يوسف الخال في عيني زوجته مها بيرقدار

فرح بترجمة «الكتاب المقدس» وأراده «واضحاً يفهمه حتى الأطفال»

يوسف الخال في عيني زوجته مها بيرقدار
TT

يوسف الخال في عيني زوجته مها بيرقدار

يوسف الخال في عيني زوجته مها بيرقدار

من حيث لا تدري، تقدّم الشاعرة والفنانة التشكيلية مها بيرقدار الخال، وهي تصدر سيرتها الذاتية «حكايا العراء المرعب»، وثيقة مهمة للباحثين، عن حياة الشاعر يوسف الخال الذي ارتبطت به، وعاشت معه 17 عاماً، وأثمر زواجهما فنانَيْن هما: ورد ويوسف الخال.

لم يكن زواجاً سهلاً، ولا الأيام سلسة. فقد تم الزواج بين ابنة الـ25 عاماً والشاعر المعروف وهو في الرابعة والخمسين. أغرمت الشاعرة الصغيرة بالكاتب الذي ذهبت لتنشر عن طريقه مجموعتها الشعرية الأولى في «دار النهار»، لكنه بدل أن يمهدّ لها دروب الأدب، أغرم بها وتزوجها. وبعد خمس سنوات اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية، ودخل الزوجان في أتون دوامة العنف، والانتقال من منزل إلى آخر، هرباً من الموت.

ورد ويوسف الخال يشاركان والدتيهما في توقيع كتابها

ولكن لماذا قررت مها بيرقدار الخال، أن تكتب سيرتها الآن وتنشرها، عن دار «فواصل» في بيروت بالتعاون مع دار «مجلة شعر»، التي هي عملياً متوقفة عن الإنتاج؟ تقول لـ«الشرق الأوسط»: «كتبت لأنقذ نفسي، بدل الذهاب إلى طبيب أعصاب. عانيت من وفيات عديدة في عائلتي بدأت من أبي، وكذلك توفيت أختي وأخي بفارق 20 يوماً، وتزوجت يوسف الذي يكبرني بـ31 عاماً. لسنا من دين واحد، وحياتنا شابتها صعوبات كثيرة». وتعدُّ الكاتبة أن صدور كتابها عن «دار مجلة شعر» ليس استغلالاً متأخراً لزوجها - كما يقول البعض - بل هي لفتة تكريمية له، لأن هذه الدار لم تكن قليلة في تاريخ الأدب العربي الحديث عدا أن كل دواويني صادرة عنها.

أما لماذا الكتابة الآن: «فتلك كانت حاجة نفسية. بعد انفجار مرفأ بيروت، لم أعد قادرة على الرسم ولا كتابة الشعر. شلّت قدرتي على إنجاز أي شيء، فعكفت على كتابة سيرتي».

اكتشفت الخال وهي تكتب أن لها «ذاكرة قوية، تضج بالأصوات ومضمخة بالروائح، ومفتونة بالتفاصيل».

تبدأ السيرة بحياة الخال في دمشق مع عائلتها، مروراً بمغامرتها في المجيء إلى بيروت، وكانت قبلها قد درست الرسم في معهد أدهم إسماعيل، وقدمت برنامج «الليل والشعر والموسيقى» في الإذاعة السورية، مروراً بزواجها من الشاعر الراحل يوسف الخال وصولاً إلى تجربتها ومعاناتها بفقد أهلها ثم زوجها وإخوتها.

تصف يوسف الخال بـ«القسوة» والأنا المتضخمة. و«تفاجأت عندما أخبرني أن أول ديوان شعر كتبه عندما كان يافعاً، كان تحت اسم «الحرية»، وكم كرهت الحرية لأنها لم تكن كذلك، بل كانت هيمنة على الآخرين وغطرسة وسوء تفاهم دائم حتى مع أقرب الناس إليه».

تشتكي في الكتاب من الذكورية، فحين تسأله: «هل أفهم منك أن المرأة هي فقط مشروع جمالي لتمتّع الرجل؟» يجيبها: «هذا إذا كان رجلاً». كما أنه يخبرها «أنا أعرف متى أذهب، لكن لا أعرف متى أعود».

يوسف الخال أحد رواد الشعر العربي الحديث، بحسب زوجته، كان تقليدياً وربما هذا ما صدمها، لكن في الوقت نفسه، كان يداريها، ويخاف عليها، ويفهم احتياجاتها. فهي الزواج الثاني بعد أن أنجب ولدين طارق وجواد. «ستكون أنانية مني ألا أفكر بك، فأنا حققت أبوتي وبالوقت عينه، عليك أن تفكري بأمومتك». وعند ولادة ابنتهما ورد أصرّ أن يكون معها لحظة الوضع في غرفة الولادة. ولم يكن مهتماً إلا بصحة الأم.

نتابع مغامرات عبور الحواجز المسلحة ليوسف الخال مع زوجته وصغيرتهما ورد، للهروب من بيروت بسبب الحرب الأهلية.

اختار بلدة غزيز، كان قد استأجر فيها بيتاً في الجبل، ليخلو بنفسه وقت الكتابة. الاختيار لم يكن مصادفة، بل لأن فيها عائلة تدعى «الخال» أيضاً، وإن لم يكونوا أقرباءه بالفعل. فهو بروتستانت من سوريا، وهم موارنة.

الحرب القاسية تعيد مها بيرقدار إلى أيامها الدمشقية، طفولتها، بداياتها الأدبية، ولكن أيضاً حبها الأول لرجل كانت علاقتها به سرية. «فارس أحلام كل صبية، فكيف لا يكون أمير وملك واقعي وأحلامي وتوقعاتي؟» هذه العلاقة تنتهي، حين يخبرها حبيبها أنه متزوج، ثم يسافر ويغيب، بسبب تأميم ممتلكاته. «لا أظن أنني أحببت أحداً بعد أبي إلا هو، ولا زلت».

يعود الحبيب يظهر من جديد في حياة الكاتبة بعد أن تتزوج من يوسف الخال، يأتي ليراها في «غاليري وان» الذي كان قد فتحه زوجها في بيروت، ولا يتكرر اللقاء. لكن الحياة بين مها وزوجها الشاعر، يصيبها المزيد من الاضطراب. لما غادر هذا الحبيب «كان قد أخذ روحي المتهالكة معه. ما أجملك من حبيب! وما أغلاك من روح».

بعد تطورات الحرب وتصاعدها، كان الغاليري قد توقف عن العمل، والبيت في بيروت لم يعد صالحاً للسكن. ويوسف الخال ترك عمله في دار «النهار». اختير لترجمة «الكتاب المقدس»، فكان بمثابة نافذة فرج بالنسبة له. وافق على الفور على عرض «جمعية الكتاب المقدس».

كان الهدف من ترجمة جديدة إلى العربية هو «وضع نص يفهمه حتى الطفل»، «والأجر محترم». وقد عينت لجنة من كهنة من الطراز الأول لمراجعة كل كلمة يترجمها.

رغم صعوبة السفر في الحرب، فإن هذه الترجمة تطلبت من الخال الانتقال تكراراً بين مصر والأردن وإيطاليا وقبرص، والكثير من الجهد والوقت. «ما خلق بيني وبين يوسف هوة كبيرة، حتى صرنا نتصرف كغريبين في بيت واحد. فانسحبت من غرفة نومي المشتركة مع يوسف إلى غرفة ورد، أيضاً لأنه كان (يشخر) طوال الليل، ما يجعلني يقظى».

مكتبة يوسف الخال بقيت في بيته في بيروت، حين انتقل إلى غزير. لكنه مع الوقت احتاجها، وكان لا بد لزوجته أن ترافق أحد المقاتلين القادرين على إيصالها إلى هناك لتأتي بالأزم. هناك وجدت البيت قد نهب، الكتب سرقت والسميك منها وضع في الشومينيه. لكن لحسن الحظ أن الخزانة التي فيها أرشيف مخطوطاته وكتاباته لم يعبثوا بها. نقلت مها ما تيسر إلى غزير. «يجلس يوسف محدقاً بالمصنفات المكدسة فوق بعضها بعضاً بحزن شديد قائلاً: «كأنه مكتوب علي أن أبدأ دائماً من الصفر».

«قولي لي الحقيقة، لماذا لم تعودي تحبينني؟» يسأل زوجته: «إن أخطر ما يهدد الزواج، الافتراق والنوم كل واحد بغرفة». رغم هذا النفور تحمل بابنها الثاني، وتفعل الأم كل ما بوسعها للتخلص من حملها. «لم أعد أتحمل يوسف، فكيف أنجب له مزيداً من الأولاد؟» طلبت منه مالاً للذهاب إلى المستشفى وفعل اللازم. جاء لها برزمة ليرات «صفقني بها على وجهي، فتناثرت في المكان: خذي لكنني لن أشارك بمثل هذه الجريمة».

ذهبت للتخلص من حملها، لكنها عادت وقد بدلت رأيها، وحين أخبرته بذلك «فتح عينيه، ونظر إلي نظرة ملؤها شتى الأحاسيس من الغضب والحب والفرح والصدمة والقسوة واللين والغرابة وقد دمعت عيناه لأول مرة». لا يتردد في التعبير عن خوفه على زوجته، يقلي صحن البطاطا الذي طلبته منه قبل أن تعود ورد من المدرسة. كان متأثراً «أنا بالستين وبعدني عم خلف».

مع ولادة الطفل الثاني عام 1977 بقي الزوجان سبعة أشهر، ولم يسميانه. سافر الأب إلى لندن، وأرسل لها من هناك «دعوناه يوسفاً. لكثرة ما أحببته، فأنا تقمصت فيه بعد هذه الكبرة». لتعلق: «أنا بيوسف واحد تعبانة، فكيف بيوسفين؟»

بسبب ترجمة للكتاب المقدس، «كان سعيداً وفخوراً إلى أبعد حد»، ويقول: «يكفيني فرحاً وفخراً أني عندما ألاقي وجه ربي يكون بيميني مجلة شعر وبيساري ترجمة الكتاب المقدس».

نلحظ مدى العلاقة التي ربطت يوسف الخال ببعض السياسيين اللبنانيين، خاصة بشير الجميل الذي جاء رغم الظروف الصعبة، لحضور توقيع كتاب يوسف الخال باللغة المحكية «الولادة الثانية» كما أنه طلب من الخال، أن ينظم له جلسة في منزله تجمع مثقفين وفنانين، وهكذا حصل.

يقول الخال لزوجته إنه يحب بشير الجميل أكثر من أولاده ويخاف عليه أكثر مما يخاف عليهم «لأنه أجمل وأكبر من أن يكون حقيقة! لأنه جمع في شخصه الإقدام والإيمان والاندفاع وعشق الوطن، وطهارة اليد والنفس». ثم بدأت مها بوضع كتاب عن بشير أو «باشو» اسمه العائلي بطلب من زوجته صولانج.

نقرأ كيف عايش الخال ترشح بشير لرئاسة الجمهورية ووصوله إليها ثم اغتياله. لشدة حزنها، كتبت مها الخال قصيدة «قمح الطفولة» في رثاء بشير وغناها ربيع الخولي.

بدأ يوسف الخال يسير بخطوات متعثرة، حتى يكاد يرتطم رأسه بالحائط، بسبب ورم في رأسه، كان هذا إنذاراً مفاجئاً بسرطان في الرأس. بعد عملية الاستئصال، عانى من أوجاع رهيبة. تعهد رفيق الحريري بنقله للعلاج على نفقته في باريس.

عن طريق قبرص ومن ثم بالباخرة إلى مرفأ جونية عاد يوسف الخال هزيلاً متعباً، وسرعان ما انتكس ونقل بسيارة إسعاف إلى مستشفى باستور.

تتحدث الكاتبة عن عدد من العروض وصلتها للاهتمام بطبابة يوسف الخال، إضافة إلى مساعدة رفيق الحريري. عرض من أمين الجميل، وكذلك سمير جعجع. وحين أبلغته قال لها: «شكراً للكل... الحريري دفع كثير علي بفرنسا! والدكتور جعجع الله يعينه... أنا بدي رئيس بلادي أمين الجميل، ثم صمت».

في أيامه الأخيرة أرسل له أدونيس رسالة «من أجمل الرسائل وأصدقها». تقول الكاتبة أن يوسف الخال طلب إليها أن تعيد قراءتها عليه تسع مرات، كان آخر الرسالة «(يوسف الخال... سلاماً... سلاماً). أغمض يوسف عينيه، مع دمعة سقطت من عينه اليسرى...! كان يوسف يحب أدونيس رغم بعض الخلافات الشعرية القديمة بينهما»



«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية
TT

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً، كما عاشت شخوصه وأحداثه في ذاكرة الكاتب طويلاً تُلحُّ عليه أن يخرجها إلى النور. هو كتاب في حب البشر، خاصة أولئك المستثنين من حب بقية البشر. يبحث الرحيمي عن قاع المجتمع، فإذا ما وجده راح ينبش فيه عن قاع القاع. عن تلك الطبقة الدنيا التي ليس هناك ما هو أدنى منها. عن الطبقة التي أقصاها المجتمع عنه، حتى لم يعد يراها وإن رآها فلا يراها بشراً ولا يعدّها من جنسه، حتى نسيتْ هي أيضاً بشريتها. يلتقط الكاتب تلك الطبقة ويكتشف إنسانيتها ويكشف لنا عنها، يلتقط أفراداً منها، ويكشف لنا أنهم مثلنا تماماً وإنما طحنتهم قوى تاريخية ومجتمعية قاهرة حتى حجبت إنسانيتهم عمن حولهم، بل وعن ذواتهم. ينتشلهم الكاتب من قاع القاع ويغدق عليهم من فيض روحٍ مُحِبَّة للبشر ترفض أن تنسى من نسيهم المجتمع والتاريخ.

يكتب الرحيمي عن الريف المصري في شيء كثير من العاطفية والنوستالجيا. يكتب عن الريف الذي نشأ فيه قبل أن ينزح إلى المدينة ويكتب عن التحولات الهائلة التي ألمت به منذ الخمسينات من القرن العشرين إلى يومنا هذا. يكتب عما عاصره في نشأته ولكن أيضاً عما سمعه صغيراً من الأجيال الأسبق. يكتب عن بؤس الفلاح المصري في العصر الإقطاعي وخاصة عمّال «التملية»، المعروفين أيضاً بعمال التراحيل، والذين كتب عنهم يوسف إدريس في قصته الأشهر «الحرام» (1959)، وعن مجيء ثورة 1952 والإصلاح الزراعي الذي طال الكثيرين، لكنه أغفل «التملية» أو هم غفلوا عن الانتفاع منه لأنهم كانوا مسحوقين إلى حدٍ لا يمكنهم معه إدراك أن ثمة تغيرات كبرى تحدث في المجتمع وأنه يمكن لهم الانتفاع منها. يكتب أيضاً عن سائر التحولات التي جرت في الريف المصري بعد انتهاء الدور الإصلاحي لثورة 1952 والنكوص عن إنجازاتها المجتمعية في عصري السادات ومبارك، حتى لم يعد الريف ريفاً وتقلصت الزراعة واختفت المحاصيل ومواسمها التي من حولها نشأت تقاليد الريف المصري الحياتية وقيمه الأخلاقية التي دامت قروناً طويلة حتى اندثرت تدريجياً في العقود القليلة الماضية. يكتب على حد قوله «فيما جرى لبلدنا وقرانا».

يتجول الكتاب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة» في شرق الدلتا. تصبح القرية بؤرة لمصر كلها. تصبح رمزاً للثابت والمتحول، أو بالأحرى للثابت الذي تحوَّل إلى غير عودة بعد قرون وقرون من الثبات، ولا يساعدك النص أن تقرر ما إذا كان تَحَوَّلَ إلى الأفضل أو الأسوأ. فالأمران ممتزجان، وليس النص إلا محاولة لاسترجاع الأنماط الجميلة للحياة البشرية والبيئية التي ضاعت إلى الأبد ضمن التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القاهرة التي تُصنع في العاصمة لتطال موجاتها العاتية قرى مصر ونجوعها في كل مكان من حيث لم تكن تحتسب.

ما نراه في هذا الكتاب هو نماذج عديدة لآلام التحول ولكن أيضاً لأفراحه. نماذج للعامّ حين يقتحم حياة الأفراد فيرفع من يرفع ويخفض من يخفض ويعيد تشكيل ما يُسمى بالمجتمع. يخبرنا التاريخ المعاصر بحرب اليمن الفاشلة ضمن مشروع القومية العربية التوسعي لجمال عبد الناصر في ستينات القرن الماضي، لكن هذا النص يشعرنا بمأساة مجندي القرية مثل «المسكين» وآلاف أمثاله الذين ذهبوا ولم يرجعوا ليحاربوا حرباً لا يفهمون لها سبباً في بلد لم يسمعوا به قبلاً. يحدثنا التاريخ الذي عاصرناه أيضاً عن تهجير أهل مدن القناة حماية لهم من القصف الإسرائيلي عبر قناة السويس عقب هزيمة 1967. لكن الكتاب الذي بين أيدينا في الفصل المعنون «المهاجرون» هو الذي يرينا مذلة أولئك المهاجرين (أو المُهجَّرين كما عُرفوا وقتها في تسمية أصحّ) لدى وصول بعضهم للعيش في قرية «الدراكسة» بعيداً عن الخطر. لكنه أيضاً هو الذي يرينا قدرة المهاجرين على التأقلم مع الظرف الجديد، ويرينا الروح المصرية الأصيلة وقت الأزمة حيث يكرم أهل القرية ضيوفهم طويلي المكث خير إكرام. لكنه فوق هذا وذاك يحكي لنا من واعية الطفل الذي كأنه الكاتب في ذلك الوقت عن الأثر التمديني العميق الذي مارسه هؤلاء الضيوف الآتون من مدينة بورسعيد الساحلية ذات التاريخ الكوزموبوليتاني على القرية النائية المعزولة عن الحضارة، فلم يتركوها بعد سنوات إلا وقد تغيرت عاداتها العريقة في المأكل والملبس والمشرب والسلوك الاجتماعي. هكذا تختلط المآسي والمنافع في الحياة كما في كثير مما يصوره الكتاب.

يصعُب تصنيف «طباطيب العبر». هل هو تسجيل لتاريخ شفهي؟ هل هو مجموعة تحقيقات صحافية متأدِّبة؟ هل هو دراسة أنثروبولوجية عفوية تخففت من المناهج والتقعر الأكاديمي؟ هل هو رصد واقعي أم خيال قصصي؟ هل فصوله وحدات منفصلة أم أن ثمة شيئاً يصهرها معاً في كلٍّ؟ الأرجح أن الكتاب فيه من كل هذه الصفات وأن مرونته السردية جاءت نتاجاً للعاطفة الاسترجاعية الكامنة وراءه والتي كان من الصعب أن تُصبَّ في قالب جامد أو تسلسل زمني، وكان لا بد أن تكتب في هيئة زخات شعورية متباعدة. مرونة السرد هذه هي نفسها التي تجعل الكتاب في بعض المواضع يلتحق برومانسية محمد حسين هيكل في روايته الشهيرة عن الريف المصري «زينب» (1912؟ 1914؟)، بينما في مواضع أخرى نراه يلتحق بواقعية «نائب في الأرياف» (1937) لتوفيق الحكيم وبالتصويرات الواقعية لكتّاب الريف الآخرين، أمثال عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف القعيد وغيرهما، وعلى الأخص يوسف إدريس الذي لا أشك أنه كان له أثر كبير أسلوبياً وفكرياً على الرحيمي.

على أنني لا أظن أني قرأت عن الريف المصري كتابة تغرق مثل هذا الإغراق في فنون المدرسة الطبيعية «الناتورالية» التي تجاوز تقنياتها تقنيات المدرسة الواقعية، فلا تترك تفصيلاً من تفاصيل البيئة إلا ذكرته ووصفته مهما بلغ من قذارة ومهما كان مقززاً ومهما كان خادشاً للحياء ومهما كان فاضحاً للنفس البشرية وللجسد البشري ومخرجاته. كل شيء هنا باسمه القح وقبحه الصادم ورائحته العطنة الفائحة وأصواته الناشزة (انظر على سبيل المثال لا الحصر الفصل المعنون «روائح القيظ القديمة»). هذه كتابة غير مُراقَبة، غير مهذبة ولا منمقة، لا تحاول أن تحمي القارئ ولا تراعي نعومته وترفه المديني أو الطبقي ولا يعنيها أن تمزق تغليفه السيلوفاني شر تمزيق. ذلك أنها كتابة تريد صدم الحس المُرفَّه وتحريك الضمير المٌخدَّر وتوليد الإحساس بالذنب لدى المجتمع الغافل عن أبنائه وعن الثمن الفادح الذي يدفعه جنود الريف المجهولون من أجل رفاهتهم. هي كتابة لريفي تمدَّن ولكن بقي على حبه وولائه للريف.

يتجول الكاتب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة»

غير أنني أيضاً لا أظنني قرأت منذ يوسف إدريس كتابة عن الريف المصري تتسم بهذا الفهم المُشرَّب بالعطف الإنساني. إلا أن ثمة فارقاً. كان إدريس يكتب عن ريف موجود فلم يكن في كتابته حنين، أما هنا فنحن أمام كتابة استرجاعية، كتابة عن ريف وناس وعادات وقيم ما زالت في الذاكرة لكنها لم تعد في الواقع المعاش، وربما من هنا تنبع الرغبة في اقتناصها في كتاب قبل أن تزول من الذاكرة أيضاً بغياب الجيل الذي عاصرها، وهذا ما يفعله أسامة الرحيمي الذي يصحب حواسَّنا الخمس في رحلة نلمس فيها أشجار الريف وحقوله ونشم روائحه، الطيب منها والخبيث، ونسمع أصوات بشره وحيوانه ونرى جماله وقبحه ونذوق طعومه، كما في فصل «أكل التوت» مثلاً وفي سائر الكتاب.

يكتب الرحيمي في لغة عذبة سلسة، لا يعنيها التأنق المصطنع لأن فيها رشاقة طبيعية تتنقل بك في خفة بين الفصحى والعامية، ومن لغة القرية إلى لغة المدينة، ومن لغة الطفل في لحظة الحدث إلى لغة الكاتب الناضج المتأمل لطفولة الماضي، ويحلّق بك عند الطلب من سهول النثر إلى مرتفعات الشعر.
في هذا الكتاب السهل الممتنع في أسلوبه، الثري في شخصياته وحكاياته، المتأمل في الريف وتحولاته، والملآن بالعطف على الإنسان وسائر الكائنات، على الترع والحقول والأشجار، تنضح الصفحات بالحزن على الحيوات التي ذهبت بدداً، والأجيال التي لم تجرؤ على الأمل. إن كانت أتراحها وآلامها - وأحياناً أفراحها - ما زالت تتردد في الفضاء، فهذا الكتاب قد التقط أصداءها.