إلياس كانيتي يقدّم مراجعة روحية لمراحل عصفت بحياته

إلياس كانيتي
إلياس كانيتي
TT

إلياس كانيتي يقدّم مراجعة روحية لمراحل عصفت بحياته

إلياس كانيتي
إلياس كانيتي

صدر حديثاً عن «منشورات رامينا» في لندن كتاب «ضمير الكلام» للروائيّ والكاتب الألمانيّ إلياس كانيتي، بترجمة كاميران حوج، من الألمانية.

يُعدُّ إلياس كانيتي، الحائز على جائزة «نوبل» في الآداب سنة 1981، من بين الأصوات المؤثرة في الأدب العالمي، حيث ارتبطت أعماله بالتأمل العميق والتفكير النقديّ الدقيق. ويتميز بقدرته المدهشة على الكشف عن عوالم مختلفة تعكس تجاربه الشخصية والثقافية. تُعدُّ مقالات إلياس كانيتي مصدراً للإلهام، حيث يتناول فيها قضايا حيوية بعمق فلسفي يعكس تفكيره النقدي رؤيته الفنية. وتترجم التفكير الحرّ الذي يشتهر به كانيتي.

يقول الكاتب في استهلاله للكتاب بأنّه «ترد في هذا الكتاب سلسلة مقالاتي بين أعوام 1962 - 1974. للوهلة الأولى قد يبدو غريباً بعض الشيء أن ترد في كتابٍ واحدٍ شخصيّاتٌ على غرار كافكا، كونفوشيوس، بوشنر، تولستوي، كارل كراوس، وهتلر، وكوارث رهيبة كهيروشيما والتأمّلات في كتابة اليوميّات أو كيف ترى روايةٌ النورَ». وينوّه إلى أنّ مسعاه كان هذا التجاور حصراً، فهذه الظواهر جميعاً متنافرةٌ فقط في ظاهرها. لم يعد في الإمكان فصل العامّ عن الخاصّ، فهما متداخلان بشكل لم يسبق له مثيلٌ قبلاً، فبسرعةٍ اكتسب أعداء الإنسانية سلطةً رهيبةً، دنوا من هدفهم النهائيّ في تدمير الأرض، فاستحال غضّ الطرف عنهم والاكتفاء باللجوء إلى المثل الروحيّة التي ما زالت تمثّل لنا قيمةً ما. لقد غدت هذه أندر. كثيرٌ من الذين كانوا قد يوفون زمناً سالفاً حقّه، ما عادوا يحملون في جنباتهم الكفاية، ما عادوا يحوون ما يكفي ليستطيعوا خدمتنا به. ولهذا تتفاقم أهميّة الحديث عن الذين تحدّوا قرننا المتوحّش هذا».

ويلفت كانيتي إلى أنّ المقالات تحلّل أحداثاً ومحتوياتٍ سالفةً وعندما قرأتها منضّدةً في تسلسلها الوارد في الكتاب، بدت له مراجعةً للمراحل الروحيّة التي عصفت بحياته. ويحتوي الكتاب عدّة مقالات مطوّلة للكاتب، منها: هرمان بروخ، السلطة والنجاة، كارل كراوس، حوارٌ مع شريكٍ فظيعٍ، الواقعيّة والواقع الجديد، المحاكمة الأخرى - رسائل كافكا إلى فيليتسه، نوبات الكلمات، هتلر في مذكّرات شبير، كونفوشيوس في حواراته، تولستوي السلف الأخير، يوميّات الدكتور هاشيا عن هيروشيما، غيورغ بوشنر، الكتاب الأوّل، كارل كراوس الجديد، مهنة الشاعر.

إلياس كانيتي: ولد عام 1905 في مدينة روتشيك البلغاريّة وقضى طفولته في أحضان أسرةٍ تتكلّم لغة يهود إسبانيا القديمة (لاديو)، انتقلت عام 1911 إلى مانشستر، حيث تُوفّي والده فجأةً، فانتقل مع أمّه عام 1913 إلى فيينّا، وفيها بدأ تعلّم الألمانيّة. تنقّل في شبابه بين زيوريخ وبرلين وفيينّا وفيها أنهى دراسة الكيمياء بدرجة الدكتوراه. هاجر 1938 إلى باريس ومن ثمّ إلى لندن وأجرى فيها دراساتٍ إنتروبولوجيّةً واجتماعيّةً تاريخيّةً حول موضوعه الأثير «الحشد والسلطة». سافر 1954 في رحلةٍ إلى مراكش ودوّن ذكرياته في كتابه «أصوات مراكش».

حاز كانيتي أوّل جائزة أدبيّة عام 1949، جائزة النادي الفرنسيّ للكتّاب، ثمّ توالت عليه الجوائز الأدبيّة، منها جائزة النقّاد الألمان للأدب 1966، جائزة الدولة النمساويّة 1968، جائزة الأدب لأكاديميّة بافاريا للفنون الجميلة 1969، جائزة جورج بوشنر 1972، دكتوراه فخريّة 1975 و1976، جائزة نوبل للأدب 1981، وجائزة فرانتس كافكا للأدب 1981 أيضاً.

ومن أعماله:

الزفاف (مسرحيّة 1931)، ملهاة الغرور (مسرحية 1934)، نار الله (رواية 1935)، الحشد والسلطة (دراسة إنتروبولوجيّة 1960)، ذوو الآجال المعلومة (مسرحيّة 1956)، أصوات مراكش (مذكرات رحلة 1968)، المستقبل المنشطر (مقالات 1972)، أقاليم الإنسان (مدونات 1973)، شاهد أذن (رسومات شخصيّة 1974)، اللسان الناجي (سيرة ذاتيّة 1977)، الشعلة في الأذن (سيرة ذاتيّة 1980)، لعبة العين (سيرة ذاتيّة 1985).

توفّي كانيتي عام 1994 في زيوريخ ودفن فيها بجوار جيمس جويس.

جاء الكتاب في 388 صفحة من القطع الوسط. لوحة الغلاف للفنّان التشكيليّ الكرديّ السوريّ خضر عبد الكريم، وتصميم الفنّان ياسين أحمدي.



صراع الهوية وتحولات الخليج

صراع الهوية وتحولات الخليج
TT

صراع الهوية وتحولات الخليج

صراع الهوية وتحولات الخليج

صدرت أخيراً رواية «سفرطاس»، للكاتب القطري د. خالد الجابر عن دار «النخبة» للنشر والطباعة والتوزيع في مصر، وهي تقع في 212 صفحة من القطع المتوسط. وتطرح الرواية أسئلة وجودية حول الهوية، والصراع الداخلي، والقدرة على التكيف مع المتغيرات التي تطرأ على المجتمعات.

يستعير الجابر من التراث الخليجي مصطلح «السفرطاس»، وهي تسميته شعبية دارجة منذ عشرات السنين، وتعني «وعاء الطعام متعدد الطبقات الذي يحمل فيه العمال قوت يومهم»، المصطلح هنا رمزي ومثير للاهتمام، يقول عنه الجابر في مقدمة روايته: «كالسَّفَرْطاس المُكدَّسِ بطبقاته المتنوِّعة، يحمل في أعماقه شَفرة الزمن المعقَّدة، تحيا ذاكرة الإنسان بكلِّ ما فيها من ذكريات ومخاوف ورغبات، خلال رحلة لا تنتهي عبر أبعاد الزمن الثلاثة؛ الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ في خِضم هذا التنقل المستمرِّ يتشكَّل الصراع بين الداخل والخارج، ليَصوغَ هُويَّته المتغيرة والمتجددة بلا توقُّف».

تحولات كبرى

تمتد أحداث الرواية عبر مسار زمني طويل، يشمل تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية كبرى شهدتها منطقة الخليج والعالم العربي على مدى قرن من الزمن؛ حيث يأخذ المؤلف القارئ في رحلة عميقة لاستكشاف العلاقة المعقدة بين الذات والآخر، وبين الهوية الفردية والتراث والحداثة. هذه الرواية ليست مجرد سرد لقصة حياة شخصية، بل هي دراسة عميقة لجدلية الهوية وما ينتج عن الصراعات النفسية والمجتمعية التي تواجه الفرد في العالم الحديث. عبر استخدامه الماهر للأسلوب الروائي، يتناول الجابر كيف أثرت التحولات البنيوية في التاريخ والجغرافيا على سلوك الإنسان، ويقدم رؤية نقدية لكيفية تداخل الهوية الفردية والجماعية مع الواقع الاجتماعي والسياسي المحيط.

تستعرض الرواية التحولات الكبيرة التي شهدتها منطقة الخليج والعالم العربي، بدءاً مما قبل اكتشاف النفط إلى حقبة ما بعد الاستعمار، وصولاً إلى الزمن الراهن، مروراً بالنزاعات والحروب التي مزقت المنطقة. ويعكس المؤلف هذه التحولات عبر شخصية جابر، الذي يمثل جيلاً عاش تلك التغيرات وعانى من تأثيراتها العميقة. ومن خلال استرجاع جابر ذكرياته وتجارب حياته، ترسم الرواية صورة دقيقة لكيفية تأثير التغيرات الاقتصادية والسياسية على البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع.

في الرواية، يتم التركيز على بعض الأحداث المفصلية في تاريخ المنطقة، مثل نكسة 1967، التي تركت جرحاً عميقاً في الوجدان العربي، وحروب المنطقة المختلفة، مثل حرب 1973، والحرب العراقية الإيرانية، واحتلال الكويت، واجتياح العراق، والحرب على الإرهاب ومرحلة ما بعد الربيع العربي، إلى الحديث حول المستقبل وموقع العرب فيه. هذه الأحداث لا تشكل فقط السياق السياسي للرواية، بل تؤثر بعمق على الشخصيات، وخاصة جابر، الذي يجد نفسه عالقاً بين الماضي والحاضر، بين ما كان يحلم به وما فرضته عليه الظروف.

الذات والآخر

من أبرز القضايا التي تتناولها الرواية جدلية الذات والآخر. بطل الرواية رجل مسن يعيش في دار رعاية، ويعاني من الوحدة والاغتراب، يشعر جابر بالعزلة الداخلية العميقة؛ نتيجة للتجارب الحياتية التي عاشها والذكريات التي يحملها. وتتشكل شخصيته من مجموعة من التناقضات؛ حيث يعيش في حالة من الصراع الدائم بين ماضيه وحاضره، بين آماله وخيباته، وبين ذاته والأشخاص من حوله.

وهذا الصراع الداخلي الذي يعيشه ينعكس في علاقاته مع الآخرين، وخاصة مع أصدقائه في دار الرعاية. كما أن كل شخصية في الرواية تحمل قصتها الخاصة، وتجسد تجربة مختلفة في الحياة. وعبر الحوار بين هذه الشخصيات، تتكشف أفكار مختلفة حول الهوية والانتماء والذاكرة، وكيف أن الماضي يشكل الحاضر ويؤثر عليه بطرق مختلفة.

إحدى القضايا الرئيسية التي يتم تناولها في هذه الحوارات هي قضية الاستعمار والنضال العربي. فجابر وأصدقاؤه يرون أن الاستعمار، رغم انتهائه بشكل رسمي، قد استمر بطرق أخرى، مثل الهيمنة الاقتصادية والثقافية التي فرضتها الشركات الأجنبية على ثروات البلاد. يعكس هذا الصراع الداخلي بين الفرد ومجتمعه الأوسع، الذي يعيش في ظل تبعية مستمرة رغم الاستقلال السياسي.

من هنا فإن بطلها، الذي يمثل جيلاً عاش تحولات كبيرة في منطقة الخليج والعالم العربي، عاش طفولته في قرية بسيطة على شاطئ الخليج تعتمد فيها الحياة على القليل من الموارد، مثل صيد الأسماك والعمل اليدوي. مع وفاة والده الذي كان يغوص في أعماق البحر بحثاً عن اللؤلؤ، تتحول حياة الأسرة بشكل جذري، وتبدأ معاناة جابر وأسرته في مواجهة الفقر.

لكن حياة جابر تأخذ منعطفاً كبيراً عندما يبدأ العمل في شركة نفط أجنبية. العمل في الشركة يمثّل بالنسبة له الأمل في الهروب من الفقر، لكنه سرعان ما يدرك أنه جزء من نظام استغلالي يستفيد من ثروات بلاده دون أن يحقق العدالة الاجتماعية. الأجانب الذين يعملون في الشركة يعيشون حياة مرفّهة في مجتمعات مغلقة، بينما يعيش العمال العرب في فقر وتهميش. هذا التناقض بين ما كان يأمله وما وجده في الواقع يخلق صراعاً داخلياً يعاني منه طوال حياته.

وسبق للجابر أن كتب رواية بعنوان «راهب بيت قطرايا»، تتناول جدلية الدين والسياسة والإنسان في القرن السابع الميلادي، وهي الحقبة التي انتهت معها الحروب الرومانية الفارسية، وازدهرت فيها طوائف الديانة المسيحية في منطقة الخليج والجزيرة العربية.