« أيام في المكسيك»... رحلة لاكتشاف عوالم دييغو ريفيرا

أعاد فن الجداريات إلى الصدارة في مطلع القرن العشرين

من أعمال دييغوا ريفيرا
من أعمال دييغوا ريفيرا
TT

« أيام في المكسيك»... رحلة لاكتشاف عوالم دييغو ريفيرا

من أعمال دييغوا ريفيرا
من أعمال دييغوا ريفيرا

عن دار «ذات السلاسل»، صدر للكاتبة والمترجمة المصرية هايدي عبد اللطيف كتاب «أيام في المكسيك» الذي يتناول عن قرب ومن خلال المعايشة المباشرة تجربة أحد أهم التشكيليين المتخصصين في فن الجداريات بالقرن العشرين في العالم وهو دييغو ريفيرا. وينتمي الكتاب الذي يقع في 362 صفحة من القطع المتوسط إلى لون أدبي مشوق هو «أدب الرحلات» عبر لغة بسيطة، سريعة الإيقاع، تشبه كتابة اليوميات، وهو الكتاب الثاني في هذا السياق للمؤلفة بعد كتابها الذي نال إشادة لافتة وهو «على خطى همنجواى في كوبا».

تشير المؤلفة إلى أن هناك سبباً آخر لشهرة دييغو ريفيرا (1886 - 1957) يتمثل في زواجه من الفنانة التشكيلية الشهيرة فريدا كالو؛ وما أثير من مشاكل في حياتهما الزوجية سبّبت لها معاناة نفسية شديدة، وتؤكد أنها ذهبت إلى المكسيك وكلها رغبة في الاقتراب من عالم فريدا كالو التي رسمت آلامها في لوحات بديعة فصنعت منها أيقونة فنية، إلا أنها وقعت في غرام العالَم المذهل لـريفيرا الذي يعد واحداً من الذين أعادوا فن الجداريات إلى الصدارة مجدداً في مطلع القرن العشرين، وربما للمرة الأولى بعد عصر النهضة مع زميليه خوسيه أورسكو وديفيد سيكيروس الذين يُطلق عليهم «الثلاثة الكبار» في المشهد الفني المكسيكي.

وتقارن هايدي عبد اللطيف بين صور الجداريات التي كانت تطالعها عبر الوسائط المختلفة وبين تلك التي رأتها بعينها، فتؤكد أن الأخيرة تبدو أروع وأعظم مما كانت تطالع عبر الصور، لا سيما على صعيد التفاصيل والألوان والقدرة المذهلة في رصد ومتابعة تاريخ المكان والبشر. وهنا قفزت إلى ذهنها مقولة الناقد التشكيلي الفرنسي إيلي فور: «إن جداريات ريفيرا تستحق أن تسافر إلى نصف الكرة الأرضية لتشاهدها»، جملة قرأتها منذ زمن وظلت عالقة في ذهنها وعندما بدأت التخطيط لرحلتها للمكسيك تذكرتها؛ فوضعت رسوم التشكيلي العالمي التي تزيّن أغلب المباني العامة والحكومية في العاصمة المكسيكية ضمن لائحة مزاراتها.

الفن الاجتماعي

ويعد ريفيرا أحد مؤسسي ما يسمى «الفن الاجتماعي»، وهو التوجه الذي انتهجه عندما شعر في مرحلة ما من مسيرته المهنية بأن الفن لا يجب أن يكون مقصوراً على الأثرياء الذين يملكون ثمن لوحة أو المثقفين الذين يذهبون إلى الصالونات والمعارض، بل يجب أن يكون حقاً طبيعياً لفئات الشعب كافة التي تستحق أن تحاط بها الفنون في كل مكان. وكلما تمعنت «عبد اللطيف» في سيرته وقرأت عنه، تبين لها أن ريفيرا لم يكن فقط عملاقاً في حجم جسده أو في مستوى موهبته وعبقريته الفنية فقط، بل أيضاً صاحب قدرة استثنائية على العمل المتواصل لساعات طويلة حتى في أواخر أيامه وقد ناهز السبعين من العمر آنذاك ليستحق لقب «مايكل أنجلو القرن العشرين».

كانت بداية الرحلة مع جدارية «الخلق» التي تزيّن حائطاً ضخماً بإحدى الكليات التابعة للحكومة. عبرت المؤلفة بوابة المدخل الخشبية الضخمة فوجدت على يسارها منضدة طويلة وقد جلست خلفها ثلاث موظفات وأمامهن تناثر عدد من الكتيبات عن الكلية. توجهت إليهن وسألتهن عن مكان الجداريات فأشرن إلى ممر على اليمين يفضي إلى فناء واسع يحيط به مبنى متعدد الطوابق ذو أقواس تزيّنها أعمال جدارية.

توقفتْ أمام إحداها، لكنها اكتشفت أنها ليست الجدارية التي تبحث عنها. عادت إليهن مرة أخرى وسألت تحديداً عن جدارية «الخلق» لريفيرا فأجابت إحداهن بأنها توجد في مدرج سيمون بوليفار، لكنه مغلق ولا يُسمح بزيارته حالياً. كان جوابها صادماً. بمجرد ما أنهت الموظفة جملتها، اختنق صوتها وهى تتحدث عن إحباطها الذي أكدته ملامح وجهها. قالت: «إنني جئت من بلادي البعيدة لمشاهدة أعمال ريفيرا، ومنذ وصلت والأبواب مغلقة كلها في وجهي» ورويت لهن ما حدث مع جداريات «القصر الوطني» التي فشلت في رؤيتها بسبب عطلة وطنية، فاكتست وجوههن بالأسى من أجلها وطلبت إحداهن منها الانتظار قبل أن تعود بعد أن تحدثت إلى مديرها وتزف إليها البشرى بأن القاعة سوف يتم فتحها لها خصيصاً.

تتابع المؤلفة: في الداخل رأيت الجدارية وقد امتدت على مساحة مائة متر مربع تقريباً، أسفل قوس «آرش» كبير في صدارة المسرح. انتشيت لوجودها في حضرة أولى جداريات ريفيرا. سألت مرافقتها عن إمكانية التصوير فأجابت بأنه غير مسموح، لكن يمكنها التقاط صورة أو اثنتين من دون موافقتها وأنهت جملتها بابتسامة المتواطئ، ثم سارت باتجاه فتاة تتدرب على الرقص الإيقاعي. تختلف جدارية «الخلق» التي رسمها ريفيرا عام 1922 عن لوحة «حلم عصر يوم أحد» الموجودة في منتزه «ألاميدا»، فهي تشبه كثيراً الرسوم الكلاسيكية الإيطالية، لكن بلمسة مكسيكية يصور فيها الفنان شخصياته بملامح محلية وأحجام ضخمة.

ملحمة الشعب المكسيكي

وفي مبنى وزارة التعليم العام، تجولت المؤلفة بين اللوحات التي تغطي جميع الجدران وتفصلها عن بعضها أبواب الغرف والمكاتب، وقد تمتد إحدى الجداريات حول الأبواب وتغطي تفاصيلها الإفريز على الباب لتبدو من بعيد كتلة واحدة تسقط عليها أشعة الشمس أحياناً فتمنحها وهجاً يضاعف تأثير موضوعها، أو تلقي عليها ظلال الأعمدة مزيداً من الظلمة والغموض. وتصور كل جدارية، مشهداً مختلفاً لعمال المناجم وعمال النسيج والصباغة ومصانع تكرير السكر وحصاد الذرة وبائعات الفاكهة أو فلاحات في طريقهن إلى السوق. في عام 1922 أعلن وزير التعليم العام خوسيه فاسكونسيلوس عن المشروع الأضخم لانطلاقة فن الجداريات في البلاد وهو تجميل جدران أروقة مبنى الوزارة الذي كان في السابق ديرا لرهبان الفرنسيسكان تمت توسعته وإعادة بنائه وافتتح في عام 1921. وقع الاختيار على دييغو ريفيرا لتنفيذ المهمة وكان هذا يعني أن يغطي برسوماته مساحة قدرها 1600 متر مربع من جدران مباني فناءين؛ مما شكل تحدياً للفنان الموهوب حيث كانت جداريته الأولى على حائط واحد وفي قاعة مغلقة في حين أن المهمة الجديدة تمتد عبر ثلاثة طوابق في ساحتين متتاليتين.

وتعدّ جدارية «ملحمة الشعب المكسيكي» واحدة من التكليفات الحكومية لريفيرا، حيث طُلب منه تزيين حوائط الدرج في الفناء الرئيسي لأحد المباني وبدأ العمل في مايو (أيار) 1929 وانتهى في نوفمبر (تشرين الثاني) 1935 قاطعاً عمله لرسم جداريتين أخريين في المكسيك، كما انتشرت لوحاته الجدارية في الولايات المتحدة وكانت هذه السنوات هي الفترة التي اكتسب فيها أسلوبه اعترافاً دولياً.

وفي الفترة بين 1942 و1951 عاد ريفيرا إلى العمل مجدداً في «القصر الوطني» ليستكمل مشروعه برسم تاريخ الأمة ويصور في الطابق العلوي من الفناء الداخلي ثقافة ما قبل كولومبوس بناء على دراساته التحضيرية لمخطوطات ما قبل الاستعمار الإسباني. وفي مجموعة من الجداريات الرأسية المنفصلة، رسم شكل الحياة في المكسيك القديمة وصور وصول القائد الإسباني لحملة الغزو إرنان كورتيس. وفي كل أعماله تحول تاريخ المكسيك مرآة تعكس أحلام البشر في العدل والجمال والحرية.



ذهبيات ساروق الحديد في إمارة دبي

قطع ذهبية مصدرها موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
قطع ذهبية مصدرها موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
TT

ذهبيات ساروق الحديد في إمارة دبي

قطع ذهبية مصدرها موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
قطع ذهبية مصدرها موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

تحوي إمارة دبي مواقع أثرية عدة؛ أبرزها موقع يُعرف باسم ساروق الحديد، يبعد نحو 68 كيلومتراً جنوب شرقي مدينة دبي، ويجاور حدود إمارة أبوظبي. خرج هذا الموقع من الظلمة إلى النور في مطلع القرن الحالي، وكشفت حملات التنقيب المتلاحقة فيه خلال السنوات التالية عن كم هائل من اللقى الأثرية، منها مجموعة مميّزة من القطع الذهبية المتعددة الأشكال.

يقع ساروق الحديد داخل سلسلة من الكثبان الرملية في الجزء الجنوبي الغربي من منطقة «سيح حفير» المترامية الأطراف، ويشكل حلقة من سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على الطريق التي تربط بين واحة العين ومدينة أبوظبي.

شرعت «دائرة التراث العمراني والآثار» التابعة لبلدية دبي في استكشاف أوّلي للموقع في عام 2002، وتعاقدت مع بعثة تابعة لـ«دائرة الآثار العامة في الأردن» لإجراء التنقيبات التمهيدية. تواصلت أعمال هذه البعثة على مدى خمس حملات، وتبيّن معها سريعاً أن سطح الموقع يحوي كميات كبيرة من خَبَث المعادن، ومجموعات عدّة من اللقى، منها القطع النحاسية والحديدية، والكسور الفخارية والحجرية، إضافة إلى قطع متنوعة من الحلي والخرز والأصداف.

شهد ثراء هذه الغلّة لأهمية الموقع الاستثنائية في ميدان الإمارات الأثري خلال العصر الحديدي، ودفع السلطة الحاكمة إلى التعاون مع عدد من البعثات الغربية لاستكمال هذه المهمة بشكل معمّق.

أجرت مؤسسة «محمية دبي الصحراوية» بالتعاون مع مؤسسة دبي للتسويق السياحي والتجاري سلسلة من التنقيبات بين عامي 2008 و2009، أشرف عليها فريق من البحاثة الأميركيين، وتبيّن أن الموقع يعود إلى تاريخ موغل في القدم، وأن هويته تبدّلت خلال 3 آلاف سنة. تواصلت أعمال البحث مع وصول بعثات جديدة، منها بعثة أسترالية تابعة لـ«جامعة إنجلترا الجديدة»، وبعثة إسبانية تابعة لـ«معهد سانسيرا للآثار»، وبعثة بولونية تابعة لـ«المركز البولندي للآثار في منطقة البحر الأبيض المتوسط في جامعة وارسو».

اتضحت صورة التطوّر التاريخي للموقع، وشملت 3 مراحل متعاقبة. كان الموقع في البدء واحة استقرّ فيها رعاة رحّل، ثم تحوّل في مرحلة لاحقة إلى مركز ديني حملت آثاره صورة الأفعى بشكل طاغٍ، كما في مواقع أخرى متعددة في شبه جزيرة عُمان. تطوّر هذا المركز بشكل كبير في مرحلة ثالثة، وتحوّل إلى مركز تجاري كبير تتقاطع فيه طرق الجزيرة العربية مع الطرق الخارجية.

حوى هذا المركز محترفات لصناعة المعادن ومعالجتها، وضمّ على ما يبدو محترفات خُصّصت لمعالجة الذهب والفضة والبرونز والرصاص، كما ضمّ ورشاً لتصنيع الخرز، وتشهد لهذا التحوّل مجموعات اللقى المتعددة التي خرجت من الموقع بعد استكشاف جزء صغير من مساحته التي تبلغ نحو 2 كيلومتر مربّع.

دخل جزء من هذه المجموعات الأثرية إلى متحف خاص افتُتح في صيف 2016 في منطقة الشندغة في بر دبي. حلّ هذا المتحف في بيت من الطراز التقليدي شيّده الشيخ جمعة بن مكتوم آل مكتوم في أواخر عشرينات القرن الماضي، وتحوّل هذا البيت الكبير إلى «متحف ساروق الحديد»، بعد تجهيزه وفقاً لأحدث الطرق.

تحوي هذه المجموعات الأثرية المتنوّعة مجموعة استثنائية من القطع المصنوعة بالذهب، وهي قطع منمنمة، منها قطع من الذهب الخالص، وقطع من معدن الإلكتروم المطلي بالذهب، والمعروف أن الإلكتروم سبيكة طبيعية المنشأ، تجمع بين الذهب والفضة، مع بعض كميات صغيرة من الرصاص والمعادن الأخرى.

تتألف هذه الذهبيات من مجموعات عدة، منها مجموعة كبيرة القطع الدائرية، تتكون كل منها من حبيبات متلاصقة، لُحم بعضها بجانب بعض في حلقة أو حلقتين. تختلف أعداد الحبيبات بين حلقة وأخرى، كما تختلف صورة كتلتها، والجزء الأكبر منها كروي الشكل، وبعضها الآخر مضلع. ونقع على قطع محدودة تأخذ فيها أشكالاً مغايرة، منها العمودي على شكل شعاع، ومنها البيضاوي على شكل البتلة. احتار البحاثة في تحديد وظيفة هذه القطع الدائرية، ويرى البعض أنها كانت تُستعمل لتشكيل عقود الزينة، ويرى البعض الآخر أنها صُنعت لتطريز الألبسة.

إلى جانب هذه المجموعة الكبيرة من الحلقات الدائرية، تحضر مجموعة أخرى كبيرة تتألف من قطع على شكل قرني ثور، ووظيفتها غير محدّدة كذلك، والأرجح أنها استعملت كأقراط أو خزامة في الأنف. تختلف هذه القطع المنمنمة في الحجم، كما تختلف في دقة الصناعة، وأجملها قطعة يتدلّى منها تاج على شكل جرس صيغ برهافة كبيرة.

تأخذ هذه الذهبيات طابعاً تجريدياً، وتخرج عن هذا الطابع في حالات معدودة، كما في قطعتين مستطيلتين تحمل كل منهما صورة ناتئة لحيوان يظهر بشكل جانبي. تمثل إحدى هاتين الصورتين أرنباً يعدو على أربع، وتمثل الأخرى غزالاً يقف ثابتاً.

ونقع على قطعة تأخذ شكل تمثال صغير يمثّل حيواناً من فصيلة السنوريات يظهر بشكل مختزل للغاية. قطعة مماثلة تمثل ثعباناً مرقطاً، وتشابه هذه القطعة في تكوينها القطع المعدنية الثعبانية التي خرجت بأعداد كبيرة من مواقع أثرية مختلفة في الإمارات العربية المتحدة كما في سلطنة عُمان.

أثبتت الدراسات العلمية أن هذه الذهبيات محلية، وهي نتاج صناعة راجت في هذه البقعة من الجزيرة العربية خلال الألف الأول قبل الميلاد. وربط البعض بين هذه البقعة وبين بلاد أوفير التي تردّد ذكرها في التوراة، واحتار المفسّرون في تحديد موقعها.

يتحدث «سفر الملوك الأول» عن «سفن حيرام التي حملت ذهباً من أوفير، أتت من أوفير بخشب الصندل كثيراً جداً وبحجارة كريمة» (10: 11). ويتحدّث «سفر أخبار الأيام الأول» عن «ثلاثة آلاف وزنة ذهب من ذهب أوفير، وسبعة آلاف وزنة فضة مصفاة» (29: 4). كما يتحدث «سفر أخبار الأيام الثاني» عن سفن حلت في أوفير، وحملت منها «أربعمائة وخمسين وزنة ذهب» إلى الملك سليمان (8: 18).

نقرأ في «سفر المزامير»: «جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير» (45: 9). وفي «سفر إشعيا»: «واجعل الرجل أعز من الذهب الإبريز، والإنسان أعز من ذهب أوفير» (13: 12).