عزلة الشاعر وغواية القصيدة

الشاعر اللبناني جودت فخر الدين في كتابه الأخير

عزلة الشاعر وغواية القصيدة
TT

عزلة الشاعر وغواية القصيدة

عزلة الشاعر وغواية القصيدة

يكتب الشاعرُ ليرى العالمَ متحولاً داخل عزلتهِ، يَرقبُه، أو يساكنُ وهمه الجميل شغوفاً بتلك الرؤية، وبما تُبيحه له شهوةُ التعرّف على المخفي، وعلى تحويل اللغة الى مجسٍّ سحري، له التلمّس والكشف، وشغف تمثُّل أسئلة الوجود المُستفِزة، إذ تتحول السكنى إلى مواجهة مع الغياب، والكتابة إلى هوسٍ في البوح والاعتراف، وعلى نحوٍ تحضر فيه القصيدة وكأنها العدوى التي تمسُّ التفاصيل واليوميات، تُطلق لها يقظة «العناق» لتبدو كأنها طقوس في الاستدعاء، والرؤيا، واستعارةٌ في التحريض على ذلك الاعتراف، فلا يجد الشاعر من سانحةٍ سوى أن يمارس طقوس خلوته دونما ارتياب، يكتب عن الحجرة وكأنها فضاء، وعن الجسد وكأنه يتعالى في عزلته، وفي بوحه، وفي حميميته، تستغرقه إحالات نفسية متواترة، كاشفةً عن تشكّلات تلك العزلة، وعن تمثلاتها، حتى يتلبّس الشاعر هوس استحضار الوجود والوجوه والتفاصيل الصغيرة، بوصفها وحدات تتفجّر فيها شعرية الاستدعاء، حيث استكناه الحاضر بالغائب، كما يقول الصوفيون.

في كتابه الشعري الأخير «أكثر من عزلة.. أبعد من رحلة»، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ببيروت، يذهب الشاعر جودت فخر الدين إلى التشهي بطقوس الكتابة، عبر ما يستحضر لها من شفرات الخلق / التعويض، ومن هواجسَ ينوء بها الكائن المعزول، المنفيّ في المكان، والحرُّ في اللغة، حتى تبدو تلك الطقوس الأقرب إلى ما يشبه التطهير والخلاص، حيث استعارة الاعتراف، وحيث سحرية استدعاء الغائب، واستكناه شعرية العزلة، بوصفها تمثيلاً لـ«المكان الشهي» ولشعرية الرحلة الرمزية التي تُزيح كلمة «الأكثر» بدلالتها الغالبة، إلى «البُعد» في تمثيل اللامحدد للمكان الخارجي، وهي إحالة رمزية واستعارية تقوم على إزاحة ما تحمله شفرات الواقع، إلى استعارات تتشظى في الكتابة، بوصفها ترميزات وكشوفات لسرائر المكان / المكوث، وتعبيراً عن عزلته التي تقترب من هواجس الصوفي، بدلالة «التطويع» و«الإشباع» و«السمو» و«الاستهداء».

في حجرتي هيّأتُ ما يلزمني من كلّ شيء

لم أعد في حاجةٍ للخارج

والعالم في الداخل أمسى طوع أمري

حجرتي تسمو وتسمو

في حجرتي أستخرج العالم من محنتهِ

أصنعه حرّاً على شاكلتي

أرثي لنيسان وأستهدي بهِ

أسأله كيف ستأتي بعد عام؟

تُثير قصائد هذا الكتاب الشعري أسئلة مفارقة عن العلاقة الإشكالية بين الكتابة والوجود، وعن علاقة الشاعر بالمكان والزمان، وبالرؤيا التي تُبيح اكتشاف الكائن في عزلته، وفي لحظة استشعاره بها، إذ يرهنها إلى استيهامات بهجته، وإلى جنوحه وهو يهبُ الكتابة سرّه، لتبدو كأنها احتفالٌ بالمكان المعزول، وبالوقت الذي يجعله أكثر شغفاً بالوجود، فالوقت أكثر تلك الهواجس إثارة، وحساسية في التكشّف على الأسرار، وعلى مدى قدرة الشاعر في التحوّل، وفي تقويض علاقته بالزمن اليومي، مقابل استدعاء الزمن النفسي الذي يحضر كاشفاً عن قلقه، واضطرابه، وعن علاقته بالانتظار والعزل والفقد، وربما بالموت. هذه الثنائية الفارقة هي التضاد الذي يمنح «الحدس الشعري» طاقته في تمثيل رؤية الشاعر وحدْسه، ليستدل على عالمٍ تصنعه اللغة ويخفيه الواقع، فيبدو المكشوف أكثر إثارة ودهشة، وأكثر تحريضاً على التلذذ بحرية ما تكشفه تلك اللغة، فهو يرى في «العزلة» عالماً آخر، ينزع عنه الوضوح، ليبدو غموضه تمثيلاً لشعرية الكائن في تلك العزلة، وفي طقوس الكتابة وهي تستدعي الغائب، الذي يدوّن حضوره عبر ما يخفيه المكان، وما تفضحه التفاصيل التي تتفجر عبر حساسية الشاعر، وعبر ما يجد فيه استدعاء للوجود / الامتلاء / الإشباع، عبر علامات - الأب، الابن، الحديقة، النافذة، الموقد - بوصفها إحالات رمزية لتمثيل شعرية اللغة في مواجهة سكونية الواقع.

ينحاز الشاعر فخر الدين إلى شعرنة هذا الاستدعاء، فيبدو في «قصيدته الشخصية» مسكوناً بشهوة التعرّف على تلك التفاصيل، حيث مساكنة البيت والجسد والذاكرة والأنثى، وحيث الإصغاء إلى «الأصوات» التي تتدفق منها، بوصفها جزءاً من هواجس العزلة، ومن التلذذ بما تصنعه اللغة التي لم ير العالم إلّا من خلالها، فهي أداته في جسِّ الخارج، أو في تذكره، إذ تضعه عند ضجيجه الداخلي، الضجيج الكاشف عن اصطدامه بالتفاصيل، وبما يتساقط من استعارات الغائب.

دخلت أنسام نيسان لهذا العام سهواً

لم تجد في جلستي بهواً قد اعتادت عليه.

وجدت نافذتي ضيّقةً

بل وجدتها غيّرت وجهتها

صارت ترى الداخل

تخشى أن ترى الخارج..

شعرية الوباء..

ما صنعه الوباء في الجسد والمكان، صنعته اللغة في الكتابة، فكان الشاعر أكثر استغواء باليوميات التي صنعتها عزلته، حيث استدعاء الغائب / الأب، والبعيد / الابن، وحيث استدعاء المخفيّ من سيرة الشاعر، وهذا ما أعطى فاعلية الاستعارة شغفها في اصطناع بنية التعويض، عبر الاحتفاء بالمكان، والزمن الداخلي، والجسد، وعبر تقويض الوظيفة الاتصالية للغة إلى وظائف شعرية، تصنع لها وجوداً موازياً، يجد استنفاره في يقظة الاستعارات بصفتها موازية ليقظة الجسد، ويقظة المكان، فتحضر «شعرية الغياب» بوصفها نظيراً مشاكساً لشعرية الحضور. وبقدر ما تخلو قصيدته من المبالغة والتفخيم، فإنه يجعل من كتابة البساطة، وكأنها كتابة فيما يشبه السيرة أو «كتابة اليوميات»، إذ تكتنز بسيميائية فارقة، وبإحالات صورية تتسع مع شغف التماهي مع الوجود الذي تصنعه اللغة، عبر استعارة طقوس الاحتفاء بالطبيعة وأنسنة رموزها، بوصفها مجالاً إشباعياً لتمثيل العزلة وشعريتها.

في قصائد هذا الكتاب الشعري تبدو اللعبة الشعرية مفتوحة على مواجهة «العزل الواقعي» بـ«الامتلاء الشعري»، فتحضر الاستعارات وكأنها مقابل رمزي للطقوس والهواجس، التي تجعل الشاعر مُستغرقاً في لحظة بصرية، يتقدم في عالمه / غرفته، وكأنه يتقدم إلى الوجود، يصنع لها احتفاءات وطقوساً للجسد في عزلته، مثلما تقوده إلى كشوفات تتعدّى المكان اليومي - المكتبة، الطاولة، الزوايا - إلى المكان الوطني؛ حيث بيروت في عزلتها وحزنها، وبذاكرة الغياب التي تذبحها.

لم أثق بالضفاف ولا بالغياب

ولم أستجب لعويل الرياح

تجوب البحار وتمسح وجه الفلاة

وحاذرتُ أن أتشتَّت بين البروق التي

تخلب الطرف تعبث فتنتها بالجهات

شعرية الوباء هي المعادل الرمزي لشعرية الاختباء، حيث تنجرّ الذات إلى ممارسة طقوسها الشخصية، وكأنها محاولة في الوقوف عند حافة الوقت، حذِرة من الخارج الذي يلوّح بالقلق والموت، وباحثة عن داخل لا يضيق بـ«فتنة الجهات»، وبجودٍ يستحضر العالم عبر استعارات لا تنفصل عن تجربته وخبرته الشعرية، فتبدو حاضرة، شغوفة بما يتجاوز «العزلة» إلى حميمية الاعتراف، وإلى تمثيل طقوس الكتابة، ومقاربة شعرية اليومي الذي يقاوم الفناء الوجودي، فتبدو ثنائيات الموت والحياة، والغياب والحضور، والجسد والطبيعة، والتاريخي والشخصي، وكأنها هي جوهر لعبته الشعرية، القائمة على أنسنة مكان الاختباء / الاحتجاب، وعبر فضح تحولاته، والكشف عن استعاراته ومفارقاته.

سار أنقى وأوسع

عاد له وجهه

بعدما كان محتجباً في الزحام

غدا خالياً

صار منطلقاً يتنزّه

يختار بين اتجاهين

يحلو له واحد

ما يحلو له عكسه

في قصيدة «خوف» تحضر فكرة «الغائب» بوصفها حدساً بمواجهة الموت، حيث تحضر طقوس السحر للتطهّر، وحيث تحضر اللغة عبر التعاويذ والرقى للإيهام بالبحث عن «الاطمئنان» الذي يستدعي شفرات تلك المواجهة، التي تعني في جوهرها مواجهة للقلق اليومي الذي يعيشه الشاعر، بوصفها قلقاً وجودياً وإنسانياً، فما تصنعه العزلة من خوف، تستدعيه اللغة بوصفها استعارة كبرى لاستدعاء الغائب رمزاً للوجود، فتجعل الشاعر في لحظة استفزاز، واستنفار، يتهجس، يرى، يحدس، يكشف، ينشدُ وجوده عبر ما تصنعه اللغة من استعارات، وكشوفات وطقوسٍ هي النظير لطقوس الخلاص / النافية لفكرة الموت الذي تصنعه سرديات «الحرب أو الحب».

وحده الخوف

سرٌّ لكلِّ غياب

يصنعُ الحبَّ والحرب

يصنعُ بينهما كلَّ فكرٍ

وكلَّ ابتكارٍ وكلَّ جنون.



لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم
TT

لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم

في مقالةٍ نُشرت الأسبوع الماضي، كتب الزميل ميرزا الخويلدي عمّا سمّاها «ظاهرة» أسامة المسلّم الأديب النجم، غير المسبوق أدبياً بشهرته محلياً وعربياً؛ القادر على جذب حشود من المعجبين والمعجبات، ممن قرأوا له وممن لم يقرأوا بعد، إلى معارض الكتب التي يوجد فيها.

بدون أدنى شك، يجسّد المسلم ظاهرة الروائي النجم. ومحاولة التقليل من شأن نجوميته والاستهزاء بها ضرب من العبث، والساخر منها والمستهزئ بها «كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل». المسلم جاء، أو ظهر، ليبقى، والنظر إلى تجربته ومنجزه الإبداعي باستعلاء ونفور لن يكون له أي تأثير في الواقع وعليه. وسيستمر الإقبال على مؤلفاته، والتزاحم حوله إلى حد إغماء البعض، أو التسبب في إلغاء فعاليات توقيع رواياته - حقيقةٌ تؤكد حقيقةً أخرى: تداعي أو انهيار صروح الوصاية على الإبداع الأدبي، وتقلص سلطة من يُنَصِّبُون أنفسهم أوصياء وحكام ذوق، يحلمون، رغم تغير الظروف والأحوال، في الاستمرار في توزيع صكوك الاعتراف والتزكية ممهورة بإمضاءاتهم.

جي كي رولنغ

«المُسَلَّمُون» قادمون

وسيأتي «مُسَلَّمُون» (من مُسَلّم) آخرون، مُقَلِّدُون ومتأثرون به، يحاكون أسلوبه في الكتابة، وفي ترويج كتبهم وذواتهم؛ وآخرون تغريهم جوائز «القلم الذهبي» بالمال وبأضواء الشهرة، وبوصول أعمالهم السردية أفلاماً إلى صالات السينما. وسنشهد، محلياً على نحو خاص، ظاهرة الإقبال على كتابة القص الشعبي (popular fiction): الفانتازيا والرعب والإثارة والتشويق والجريمة والرومانس، أو ما يسمى «الأدب الأكثر تأثيراً». وسيوازي ذلك الانتشارُ الفطري - المشرومي لدورات وورش كتابة «الأدب الأكثر تأثيراً». وليس على «المشهد الثقافي» سوى تحمل الظاهرة بإيجابياتها وسلبياتها، حتى وإن كان يوجد من يرفض وجودها. «المُسَلَّمُون» قادمون، فعلى الرحب والسعة، ففي المشهد متسع للجميع. ستجد مؤلفاتهم من يقرأها، ومن يمتنع، وله الحرية والحق في ذلك. لكن ثمة حقيقة أنه لا أحد يملك، أو له الحق في امتلاك، مفاتيح بوابات المشهد الثقافي، يفتحها أمام من يحب، ويقفلها في وجوه من لا يستطيع معهم صبراً.

ستيفن كنغ

البناء الذاتي للشهرة

حقيقة أخرى ذكرها الزميل الخويلدي في مقالته، وهي أن المسلم صنع شهرته بنفسه دون أي نوع من أنواع الدعم والرعاية من المؤسسات الثقافية بنوعيها الرسمي والأهلي. كما لم يكن للنقاد والصحافة فضل عليه، أو إسهام في صنع نجوميته. أضيف إلى ما ذكره الخويلدي، الحقيقة الأخرى: رفض 20 ناشراً لروايته «خوف»، ما اضطره إلى بيع سيارته لينشرها على حسابه.

أعتقد أن رفض نشر روايته علامةٌ على أنه كائن محظوظ، جعله الرفض ينضم بدون اختيار وقرار منه لقائمة الذين رُفِضتْ مؤلفاتهم وانتهى بهم المطاف كُتّاباً وأدباء مشهورين. يبدو أنه ما من شخص تعرضت كتاباته للرفض، إلا وأصبح مشهوراً، يضاف اسمه لقائمة الأسماء التالية على سبيل المثال لا الحصر: إرنست هيمنغوي، ف. سكوت فيتزجيرالد، سيلفيا بلاث، مايا أنجيلو، باربرا كنغسولفر. ومن كُتّاب القص الشعبي: أغاثا كريستي، ج. ك. رولينغ، ستيفن كينغ. سأسقط بعض الضوء على تجربتي ج. ك. رولينغ، وستيفن كينغ مع النشر.

رفض «هاري بوتر» و«كاري»

رفضت 12 دار نشر مخطوطةَ رواية رولينغ «هاري بوتر»، ليس هذا فحسب، بل حذرها أحد الوكلاء الأدبيين بأنها لن تحقق ثروة بتأليفها كتباً للأطفال. ربما شعر، أو لا يزال يشعر، ذلك الوكيل بوخزات الندم على تحذيره رولينغ، وهو يراها الآن تشغل المركز الأول في قائمة أكثر الكاتبات والكُتّاب ثراءً بثروة تقدر بمليار دولار. تحقق لها الثراء من كتاباتها للأطفال، وللكبار، خصوصاً الذين لم تنطفئ دهشة الطفولة فيهم.

أما كينغ، فقد رُفِضَتْ مخطوطةُ روايته «كاري» من قبل 30 ناشراً. وقد أوضح أحد الناشرين في خطاب الرفض إليه أنهم لا يهتمون بروايات الخيال العلمي التي تصور يوتوبيات سلبية (ربما يقصد ديستوبيات) لأنها «لا تبيع»، أي لا تحقق أرقام مبيعات مرتفعة. لكن «كاري» نُشِرَت أخيراً في 1974. ولما أُطْلِقَتْ نسخةُ الغلاف الورقي بعد عام من نشرها، 1975، بِيْعَ منها ما يزيد على مليون نسخة خلال 12 شهراً. والآن كينغ واحد من الكُتّاب الأثرياء، بثروة تقدر بــ500 مليون دولار.

مثلهما واجه المسلم رفض الناشرين. وستصبح سيرته الأدبية أقوى شبهاً بسيرتيهما، خصوصاً سيرة كاتبه المفضل كينغ، عندما تعرض الترجمات السينمائية لرواياته على الشاشتين الكبيرة والصغيرة في القريب العاجل كما يُفهم من كلامه عن ذلك.

تيري وودز وفيكي سترينغر

وللروائتين الأميركيتين تيري وودز وفيكي سترينغر، أعود من كتابة سابقة. فلوودز وسترينغر قصتان طويلتان مع الرفض المتكرر من الناشرين، ولكنهما وضعتا لهما نهايتين مختلفتين عن نهاية قصص الكاتبات والكُتّاب المذكورين أعلاه. يتجلى في قصتيهما الصبر والإصرار على تحقيق الهدف. كان النشر الذاتي نهاية قصة كل منهما، لينتهي بدوره بتأسيس كل منهما دار نشر، شقت الطريق أمامها إلى الثراء.

في المتبقي من وقتها الموزع بين واجبات الأمومة وعملها سكرتيرة في شركة قانونية، فتحت تيري وودز من فيلادلفيا، التي ستصبح فيما بعد رائدة القص المديني - قص المدينة، أو أدب الشارع، أو أدب العصابات، فتحت لنفسها باباً تدلف من خلاله إلى عالم الكتابة، لتشرع في تأليف روايتها الأولى «True to the Game». وبعد فراغها من الكتابة، راحت تطرق أبواب الناشرين. وعلى مدى 6 سنوات، من 1992 إلى 1998، كانت تتلقى الرفض تلو الآخر. ولمّا نفد صبرها، قررت طباعة وتغليف روايتها بنفسها وبيعها مباشرةً لباعة الكتب وللناس في الشوارع. كانت تطوف بالمدن. تنام في سيارتها في مواقف السيارات، وعلى الأريكات في بيوت معارفها، وتقضي ساعات في شوارع نيويورك. ثم انتقلت الى الخطوة التالية: تأسيس دار للنشر. بعد مضي ثلاث سنوات، أصبحت وودز الكاتبةَ المليونيرة. وكان عام 2007 عام خير عليها، وقَّعَت خلاله صفقةَ خمس كتب مع «غراند سنترال بَبلِشينغ»، وظهر الجزء الثاني من روايتها «True to the Game II» على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لصحيفة «نيويورك تايمز»، وفي العام التالي (2008)، كان الجزء الثالث على قائمة «نيويورك تايمز» أيضاً.

أما فيكي سترينغر، فقد أتاحت لها الكتابة مفراً من ضيق الزنزانة إلى رحابة العالم المتخيل في روايتها «Let That Be the Reason»، التي كتبتها في السجن. غادرت فيكي سترينغر ولاية ميشيغان إلى مدينة كولومبس للدراسة في جامعة ولاية أوهايو. وهناك التقت بمن أصبح صديقاً لها. وكان يتعاطى ويروج المخدرات، فاستدرجها إلى الانزلاق إلى هاوية المخدرات وتعاطيها وترويجها، حيث توجّت بلقب «ملكة الكوكايين في كولومبوس». وحين ألقي القبض عليها كان في حوزتها كمية كبيرة من المخدرات ومئات آلاف الدولارات.

في السجن وبعد الخروج منه، كانت الكتابة «خيط أريادني» الذي اهتدت به للخروج من متاهة التعثرات والتيه في الماضي. فعلى الفور، راحت تبحث عمن ينشر مخطوطة روايتها الأولى، لتُمَنى برفضها 26 مرة، ما اضطرها إلى نشرها ذاتياً، وتأسيس دارها للنشر. وتوالى نشر الأجزاء الأخرى من الرواية، ورواياتها الأخرى. أطلقت مجلة «بَبليشرز ويكلي» على سترينغر لقب «ملكة أدب المدينة الحاكمة». وفي 2005، شهدت طوكيو، نشر ترجمات رواياتها إلى اليابانية.

إغراء الناس بدخول المكتبات

تقول الكاتبة آن بارنارد في مقالتها «من الشوارع إلى المكتبات»، المنشورة في «نيويورك تايمز» (23-10-2008)، إن المكتبات في «كوينز»، ونظام المكتبات المنتشرة في البلاد، إلى مقاطعة يورك في بنسلفانيا، تحرص على اقتناء روايات (القص المديني - أدب الشارع - أدب العصابات) كطريقة مثيرة، وإن تكن خِلافيَّةً أحياناً، لجذب أشخاص جدد إلى قاعات القراءة، ولنشر محو الأمية والتفكير واستكشاف ميول واهتمامات الجمهور الذي يخدمونه.

جوهرياً، لا يختلف ما تقوله بارنارد عن روايات وودز وسترينغر وغيرهما من كُتّاب أدب الشارع، عمّا يقال عن روايات المسلم، وجذبها آلاف من الشباب إلى الكتاب والقراءة، وإلى معارض الكتب، وإثارتها الاختلاف والجدل، والانقسام ما بين مادحٍ وقادح.

لكن رغم التشابه بين تجارب وودز وسترينغر والمسلم، يتميز الأخير بأن في وطنه جائزة (جائزة القلم الذهبي) خصصت ستةُ من مساراتها الثمانية للقص الشعبي. قد لا يفوز في الدورة الأولى، ولا في الثانية، ولا الثالثة، ولا الرابعة. وقد لا يفوز بها أبداً. لكنه سيظل الكاتب مثير الجدل، وجاذب الحشود لمعارض الكتب.

ترُى هل سيعزز المسلم التشابه بينه والروائيتين الأميركيتين من ناحية رفض الناشرين في البدايات وجاذبية أعمالهم السردية بتأسيس دار لنشر القص الشعبي، أو هل أقول «الأدب الأكثر تأثيراً»، إذا كان بالإمكان اكتشاف مدى قدرة كتاب على التأثير قبل النشر، وبعده بدون أجهزة وآليات رصد خاصة ومعايير؟

ناقد وكاتب سعودي