استشراق إدوارد سعيد... سيرة ومسيرة

إدوارد سعيد
إدوارد سعيد
TT

استشراق إدوارد سعيد... سيرة ومسيرة

إدوارد سعيد
إدوارد سعيد

صدر حديثاً، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، كتابٌ بعنوان «إدوارد سعيد: الاستشراق سيرة ومسيرة» للدكتور محمد شاهين، الذي كتب:

«لم يكن إدوارد سعيد مجرد أستاذ أكاديمي تنقّل في مسيرته العلمية الطويلة بين أعرق الجامعات الأميركية، بداية من جامعة برنستون، التي حصل منها على درجة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي، مروراً بجامعة هارفرد، التي حصل منها على زمالة أكاديمية، استقرّ بعدها في جامعة كولومبيا، وتدرّج في مراتبها الأكاديمية إلى أن وصل أعلى تلك المراتب، ومنها انطلق إلى سائر بقاع العالم يحمل رسالة كونية في الفكر والسياسة؛ إذ أصبح وجوده في جامعة كولومبيا مركز إشعاع ثقافي يحمل جاذبية خاصة يؤمها مفكرو العصر من مختلف أجزاء المعمورة. شهد له القاصي والداني بفكره الفكتوري في مختلف فروع المعرفة التي استطاع أن ينفذ إلى أعماقها ويخرجها، وقد تقاطعت على يديه برؤية جعلتنا نصل إلى مغازيها التي كانت خفية علينا».

بداية، كان كتاب «الاستشراق»، الذي ظهر بالإنجليزية عام 1978، نقطة انطلاقة ما زالت تحمل تداعيات مهمة في العلاقة بين الغرب والشرق؛ إذ استطاعت أن تلمّ شمل هذه العلاقة الشائكة، والتي ما زالت كذلك. وكأن تلك العلاقة كانت قبل الكشف عنها في الاستشراق مغيبة عن أصحاب الشرق لكثرة ما بذل الغرب من جهده على إخفاء مكانتها في المنظومة الاستعمارية؛ بمعنى أن الشرق نفسه كان مغيباً عن معرفة نفسه واستشراقه من قبل الغرب؛ أي أن الشرق العربي قبل الاستشراق كان حكراً، في صورته، على أقلام المستشرقين الذين أقصوه عن حقيقة وجوده، ليس فقط بالنسبة لأهله، بل بالنسبة للعالم الذي تعامل الغرب معه، علاوة على أن كثيراً من أبناء العروبة الذين تعاملوا مع الاستشراق كانوا، أصلاً، طلاباً مطيعين لاستشراق أساتذتهم، وعلى رأسهم المستشرق المعروف برنارد لويس، الذي خلّفت هيمنة استشراقه أثراً بالغاً في عدد من طلابه؛ إذ نهجوا نهجاً موازياً. ظلت الحال هكذا إلى أن جاء إدوارد سعيد وقلب موازين المعادلة رأساً على عقب، من خلال «الاستشراق»، الذي أضحى نقطة تحوّل مهمة في سيرة ومسيرة شأن الاستشراق الكبير، والعلاقة بين الشرق العربي والغرب إلى يومنا هذا. أي أن «الاستشراق» اكتسب حقائق واقع برزت من جديد، كان لا بد من أن تظهر مع ظهور استشراق سعيد.



رؤوس ثيران برونزية من موقع مليحة في الشارقة

قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
TT

رؤوس ثيران برونزية من موقع مليحة في الشارقة

قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة

يحتفظ مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة بمجموعة من اللقى البرونزية، منها مجسمات منمنمة تمثّل رأس ثور يتميّز بأنف طويل صيغ على شكل خرطوم. تعود هذه الرؤوس في الواقع إلى أوان شعائرية جنائزية، على ما تؤكّد المواقع الأثرية التي خرجت منها، وتتبع كما يبدو تقليداً فنياً محلياً ظهرت شواهده في موقع مليحة، كما في نواح أثرية أخرى تتّصل به في شكل وثيق.

يعرض مركز مليحة للآثار نموذجين من هذه الرؤوس، وصل أحدهما بشكل كامل، فيما فقد الآخر طرفي قرنيه. يتماثل هذان الرأسان بشكل كبير، ويتبنيان في تكوينهما أسلوباً تحويرياً مبتكراً، يجسّد طرازاً خاصاً لا نجد ما يماثله في أقاليم جنوب الجزيرة العربية المتعددة، حيث حضر الثور في سائر الميادين الفنية بشكل كبير على مر العصور، وتعدّدت أنواعه وقوالبه، وشكّلت نماذج ثابتة بلغت نواحي أخرى من جزيرة العرب الشاسعة. ظهر رأس الثور بشكل مستقل، وحضر في عدد كبير من الشواهد الأثرية، منها العاجي، والحجري، والبرونزي. تعدّدت وظائف هذه الرؤوس، كما تعدّدت أحجامها، فمنها الكبير، ومنها المتوسط، ومنها الصغير. وتُظهر الأبحاث أنها تعود إلى حقبة زمنية تمتد من القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرون الميلادية الأولى.

في المقابل، يصعب تحديد تاريخ رؤوس ثيران مليحة، والأكيد أنها تعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الميلادي الأول، حسب كبار عملاء الآثار الذين واكبوا اكتشافها في تسعينات القرن الماضي. تتبنّى هذه الرؤوس قالباً جامعاً واحداً يتميّز بتكوينه المخروطي وبملامحه المحدّدة بشكل هندسي، وهي من الحجم المنمنم، ويبلغ طول كل منها نحو 5 سنتمترات. الأنف طويل، وهو أشبه بخرطوم تحدّ طرفه الناتئ فجوة دائرية فارغة. تزيّن هذا الأنف شبكة من الخطوط العمودية المستقيمة الغائرة نُقشت على القسم الأعلى منه. العينان دائريتان. تأخذ الحدقة شكل دائرة كبيرة تحوي دائرة أصغر حجماً تمثّل البؤبؤ، ويظهر في وسط هذا البؤبؤ ثقب دائري غائر. الأذنان مبسوطتان أفقياً، والقرنان مقوّسان وممدّدان عمودياً. أعلى الرأس مزيّن بشبكة من الزخارف التجريدية المحززة ترتسم حول الجبين وتمتدّ بين العينين وتبلغ حدود الأنف.

يشكّل هذا الرأس في الواقع فوهة لإناء، وتشكّل هذه الفوهة مصبّاً تخرج منه السوائل المحفوظة في هذا الإناء، والمثال الأشهر قطعة عُرضت ضمن معرض مخصّص لآثار الشارقة استضافته جامعة أتونوما في متحف مدريد الوطني للآثار خلال عام 2016. يعود هذا الإناء إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وقد وصل بشكل مهشّم، واستعاد شكله التكويني الأوّل بعد عملية ترميم طويلة ودقيقة. تتكوّن هذه القطعة الأثرية من وعاء صغير ثُبّت عند طرفه الأعلى مصبّ على شكل رأس ثور طوله 4.6 سنتمترات. عُرف هذا الطراز تحديداً في هذه الناحية من شمال شرق شبه الجزيرة العربية التي تقع في جنوب غرب قارة آسيا، وتطلّ على الشاطئ الجنوبي للخليج العربي.

عُثر على هذه الآنية إلى جانب أوان أخرى تتبع تقاليد فنية متعدّدة، في مقبرة من مقابر مليحة الأثرية التي تتبع اليوم إمارة الشارقة، كما عُثر على أوان مشابهة في مقابر أخرى تقع في المملكة الأثريّة المندثرة التي شكّلت مليحة في الماضي حاضرة من حواضرها. ظهر هذا النسق من الأواني الجنائزية في مدينة الدّور الأثرية التي تقع اليوم في إمارة أم القيوين، على مقربة من الطريق الحديث الذي يربط بين رأس الخيمة والشارقة، وهي على الأرجح مدينة عُمانا التي حضنت أهم ميناء في الخليج خلال القرن الأول الميلادي. كما ظهر في منطقة دبا التي تتبع إمارة الفجيرة، وفي مناطق أخرى تتبع في زمننا سلطنة عُمان، منها منطقة سلوت في ولاية بهلاء، في محافظة الداخلية، ومنطقة سمد في ولاية المضيبي، شمال المحافظة الشرقية.

اتّخذت فوهة هذه الأنية شكل رأس ثور في أغلب الأحيان، كما اتخذت في بعض الأحيان شكل صدر حصان. إلى جانب هذين الشكلين، ظهر السفنكس برأس آدمي وجسم بهيمي، في قطعة مصدرها منطقة سلوت. شكّلت هذه الأواني في الأصل جزءاً من آنية شعائرية طقسية، في زمن ازدهرت فيه التجارة مع عوالم الشرق الأدنى والبحر الأبيض المتوسط والهند. والمعروف أن أواني الشراب التي تنتهي بمصبات ذات أشكال حيوانية، برزت بشكل خاص في العالم الإيراني القديم، حيث شكّلت سمة مفضلة في الطقوس والولائم. افتتن اليونانيون باكراً بهذه الفنون وتأثّروا بها، كما شهد شيخ المؤرخين الإغريق، هيرودوت، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وعمدوا إلى صناعة أوان مشابهة مزجت بين تقاليدهم وتقاليد أعدائهم، كما تشهد مجموعة كبيرة من القطع الفنية الإرثية.

من ناحية أخرى، دخلت هذه التقاليد العالم الشرقي الواسع، وبلغت ساحل الخليج العربي، حيث ساهمت في ولادة تقاليد فنية جديدة حملت طابعاً محلياً خاصاً. تجلّى هذا الطابع في ميدان الفنون الجنائزية بنوع خاص، كما تظهر هذه المجموعة من الأواني التي خرجت كلها من مقابر جمعت بين تقاليد متعدّدة. استخدمت هذه الأواني في شعائر طقسية جنائزية خاصة بالتأكيد، غير أن معالم هذه الشعائر المأتمية تبقى غامضة في غياب أي نصوص كتابية خاصة بها.