«أدب السجون»... قصائد مهرّبة وسرد مثقل بالشوق للحرية

شعراء وكتاب عرب يتحدثون لـ «الشرق الأوسط» عن معايشتهم للتجربة والكتابة عنها

«أدب السجون»... قصائد مهرّبة وسرد مثقل بالشوق للحرية
TT

«أدب السجون»... قصائد مهرّبة وسرد مثقل بالشوق للحرية

«أدب السجون»... قصائد مهرّبة وسرد مثقل بالشوق للحرية

أعاد فوز الكاتب الفلسطيني باسم الخندقي الذي يقضي سجناً بالمؤبد مدى الحياة في السجون الإسرائيلية بجائزة البوكر العربية عن روايته «قناع بلون السماء» ما يعرف بـ«أدب السجون» إلى الواجهة، وهو الأدب الذي رافق نشأة السجن نفسه وارتبط به على مر العصور. فكيف إذن يتحرر الخيال ليسطر إبداعاً ملهماً من وراء القضبان وليل الزنزانة الطويل، وإلى أي مدى يعكس هذا اللون الأدبي الضارب في عمق التاريخ شكلاً من أشكال المقاومة لفكرة الحرمان والشوق العارم للحرية والعدالة، علماً بأنه لا يقتصر على من عانى ويلات السجن مباشرة، فقد يستعين المبدع بالوثائق والشهادات الحية ليصبح «التخييل» بديلاً عن «التوثيق الذاتي»، كما في رواية «تلك العتمة الباهرة» للكاتب المغربي طاهر بن جلون، وغيرها.

في هذا التحقيق يتحدث شعراء وكتاب عرب لـ«الشرق الأوسط» عن معايشتهم لتجربة السجن، وكيف حولوها إلى إبداع راقٍ معجون بشوق عارم للحرية.

تعد حقبة الستينات في التاريخ العربي من أقوى الحقب التي برزت فيها ظاهرة «أدب السجون»، بخاصة في الشعر والكتابة السردية، فقد شهد الشعر الفلسطيني بعضاً من تجلياتها هذه الظاهرة في قصائد شعراء ألقى بهم الاحتلال وراء القبضان. منهم الشاعر حنا أبو حنا، الذي كتب من معتقله في «سجن الرملة» عام 1958، مجموعة من القصائد يقول في واحدة منها:

«خسئوا، فما حبسوا نشيدي بل ألهبوا نار القصيدِ - نار تأجج، لا تكبّل بالسلاسل والقيودِ - نار، جحيم للطغاة وزمرة العسف المريدِ - شرف لشعري أن يقض مضاجع الخصم اللدودِ - فأعجب لشعر يستثير الرعب في مهج الحديدِ - أقوى من السجن المزنر بالعساكر والسدودِ».

وفي مصر زج الكثير من الأدباء والمثقفين في السجون بتهمة الانتماء إلى التنظيمات الشيوعية. ويروي الكاتب والمؤرخ الراحل صلاح عيسى واقعة ذات دلالة في هذا السياق قائلاً: «يوم 4 أكتوبر (تشرين الأول) 1966 جرى اعتقال الجميع، وكان أغلبهم من المثقفين والمبدعين، أخذونا إلى سجن القلعة، حيث تعرضنا لعمليات من التعذيب والتنكيل لانتزاع الاعترافات منا، وقضينا نحو 35 يوماً في زنازين انفرادية لا يعرف أي منا ما يجرى لبقية المعتقلين». ومن وحي تلك الفترة البسيطة، استلهم الشاعر عبد الرحمن الأبنودي قصيدته الشهيرة «أحزان عادية» التي يقول فيها: «وتذكرت سنة ما اتبنت القلعة - وكنت أنا أول مسجون - وكان الضابط ده أول سجان - يوم ما ركلني نفس الركلة - يوم ما صفعني نفس الصفعة - نفس طريقة الركل - وآخر الليل جانى بدم صحابي في الأكل».

ويلهم نفس السجن الشاعر أحمد فؤاد نجم قصيدة مهمة يقول مطلعها: «أنا رحت القلعة وشفت ياسين - نحوه العسكر والزنازين - والشوم والبوم وكلاب الروم - يا خسارة يا أزهار البساتين - عيطي يا بهية على القوانين».

ويعد صنع الله إبراهيم واحداً من أصحاب التجارب الأدبية البارزة التي استندت في أحد مصادرها إلى تجربة السجن، وهو ما تجلى في العديد من أعماله مثل المجموعة القصصية «تلك الرائحة» ورواية «شرف» ونصوص «يوميات الواحات»، التي استند فيها إلى ذكريات اعتقاله منذ أواخر الخمسينات بتهمة الانتماء إلى حزب شيوعي ضمن حملة موسعة شملت أسماء بارزة في الثقافة مثل يوسف إدريس ومحمود أمين العالم ولويس عوض وشهدي عطية وعبد الحكيم قاسم وسامي خشبة. يقول صنع الله في «يوميات الواحات»: «أمرونا نحن الأربعة أن نجلس القرفصاء في جانب ونضع رؤوسنا في الأرض، ففعلنا، ثم أمرونا أن نرفع رؤوسنا بحيث نرى ما يجري لزملائنا، وتتابعوا أمامنا يُجرّدون من ملابسهم وهم يُضربون ويترنحون عرايا وهم يلهثون ويُغمى عليهم فيُغمسون في مياه ترعة صغيرة ويُداسون بالأقدام».

الشاعر زين العابدين فؤاد تعرض لتجربة الاعتقال السياسي أكثر من مرة في حقبة السبعينات، ومن وحي ما عاشه وراء القضبان أخرج واحدة من أشهر القصائد السياسية بالعامية المصرية، وهي قصيدة «مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر» والتي غناها الملحن والمطرب إمام عيسى (1918 – 1995) الذي اشتهر بغنائه السياسي، لا سيما في حقبتي الستينات والسبعينات، وعُرفت على نطاق واسع باسم «واتجمعوا العشاق». يقول مطلع القصيدة: يتجمعوا العشاق في سجن القلعة - يتجمعوا العشاق في باب الخلق - والشمس غنوة م الزنازن طالعة - ومصر غنوة مفرعة م الحلق. وتطرح القصيدة صوراً مدهشة للوطن كما في قول الشاعر: «مصر النهار يطلقنا في الميادين - مصر البكا مصر الغنا والطين - مصر الشموس الهالة م الزنازين - هالة وطارحة من دمنا بساتين».

يوضح زين العابدين فؤاد في حديثه إلى «الشرق الأوسط» أن القصيدة كتبت أثناء اعتقاله في «سجن القلعة»، لكنه لم يستطع تهريبها إلى الخارج إلا حين انتقل إلى «سجن الاستئناف»، حيث تحولت القصيدة إلى نواة ديوان صدر في بيروت بعنوان «حلم السجن»، ثم أعيد طبع الديوان في القاهرة لاحقاً ليصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعنوان «مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر». ويشير إلى أن تلك القصيدة الشهيرة لم تكن الأولى التي غناها له «الشيخ إمام»، فهناك قصيدة أخرى بعنوان «يا شمس» كُتبت داخل الزنزانة عام 1972 وغناها أيضاً مطربون عديدون في فترات لاحقة مثل أحمد إسماعيل وغيره. ويوضح أن تجربته في السجن كأديب ومثقف لم تكن تخلو من المفارقات، فعلى سبيل المثال، تم إلقاء القبض عليه بتهمة «التحريض» على المظاهرات التي عرفت باسم «انتفاضة الخبز» في 18 و19 يناير (كانون الثاني) 1977. ورغم أن المظاهرات شهدت مشاركة الملايين بحسب التقديرات الرسمية، فإن التحريض عليها بحسب الاتهام الرسمي تم من أربعة أشخاص هم الشاعر أحمد فؤاد نجم والصحافيين صلاح عيسى وحسين عبد الرازق إلى جانب زين العابدين الذي واجه طوال الوقت تهمة فضفاضة تقول نصاً «دأب على كتابة قصائد مناهضة لنظام الحكم».

واعتقل الشاعر والروائي المغربي صلاح الوديع في الحقبة الزمنية نفسها، وتحديداً في عام 1974 بتهمة الانتماء إلى إحدى فصائل «اليسار الجديد»، حيث صدر ضده حكم بالسجن 20 عاماً لكن أفرج عنه بعد مرور 10 سنوات فقط. وكان «الوديع» يهرب قصائده إلى الخارج ليتم نشرها وتلقى رواجاً ثم يجمعها لاحقاً في ديوان بعنوان «جراح الصدر العاري» عام 1985. ومن ضمن قصائد الديوان قصيدة بعنوان «باهظ انتماؤك للمدى» يقول الشاعر فيها: «أعود بالآمالِ من حلم يُجْنَد - له الوتدْ - كبَّدتني قلبي - أبنوك أم أنتَ الذي - كبدتني أملي - فديتُكَ يا بلدْ - كبدتني أملي وأحلامي - وألياف الجلدْ - ماذا أقول وما تبقى ما بقاءك - يا جسدْ».

يقول صلاح الوديع لـ«الشرق الأوسط» إن «شغفاً بكتابات السجون تجلى في المغرب منذ نهاية الثمانينات وطوال التسعينات وظهر في عدد من المؤلفات مثل (منازل وقضبان)، الذي صدر عام 1988 ويضم الرسائل المتبادلة بيني وبين شقيقي وتحمست المرحومة والدتي لجمعها في كتاب وكذلك كتاب (كان وأخواتها) للكاتب والناقد عبد القادر الشاوي، وكتاب (الغرفة السوداء)، وهو سيرة ذاتية للكاتب جواد مديدش، كما اهتمت الصحافة آنذاك بمحاورة أصحاب هذه التجارب ولم يعد الأمر يحمل محاذير كما في السابق».

يضيف الوديع أنه مع انتشار موجة أدب السجون على هذا النحو بالمغرب، لاحظ أنها كتابات تستعيد لحظات الألم بقوة وعلى نحو يكاد يكون مباشراً فأراد أن يصنع شيئاً مختلفاً، واهتدى إلى إعادة كتابة تجربته في السجن بشكل ساخر كما ظهر في روايته «العريس»، التي تتطرق لوقائع التعذيب والإهانة والاختفاء القسري وانتهاك حقوق الإنسان ولكن من خلال سرد المأساة بحس فكاهي.

في سبتمبر (أيلول) 1981. جرت بمصر حملة اعتقالات شهيرة على خلفية معارضة معظم المثقفين للصلح مع إسرائيل، وطالت الحملة العديد من الأسماء البارزة، منهم أصوات نسائية معروفة في الأدب والإبداع والتخصصات الأكاديمية مثل نوال السعداوي وصافيناز كاظم ولطيفة الزيات وأمينة رشيد وعواطف عبد الرحمن. وصدر لنوال السعداوي في هذا السياق كتابها الشهير «مذكراتي في سجن النساء» والذي تقول فيه: «لا يموت الإنسان في السجن من الجوع أو من الحر أو البرد أو الضرب أو الأمراض أو الحشرات، لكنه قد يموت من الانتظار، الانتظار يُحوِّل الزمن إلى اللا زمن، والشيء إلى اللا شيء، والمعنى إلى اللا معنى».

ومؤخراً صدر للأكاديمية البارزة د. عواطف عبد الرحمن كتاب «أوراق من سجن النساء» عن دار «العربي» بالقاهرة والذي ترصد فيه مذكراتها حول التجربة نفسها. وتشير د. عواطف إلى مفارقة بارزة تتمثل في أنها سمعت بورود اسمها ضمن قائمة المطلوب حبسهم ضمن «اعتقالات سبتمبر» وهي في المجر تزور الكاتبة رضوى عاشور والشاعر مريد البرغوثي قادمة من ألمانيا التي جاءتها للمشاركة في مؤتمر «برلين الشرقية» للأمم المتحدة حول «نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا».

وتروى عواطف عبد الرحمن ملابسات عودتها إلى مصر كيف كانت صدمة اللحظات الأولى في السجن. تقول: «عندما وصلت إلى سجن النساء في القناطر وجدت بوابة كبيرة وبها باب صغير، دخلت من الباب الصغير ورأيت السجانات اللاتي نشاهدهن في السينما يعلقن المفاتيح في الحزام الجلد، شكلهن مخيف جداً وغير مريح. وفجأة صفقت السجانات وقلن: (إندهوا الست زينب سجانة السياسيات... تعالي تسلمي فيه إيراد جديد)، فاستغربت جداً كيف يتحول الإنسان في لحظة إلى شيء، خصوصاً أني قادمة من مؤتمر دولي أطالب فيه بحقوق الشعوب. كيف أتحول في نظرهم إلى (إيراد)... إيراد يعني إيه؟ يعني تخفيض قيمتي إلى أن أصبح مجرد شيء».

وينتمي كتاب «رسائل سجين سياسي إلى حبيبته» الصادر مؤخراً عن الناشر نفسه بالقاهرة للكاتب مصطفى طيبة إلى «أدب الرسائل»، حيث اختار المؤلف قالب الخطابات، بما فيه من حميمية وبساطة وبعد عن الآيديولوجيات الكبرى، التي يبعث بها لمحبوبته ويحكي فيها مشاهد مختلفة من تجربته العريضة وراء القضبان عبر عقود عدة شملت الأربعينات والخمسينات والستينات بتهمة الانتماء إلى تنظيم شيوعي.

يكشف المؤلف في واحدة من تلك الرسائل عن تجربة «الإضراب عن الطعام» بهدف الضغط على إدارة السجن لتحسين المعيشة وجلب المزيد من الحقوق للسجناء. يقول: «أصعب الأوقات التي يواجهها المضرب عن الطعام هي الأيام الثلاثة الأولى، بعدها تكون المعدة قد تعودت على عدم استقبال الطعام ثم يبدأ التعب في هد الجسم وعادة ما يتعجل المضربون عن الطعام حضور النيابة للتحقيق في مطالبهم. ومن المفروض أن تأتي في موعد لا يزيد على 48 ساعة منذ بداية الإضراب، ومع أن مأمور السجن أرسل التحقيق الإداري إلى المسؤولين في مصلحة السجون التي عليها أن ترسل في طلب النيابة، فقد مضى اليوم العاشر ولم تأتِ، والعدول عن الإضراب قبل أن تأتي النيابة هزيمة لنا. في اليوم الثالث عشر ساءت صحة زميلين إلى حالة خطيرة، ومع ذلك لم ينقلا إلى المستشفى إلا في اليوم السابع عشر بعد أن أعلن الطبيب عدم مسؤوليته عما يحدث لهما إذا لم يعدلا عن الإضراب وتناول العلاج الضروري. وكان الطبيب أكد على أهمية نقلهما إلى المستشفى بعد اليوم الثالث عشر، إلا أن إدارة السجن امتنعت عن تنفيذ توصية الطبيب هرباً من أي دليل يثبت أننا أضربنا عن الطعام، وبالتالي امتنع هو الآخر عن الحضور إليهما في الزنزانة».

ويشير الناقد والأكاديمي اليمني د. فارس البيل إلى أن ظاهرة «أدب السجون» تراجعت في العقود الأخيرة بسبب اتساع وسائل التعبير وتعدد أشكال التدوين والتوثيق، فضلاً عن خفوت اعتقال الأدباء والمبدعين لأسباب آيديولوجية بحتة بنفس الغزارة التي شهدتها حقب زمنية ماضية من التاريخ العربي، لا سيما في حقبتي الستينات والسبعينات. ورغم أن أسباب وأشكال مضايقات الأدباء لم تنته وما زالت تتردد هنا أو هناك بشكل أو بآخر، فإن العصر الذهبي لكتابات ما وراء الجدران يبدو أنه قد ولى، ولم يعد أمامنا سوى التصدي بالدرس النقدي واستخلاص العبر والسمات والملامح لهذا التراث الضخم في تجلياته المختلفة عربياً وعالمياً.

ويرى البيل أن هذا اللون من الأدب نشأ نتيجة احتياجات تعبيرية ضاغطة وملحة تتعلق بالتجارب شديدة القسوة والمرارة التي تعرض لها الأدباء بكثافة في حقب زمنية سابقة، مشيراً إلى غلبة الطابع السوداوي وهيمنة الأجواء الكابوسية على معظم الإنتاج السردي العربي تحت هذه اللافتة.

ولا يميل الناقد اليمني إلى تصنيف رواية «قناع بلون السماء» للروائي الفلسطيني باسم خندقي ضمن أدب السجون، مشيراً إلى أنها تناقش الحالة الفلسطينية في فضائها المفتوح، ولا تركز على عالم السجن، برغم أن المؤلف محكوم عليه بالسجن مدى الحياة.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.