لعبة تبادلية بين الموسيقى وأصوات الرواية

المصرية مريم عبد العزيز في «لونجا»

لعبة تبادلية بين الموسيقى وأصوات الرواية
TT

لعبة تبادلية بين الموسيقى وأصوات الرواية

لعبة تبادلية بين الموسيقى وأصوات الرواية

تمهد الروائية المصرية مريم عبد العزيز روايتها الجديدة «لونجا» - دار «الكتب خان» للنشر بالقاهرة - بعتبة شارحة لعنوانها الذي قد يستوقف القارئ ويثير فضوله، فتعرّفه بأنه أحد قوالب الموسيقى العربية، الذي يتميّز بالانتقال المفاجئ والقفزات اللحنية والسرعة في الأداء، وهو التعريف الذي يمكن فهمه كتهيئة للإيقاع السردي، واللعبة التبادلية بين الموسيقى وأصوات الرواية.

وسرعان ما يظهر توظيف الكاتبة للمتن الموسيقي في معمارها الروائي، فتتناوب فصول الكتاب عناوين: «خانة»، و«تسليم»، و«تقسيم خارج الوزن»، وهي تسميات مُستمدة من حركة قالب «اللونجا» الموسيقي نفسه، الذي يتكوّن عادة من أربعة أقسام، كل منها يسمى «خانة»، وجزء خامس يتكرر بعد كل خانة يسمى «تسليم».

تفتح تلك التهيئة الموسيقية المجال لظهور صادم لبطل الرواية «شكري»، الذي يعمل عازفاً ومدرساً للموسيقى، حيث يُعثر عليه مُمدداً على الأرض تفوح منه رائحة العطن، بجسد منتفخ بعد أن غادرت روحه الحياة، وتحول إلى ما يشبه المومياء: «الانتفاخ الوحيد الذي رافق الرجل في حياته هو التجويف الخشبي للعود الذي يجلس محتضناً إياه في شرفة شقته، أو يحمله في جراب أسود مرتدياً بدلة أنيقة بنفس اللون في المرّات التي يشارك فيها بالعزف في حفل أو في جلسة طرب مُنغلقة»، وسرعان ما يقود جثمانه الذي يبدو عليه أثر جريمة، إلى انتشار الشرطة في منزل هذا العجوز، لتبدأ التحقيقات متخذة أبعاداً درامية كاشفة عن سيرة هذا العازف الذي «لم يعش سوى لحظات فخر قليلة في حياته»، كما يروي السارد العليم.

تقنية موسيقية

يستعير البناء الروائي للعمل التقنية الزمنية للموسيقى، بما فيها من استرجاع واستباق، حيث يتناوب جيران البطل شهاداتهم عنه، التي تتقاطع مع سيرته، فيبدو الزمن في الرواية سيالاً يحمل صوته من تدفق ذكريات الأبطال، التي تضئ على سيرة شكري، وتجعلهم في الوقت نفسه يظهرون في سياقات جديدة كاشفة عن تعقيداتهم الإنسانية، لتتكشف في فضاء هذه الجريمة شبكة من الجرائم، تبدو وكأنها تدل عليها، كما تكشف العلاقات المشحونة التي تجمع بين جيران البطل القتيل، وسط هيمنة من التلصص، والمراوغة، والجشع، والانطباعات الزائفة، على خريطة تلك العلاقات.

لا تنفصل صورة البطل الذي تتابع الرواية لغز موته المُلتبس عن الصور الذهنية التي يتبناها عنه الجيران، فتظهر منسجمة أحياناً ثم سرعان ما يصيبها التشظي مع تضارب الأقوال عنه، فهو رجل نزيه في أقوال البعض، ومُتصابٍ وغامض في أقوال البعض الآخر، وتزداد حكايته تعقيداً، بعدما تجتمع خيوط قصة موته المُلغزة بقصة موت «خالد»، وهو شاب في العمارة نفسها، يفصل بين حادثي الوفاة أسبوع واحد، وفي فضاء الحكي تتناثر الكثير من المُشتركات بينهما التي تتكشف عبر الرواية.

وعبر (139 صفحة)، تعزز الرواية من انتمائها للمجال الموسيقي، حيث شيّدت بناءً صوتياً للمكان، وما يشهده من صراع درامي، فجريمة القتل التي تُفجر الحبكة البوليسية تدور في عمارة كائنة في حي «عابدين» الشعبي، الذي يقع في وسط العاصمة المصرية، وهو معروف بصخبه، حيث ورش إصلاح السيارات تعزف «سيمفونياتها» الموازية لنميمة السكان، فيزاحمها الحضور الطاغي لأصوات الدق بالمطارق فوق الصاج، وهدير الموتورات، وسباب المعلمين لصبيانهم، فيما يبدو شبح «شكري» هنا هو شبح مدرس الموسيقى «الرايق»، و«المتسلطن» غير المُكترث، الذي يسير على هامش ذلك الصخب الدائر، يستأنس في مسيره بدندنات الشيخ زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب، وتبدو المُفارقة أن جاره الشاب «خالد»، الذي يموت قبله بأسبوع واحد، كان يحمل السمت نفسه، على الرغم من أنه لم يكن عازفاً، ولكنه كان «سميعاً» كما كان يطيب لشكري أن يُناديه، ليبدو أن الحياة جمعتهما معاً في خندق لحنّي واحد، وكذلك فعل معهما الموت.

حضور شعري

تفتتح الكاتبة مريم عبد العزيز كل فصل ببيت شعري، من أشعار ابن عبد ربه الأندلسي، و«ألف ليلة وليلة»، إلى كلاسيكيات إبراهيم ناجي، في انسجام مع النقلات التي يتكشف فيها جانب جديد من سيرة البطلين الغائبين، وفي ظل نبرات صوتية أعلى لأبطالها الذين يتقاطعون مع حياتهما، أبرزهم «بشرى» الخادمة الأرملة التي تصبح في غمضة عين المُشتبه بها الأولى في جريمة قتل شكري، و«عادل» ابن أخيه والوحيد الذي يظهر من عائلته، فيطرح ظهوره أسئلة حول جوهر الانتماء العائلي، وتوريث الموهبة، فيرث منه عادل الفن بصورة مُغايرة، فهو يحلم منذ طفولته أن يصير «مسيو عادل» صاحب محل «الكوافير» الذي يتفنن في تصفيف شعر السيدات، ولكنه رغم وعيه بارتباطه «الفني» بعمه الموسيقي القتيل، إلا أنه يمتلئ بالنقمة عليه لتبديده الميراث الذي يطمع في أن يكون رأس مال افتتاح محل أحلامه.

لحن لم يكتمل

ومن ثم، يبدو العالم في الرواية مجرد مصيدة، فأحد شخوصها يدرك أنه «كما يراقب الناس فهناك من يراقبه، ويتصيّد هفواته ويبالغ فيها، واستخدامها كسلاح إذا تعرضت حياته لهجوم»، مما يشي بتفكيك لكتلة الحياة التي تبدو في ظاهرها الاجتماعي وثيقة، فيما هي معطوبة ومُفككة، فتصير الجريمة التي تقع في الحي القاهري القديم بشوارعه المتشعبة، خلفية لسرد أوسع يتتبع تعقيد الخريطة الإنسانية بالأساس، أكثر من تتبعه للغز بوليسي محض حول القاتل والجاني.

ومع تشعب الأدلة، يسترجع السرد في الفصل الأخير من الرواية الجلسة الأخيرة التي جمعت «شكري» و«خالد»، يشكو فيها العجوز للشاب قسوة السيدة التي لم يتخلص من حبها أبداً «اللحن الذي لم يكتمل»، فتعيد الرواية سيرة العجوز والشاب «الشبحين» إلى إنسانيتهما الهشّة، حيث يتبادل الاثنان الاعترافات والمرارة، وتنتهي بانسحاب الشاب مهزوماً، ليترك العجوز يتأمل كيف خالفت الحياة أمله، فصار مجرد مدرس مجهول للموسيقى، وكيف خذله عقله «فعجز عن ترجمة الحب لألحان».


مقالات ذات صلة

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

ثقافة وفنون «المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

رغم وفاته في سن السادسة والثلاثين، فإن الكاتب المسرحي والمخرج السينمائي والممثل الألماني راينر فيرنر فاسبندر (1945 - 1982) ترك وراءه كنزاً من الإبداع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يشهد استحداث ممر تكريمي للشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن (وزارة الثقافة)

تجلّيات الثقافة والفكر تُزيّن معرض الرياض الدولي للكتاب

المعرض يُعدّ تظاهرة ثقافية وفكرية سنوية بارزة بالمنطقة تجسّد منذ عقود الإرث الثقافي للمملكة وترسّخ ريادتها في صناعة الثقافة وتصدير المعرفة.

عمر البدوي (الرياض)
خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام play-circle 01:52

خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام

في الحلقة الأخيرة من مذكراته، يوضح رجل الدولة السعودي الشيخ جميل الحجيلان، حقيقة الدور الفرنسي في جهود تحرير الحرم المكي الشريف من مجموعة جهيمان العتيبي.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض)
يوميات الشرق تبدأ فصول من المعرفة والفكر والثقافة على مدى 10 أيام من عمر المعرض (واس)

رحلة معرفية جديدة تنطلق في معرض الرياض الدولي للكتاب 2024

تنطلق (الخميس)، التظاهرة الثقافية الدولية للكتاب، تحت شعار «الرياض تقرأ»، التي تبدأ معها فصول من المعرفة والفكر والثقافة.

عمر البدوي (الرياض)
كتب دليل من أجل الحكم الرشيد

دليل من أجل الحكم الرشيد

أسئلة مهمة يطرحها هذا الكتاب بشأن السمات والمهارات وطرائق التفكير التي تصنع القائد الناجح، ويقترح عليهم مؤلفه من وحي خبرته الشخصيّة أموراً ينبغي للقادة فعلها - أو تجنُّب القيام بها - للحصول على صيت خالد في التاريخ.

ندى حطيط (لندن)

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر
TT

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر

عن دار «العربي» للنشر في القاهرة، صدرت طبعة جديدة من رواية «المغفلون» للكاتب الفرنسي إريك نويوف، ترجمة لطفي السيد منصور. ويشير المترجم في تقديمه لها إلى أنه في أحد حوارات ميلان كونديرا الذي يعدِّد فيه أشكال الرواية في القرن الثامن عشر، أكد أن «رواية الرسائل»، التي تعتمد في بنيتها على الرسالة، أتاحت حرية شكلية كبيرة للغاية لأن الرسالة يمكنها استيعاب كل شيء بشكل طبيعي جداً مثل التأملات والاعترافات والذكريات والتحليلات السياسية والأدبية. ويعتقد المترجم أنه من أجل هذه الحرية واستيعاب موجة غضب الراوي الذي سُرقت منه حبيبته وذاكرته الغاضبة المرتبكة، اختار المؤلف شكل الرسالة ليبني عليها معمار روايته.

وتعد الرواية رسالة طويلة يوجهها بطلها الراوي الشاب ذو الأعوام الثلاثين ويعمل في وكالة للدعاية والإعلان، إلى الرجل الذي سرق حبيبته المثيرة والمتقلبة «مود» والذي قابله في أثناء قضاء الأخير عطلة في جزيرة قبالة مدينة روما. في البداية لم يكشف الرجل عن هويته الحقيقية لكن فيما بعد اكتشف أنه سيباستيان بروكينجر (كاتب أمريكي شهير، منسحب من الحياة العامة و قرر الاختفاء من العالم والإقامة في غابة ليعيش حياة وديعة بعيدة عن صخب الشهرة).

تبدو القصة العامة هنا مجرد حيلة فنية استخدمها المؤلف ليطرح وجهة نظره وتساؤلاته حول العالم وهل نعيش عصراً يتآمر علينا، وكيف أصبحت الحياة بمثابة شريط لا نمثل فيه سوى لقطة مما لا يمكّننا ولا يمكّن الآخرين من التأمل فيها وفهمها. والرواية إجمالاً قصيرة، كُتبت برشاقة وتكثيف، تتخللها أقوال مأثورة فاتنة ومخيِّبة للآمال، كما تختلط فيها المشاعر باللامبالاة، في إيقاع سردي لاهث حاد اللهجة، يتسم أحياناً بالتشنج والعصبية؛ فتأتي الأحداث في غير ترتيبها ولكن حسب صعود وهبوط الحالة النفسية للراوي وذاكرته وما يتوارد إليها.

نجح الكاتب في اختيار وظائف شخصياته؛ فالحبيب يعمل في الدعاية والإعلان، تلك المهنة التي تعرض كل شيء وتبيع كل شيء حتى الشيء وضده، وتُقنعك بأن تشتري ما لا تحتاج إليه. والحبيبة التي سُرقت منه تعمل في تسويق العقارات، وهو مجال مشابه يقوم على مبدأ البيع بأي طريقة. أما الكاتب الأمريكي الغني، فقد استطاع بحكم مهنته أن يبهر «مود» بماله وممتلكاته وهالته الملغزة، هو أيضاً يستلهم مهنة البيع أو التسويق حتى يُغري الفتاة بشراء رجل عجوز وترك شاب ثلاثيني.

وإريك نويوف، كاتب وصحفي فرنسي وُلد 1956، بدأ مشواره الأدبي 1980 وكتب نحو 20 عملاً أدبياً منها هذه الرواية التي نُشرت للمرة الأولى في 2001 و فازت بالجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«عندما أفكر ثانيةً في مود أتذكر شارع ميزيير، أرى سيارتها الصغيرة في جراج السكان بملصقها الأصفر على الزجاج الأمامي وساعتها التي كانت تؤخِّرها ساعةً كل صيف. أفكر في الأطفال الذين لم نلدهم والذين كانوا سيلعبون في حديقة لوكسمبورغ القريبة جداً. مود، لو سمحتِ توقفي عن النظر من فوق كتف سيباستيان، أعرفك... اتركينا لو سمحتِ، نحن في جلسة تقتصر على الرجال فقط. سيحكي لكِ سيباستيان كل هذا بالتفصيل بمجرد الانتهاء منها. قلْ لها يا سيباستيان، فلتذهبي لتُنزِّهي الكلب العجوز الذي ينام عند قدميكِ وأنتِ تكتبين على الآلة الكاتبة.

أعرف أنكَ ولدتَ يا عزيزي عام 1929، شيء من هذا القبيل. تلاعبت بكل سجلاتك في مدرسة الليسيه التي كنت ترتادها. رفض المدير أن يزوِّدنا بأي معلومات تخصك، سجلك العسكري أيضاً يتعذر الوصول إليه على نحو غامض. احترق المكتب الذي كان يحويه، لم يعد هناك أي أثر لملفك الجامعي. نشرت أولى قصصك في صحيفة الطلبة، فيما كنت بالكاد في العشرين من العمر، قصة عن الانتحار وعن سمك القراميط. في فترة ما كنت تعمل على مركب يُبحر في عرض الكاريبي، كانت الكبائن ممتلئة بالمتقاعدين الذين يرتدون شورتات قصيرة ولا يغادر نصفهم حافة المرسى. كان من المفترض أن تكون المرشد الخاص بهم، هناك لغز ما في ذلك في رأيي، من الواضح جداً أنك تمسكت بهذه الوظيفة لتحقق بسببها نتائج جيدة في سيرتك الذاتية».