تجليات الحب عند العرب... وحكماء يحذرون منه

أحمد تيمور باشا يكتب عن نوادره ومفارقاته

تجليات الحب عند العرب... وحكماء يحذرون منه
TT

تجليات الحب عند العرب... وحكماء يحذرون منه

تجليات الحب عند العرب... وحكماء يحذرون منه

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «الحب والجمال عند العرب» لأحمد تيمور باشا، عالم اللغة والأدب والتاريخ، والذي يعد أحد أبرز جيل الرواد في الثقافة المصرية المعاصرة؛ حيث جمع بين النشأة الأرستقراطية وبين التكوين الأدبي الرصين الذي ينهل من منابع التراث العربي. عاش في الفترة من 1871 إلى 1930، لأب كردي وأم تركية. شكَّلت مؤلفاته رافداً مهماً في جهود إحياء التراث ونقده، وإعادة تقديمه بصورة شيقة وجذابة تناسب العصر، كما في «لهجات العرب»، و«التصوير عند العرب»، و«تصحيح القاموس المحيط»، و«المنتخب في الشعر العربي». شقيقته هي الشاعرة المثقفة عائشة التيمورية، إحدى رائدات حركة حقوق المرأة، ونجلاه هما محمد وأحمد تيمور اللذان وضعا اللبنة الأولى للسرد الحديث في القصة والرواية.

صدرت الطبعة الأولى من كتاب «الحب والجمال عند العرب» عام 1921، وفيه يرصد مفاهيم الحب وتعريفات العشق، وتجلياتهما عند الشعراء والفلاسفة والخلفاء، وما ينطوي عليه الأمر من مفارقات ونوادر.

مفارقات ونوادر

يستهل المؤلف كتابه بتقصي أشهر تعريفات الحب، مستشهداً بـ«حمّاد الراوية» حين سُئل عن الحب: ما هو؟ فقال: «شجرة أصْلُها الفكر، وعروقها الذِّكر، وأغصانها السهر، وأوراقها الأسقام، وثمرتها المَنِيَّة».

وقال معاذ بن سهل: «الحُب أصعب ما رُكِب، وأسكر ما شُرِب، وأقطع ما لُقي، وأحلى ما اشتُهي، وأوجع ما بطن، وأشهى ما علن».

وقال الفقيه الفيلسوف ابن حزم، في كتابه «طوق الحمامة»: «الحب أوله هزل، وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكَر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة؛ إذ القلوب بيد الله عز وجل».

وتعد «فائية» ابن الفارض من أشهر ما توارثته الأجيال في الحب، حين قال:

«قلبي يحدثني بأنك متلفي

عجِّل به ولك البقا وتصرَّفِ

قد قلتُ حين جهلتني وعرفتني

روحي فداك عرفتَ أم لم تعرفِ».

وقالت العرب إن أصناف المحبين والعاشقين كثير، بحيث يشق إحصاؤهم، ولا يتأتى استقصاؤهم، كما جاء في قصيدة أبي فراس الحمداني التي يقول فيها:

«تسائلني: من أنت؟ وهي عليمة

وهل بفتى مثلي على حاله نكرُ!

فقلتُ كما شاءت وشاء لها الهوى:

قتيلك! قالت: أيهم؟ فهم كثرُ».

وإذا كان البعض حالياً يتحسر على حال البلاد والعباد، ويشكو الحاضر ويتغنى بالماضي؛ لا سيما في الحب والمشاعر، فإن تلك الظاهرة قديمة للغاية. وما يدل على ذلك -حسبما يورده أحمد تيمور باشا- أنه «قيل لأعرابي: ما بال الحب اليوم على غير ما كان عليه قبل اليوم؟ قال: نعم، كان الحب في القلب، فانتقل إلى المعدة، إن أطعمَتْه شيئاً أحبها، وإلا فلا. كان الرجل إذا أحب امرأة، ظل حولاً (عاماً) يطوف بدارها ويفرح إن رأى من رآها، وإن ظفر منها بمجلس تشاكيا وتناشدا الأشعار، وإنه اليوم يشير إليها وتشير إليه، ويعِدُها وتعِدُه، فإذا اجتمعا لم يشكوا حباً ولم ينشدا شعراً».

التحذير من النساء

وكما يبدو التراث العربي بليغاً في التعبير عن الافتتان بالنساء؛ فإننا نجد أصواتاً تحذر منه، كما نجد في قول بعضهم: «هُنَّ نار توهج، وسُلَّم إلى كل بلاء، وهُنَّ مثل شجرة الدفلى، لها رونق وبها ثمر، إذا أكله البعير آذاه، وقد يودي به». ومن أمثالهم في هذا السياق: «طاعة النساء تردي العقلاء، وتذل الأعزاء». ونظر أحد الصالحين إلى امرأة تتزين وتتعطر، فلما فرغت من زينتها ظهرت محاسنها وزاد جمالها، فقال لمن حوله: «إنما المرأة مثل النار، إذا زيد في حطبها تأججت واشتد حرها، وأضاءت للناس، فهي حسنة المنظر تحرق من دنا منها».

وقال حكيم آخر: «كل أسير يُفَك إلا أسير النساء، فإنه غير مفكوك. وكل مالك يملِكُ إلا مالك النساء، فإنه مملوك، وما استرعين شيئاً قط إلا وضاع، ولا استؤمنَّ على سِر إلا ذاع، ولا أطقن شراً فقصرن عنه، ولا حوين خيراً فأبقين منه». وقيل له: كيف تذمهن، ولولاهن لم تكن أنت ولا أمثالك من الحكماء؟ فقال: «مثل المرأة مثل النخلة الكثيرة السلاء، لا يلامسها جسد إلا اشتكى، وحملها مع ذلك الرطب الجني». والسلاء: جمع سلاة، وهي شوك النخل.

الحد الفاصل بين الحب والطمع

يورد المؤلف واقعة ذات دلالة عن الحد الفاصل بين الحب والطمع في المال، بطلها الشاعر العباسي أبو العتاهية؛ حيث مرت به جارية في موكب فأعجبته، فسأل: من هي؟ فقيل له: هذه «عتبة» من جواري الخليفة، فقال: «قد عشقتُ عتبة». وأنشد فيها شعراً. ولم يزل كذلك حتى شاع الشعر المنشود في الجارية، وتحدث الناس بعشق أبي العتاهية. فقال صاحب الجارية: نمتحن العاشق بمال على أن يدع التعرض للجارية، فإن قبل المال كان مستأكلاً، وإن لم يقبله كان عاشقاً. فلما كان الغد مرت «عتبة» فعرض لها صاحبها فقال له الخدم: اتبعنا، فتبعهم، فمضت به إلى منزل خليط يزار. فلما جلست دعت به فقالت له: يا هذا، إنك شاب، وأرى لك أدباً. وقد تأنَّيتك، فإن أنت كففت، وإلا أنهيتُ ذلك إلى الخليفة، ثم لم آمن عليك.

فرد عليها أبو العتاهية قائلاً: فافعلي بأبي أنت وأمي، فإنك إن سفكتِ دمي أرحتِني، فأسألك بالله إلا فعلتِ ذلك، إذا لم يكن لي فيك نصيب. فقالت له: أبقِ على نفسك، وخذ الخمسمائة دينار، واخرج من هذا البلد. فلما سمع ذِكر المال ولَّى هارباً. فقالت: ردوه. وألحَّت عليه فيه، فقال لها: «جُعلت فداكِ، ما أصنع بغرض زائل من الدنيا وأنا لا أراكِ؟ والله إنك لتبطئين يوماً واحداً عن الركوب، فتضيق عليَّ الدنيا بما رحبت»، فزادت له في الدنانير، وما زالت تلح عليه فلا يزداد إلا رفضاً.



مرزوق بن تنباك... «البدوي» الخارج عن النسق

المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك
المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك
TT

مرزوق بن تنباك... «البدوي» الخارج عن النسق

المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك
المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك

كرّم وزراء الثقافة في مجلس التعاون الخليجي، مساء اليوم في الدوحة، المفكّر والأكاديمي السعودي الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك؛ نظير جهوده طيلة نصف قرنٍ في خدمة اللغة العربية والفكر والأدب.

جاء تكريم بن تنباك، جنباً إلى جنب مع تكريم كوكبة من المبدعين الخليجيين في المجال الثقافي، في حفل أقيم بعد انعقاد أعمال الاجتماع الثامن والعشرين لوزراء الثقافة بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في الدوحة، والذي تم خلاله بحث الموضوعات المتعلقة بتطوير العمل الخليجي المشترك في المجال الثقافي.

فتوحات فكرية

والأكاديمي والباحث السعودي الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك (مواليد 1950)، الحاصل على جائزة مكتب التربية العربي التابع لدول الخليج قبل 30 سنة، جمع بين الفكر والأدب والنقد، ويُعتبر من جيل رواد الأدب والصحافة في السعودية، وهو أستاذ محاضر في كلية الآداب بجامعة الملك سعود.

قدّم مجموعة من المؤلفات التي اعتُبرت «فتوحات فكرية» أحدثت ارتدادات واسعة وسجالاً كبيراً في الوسط الأكاديمي والثقافي في العالم العربي، من بينها كتابه «الوأد عند العرب بين الوهم والحقيقة» (168 صفحة) (طُبع أول مرة عام 2004 وأُعيد طباعته مؤخراً)، وهو دراسة تستقصي حقيقة الوأد عند العرب، وتنتهي إلى نفي هذه التهمة عن المجتمعات العربية قبل الإسلام. وفي دفاعه عن فكرة كتابه «الوأد عند العرب»، رأى بن تنباك في حوار صحافي أنه لم يستغرب «الرفض الذي واجه ما جاء في الكتاب من أدلة دامغة تؤكد أن الوأد الذي تصفه الروايات الإسلامية لم يحدث قَطّ. (لأننا) أمة نقدس الماضي ونصدق كل ما يقال فيه وعنه».

وكان بن تنباك أكدّ أن قضية وأد البنات «وهمٌ تاريخي وكذبة لفّقها بعض الرواة للعصر الجاهلي، واخترعوها من الخيال الشعبي لأغراض التذكير والتفضيل»، مشيراً إلى أن ما تضمنه كتابه جاء «نتيجة لسبعة أعوام من البحث والتمحيص».

ويعيد بن تنباك تفسير لفظ «(يتوارى) من الناس» إذا بُشّر أحد العرب في الجاهلية بالأنثى، والتي وردت في القرآن الكريم؛ إذ يرى أن «الكثير من التفاسير جعلت من كلمة (يتوارى) قصة غياب وهروب من البيت وانتظار لمقدم الولد وجنسه حتى يعلم ما يكون، في حين أن بلاغة النص القرآني هي وصف لحالة الغاضب أو الكاره أو الحزين الذي ينحرف بوجهه وينطوي على نفسه ويخلو بها عن مجلس القوم، وليس ذلك الهرب الذي أوحت به كلمة (يتوارى)».

كذلك الحال بالنسبة لعبارة «يدسّه في التراب»؛ إذ يرى بن تنباك أن الدسّ في التراب عند ولادة الأنثى تعبير عن الشعور بـ«الهوان المعنوي»، كما «يدسّ» الكثير من العرب اليوم أسماء بناتهم.

كذلك أثار كتابه «بدعة الأدب الإسلامي»، الذي صدر مضمونه في كتاب «إشكالية الأدب الإسلامي» والذي ألّفه «بالاشتراك مع الباحث السوري الدكتور وليد قصاب»؛ إذ مثَّل فيه الدكتور قصّاب جانب الدفاع عن الأدب الإسلامي، في حين مثَّل الدكتور مرزوق بن تنباك جانب المعارض لمصطلح الأدب الإسلامي.

وعن «بدعة الأدب الإسلامي»، رأى بن تنباك أن «الموقف كان اعتراضاً على مبدأ التصنيف واختيار صنف واحد وتجريم غيره من المضامين والموضوعات، (لأن) فنون الأدب موضوعاته كثيرة متنوعة منذ عُرف الأدب، ولم يعترض أحد على ممارسة المضامين المعروفة، فمنذ صدر الإسلام عُرف الشعر العذري وشعر الغزل المكشوف والهجاء وغيره من أنواع الشعر المرغوب والمرفوض، ولم ينكر أحد ممارسة هذه الفنون أو يجرمها أو يدعو لإلغائها والتحذير منها».

ومن مؤلفاته كذلك، كتاب «حالة المجتمع السعودي وتحولاته»، وكتاب «الفصحى ونظرية الفكر العامي».

من مؤلفات د. مرزوق بن تنباك

خارج عن النسق

والدكتور بن تنباك، كاتب معروف في الصحافة السعودية، كثيراً ما أثارت آراؤه نقاشاً في الساحة الثقافية؛ فقد كتب مدافعاً عن العلمانية في مقال نُشر في عام 2016، أكد فيه أنّ «العلمانية في ممارساتها المعاصرة حامية للأديان وصديقة للإنسان، وليس أوضح مما يعرفه الناس كافة في الدول التي تطبقها»، وفي محاضرة له بنادي نجران الأدبي قال بن تنباك إن «العلمانية تحافظ على كرامة الإنسان، وعلى شعائره، وحقه في الوجود»، وإن «علمانية بريطانيا اليوم لم تمنع 1500 مسجد ومركز إسلامي، ولم تمنع أيضاً أكثر من 3 ملايين مسلم يعيشون فيها»، مشيراً إلى أن «تطبيق الليبرالية في أوروبا اليوم لم يمنع ما يمثّل أصول ومظاهر الدين الإسلامي الحقيقية»، وهي التصريحات التي أثارت غضباً من قبل المحافظين.

ومن مقالات بن تنباك الشهيرة، مقاله «القراءة النجدية» في صحيفة «مكة» (5 يوليو/ تموز 2022)، الذي دعا فيه للخروج من ضيق الإقليم إلى سعة الوطن، فـ«العقل يقول إننا بحاجة إلى تقوية عُرى الوحدة الوطنية ورصّ الصفوف والانتماء للوطن الكبير وللمواطنة، وإماتة أسباب النعرات الإقليمية والجهوية والشوفينية التي بدأ الثراء يظهرها ويعلنها على ألسنة بعض الذين لا يقدرون نتائجها».

وُلد مرزوق بن تنباك الحربي في قرية «المديرا» بوادي الفرع جنوب المدينة المنورة عام 1950، وأسرته كان لها نفوذ في وادي الفرع والأشدة من بلاد المسروح، ثم انتقل مع أسرته وهو طفل إلى ذي الحليفة في وادي العقيق، ثم أكمل دراسته المتوسطة والثانوية في المدينة المنورة. ودرس على شيوخ المسجد النبوي، من بينهم: محمد الأمين الشنقيطي، وعبد القادر شيبة الحمد، وأبو بكر الجزائري.

والتحق بجامعة الملك سعود - كلية الآداب - وتخرج فيها، ثم عُيّن معيداً فيها، وابتُعث إلى بريطانيا لدراسة الدكتوراه، وحصل عليها من جامعة أدنبره في أسكوتلندا، ثم عاد إلى جامعة الملك سعود وعُيّن أستاذاً مساعداً فيها، وترقى إلى درجة أستاذ مشارك، ثم حصل على الأستاذية في الآداب.