر، وهذا كلام طويل تحفظه كتب التاريخ. الملاحظ أن ظلال الأمم تظلّ تتحارب بعد أفولها، وتصير معارك بين أصداء أسماء أبطالها. هو رأي ضعيف للغاية، وإذا كانت نسبة الصحّة فيه واحداً بالمائة، فهي تستحقّ التأمل من قبل الدارسين. قالوا عن بلدي إنه نهران وولاءان، وأقول ربّما إذا عُرفَ السبب سهلَ الحلّ.

في بعض محطّات العمر يكون معنا أشخاص قريبون منّا ويملكون أنفاساً نقيّة، فهم يشبهون زهرة الألْوَة التي تتفتّح مرّة في العمر، ويبقى ضوعها يمتدّ، ثم يغيب وتبقى ذكراه مثل دمعة مالحة تحرق القلب. إننا نتذكّر لنكتشف جوانب من الحياة ما كنّا لننتبه لها، لأنها عيشت في زمانها إلى أقصاها، وحين تستدعيها الذاكرة تحلّ في صورة عالم جديد وغريب من الألوان والأحاسيس، دنيا إضافيّة فيها إيقاع آخر. للشاعر ت. س. إليوت قصيدة تحمل بعضاً من هذا المعنى:

«في الذاكرة صدى لوقع خطى

في الممر الذي لم نخطُ فيه

باتجاه الباب الذي لم نفتحهْ قطّ

إلى جنينة الورد».

ويحدث هذا الأمر مع أصدقائي في تلك الرحلة، أسير معهم في الزمن الحاضر في شوارع غير موجودة، ونفتح أبواباً لم تكن مقفلة ذات يوم، وكذلك الورد يثبتُ شذاه في الذاكرة، ولا يغيب عنها لأنه صار ميسماً. المآثر الأكثر نصاعة في الحياة تفقد بريقها ما لم تُسكَّ في كلمات منغمّة. كتبتُ، في ساعة تأمّل، هذه القصيدة عن سحر تلك الأيام التي رغم كونها لن تعود، لكنّها تعيش معي مثل ظلّ نجمي المستحيل، أي الأسعد، وأعطيتُ قصيدتي عنوان المقال:

«هل هو حنين؟

أم هي حياة تعيش معناً على الدوام

ونستعيدها جميعاً

بقوّة،

قد أمسك بها قلبٌ فتيّ

فكيف تضيع منها ساعةً

أو هنيهة...

نحن مجبولون من تلك المشاعر

ونعيشها الآن من جديد

ودائماً من جديد

وأبداً من جديد...

زهر القطن بدأ يتفتّح،

يا صديقاتي وأصدقائي في كلية الطب/ جامعة بغداد 1985

أسألكم، وأسأل نفسي دائماً،

ولا أملّ من السؤال، أو أتعبْ:

هل هو حنينٌ؟

أم هي حياةٌ تعيشُ معنا على الدوام

في الليل والنهار، في النوم واليقظة

وسوف تمتدُّ ظلالُها

أبعدْ».

كانت البلاد تسيرُ بخطى ثابتةٍ باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب