«فصول نسوية»... مسرحيات مونودرامية من داريو فو وفرنكا راما

تسخر من المجتمع الأوروبي الرجولي المتبجح بالانفتاح

«فصول نسوية»... مسرحيات مونودرامية من داريو فو وفرنكا راما
TT

«فصول نسوية»... مسرحيات مونودرامية من داريو فو وفرنكا راما

«فصول نسوية»... مسرحيات مونودرامية من داريو فو وفرنكا راما

وصف الناقد المسرحي البريطاني جيليان هانا «نصوص نسوية»، بأنها «تأدية للأدوار في المرآة». فهي مشاهد يومية تتحدث عن نساء وحيدات، وحزينات، وبسيطات وبائسات، وتتناول حياة المرأة في المجتمع الأوربي «المتطور» بنقد تهكمي جارح.

شريك النساء على المسرح، ونديمهن، قد يكون التليفون، أو الراديو، أو التلفزيون، أو متحدث خارج المسرح، أو جارة وهمية في نافذة مقابلة، كما الحال في «امرأة وحيدة». لكنهن مرحات، شجاعات، وواعيات وتتراوح انفعالاتهن بين السخرية المرة من المجتمع الأوروبي الرجولي المتبجح بالانفتاح، واليأس حد الانتحار بحز شريان الرسغ.

عرضت هذه المسرحيات النسوية القصيرة على مسرح «بلازينا ليبرتي» في إيطاليا سنة 1979 لأول مرة. أدت فرنكا راما الأدوار فيها بمفردها، وساعد زوجها درايو فو في كتابة النصوص وإعداد سينوغراف المسرح. مسرحيات تعالج الاضطهاد المزدوج، الاجتماعي - الجنسي والطبقي، المسلط على المرأة وحياة النساء بين المطبخ والأطفال والكنيسة والمصنع.

كسبت العروض شعبية كبيرة بين النساء والرجال في إيطاليا، وقدمت آنذاك في معظم المدن الإيطالية الكبيرة. وجرى عرضها في المصانع والمراكز الاجتماعية والنسوية، وخُصصت مداخيلها لدعم نشاط دور النساء المضطهدات.

قدمت راما أحد هذه العروض على سطح أحد مراكز الدفاع عن حقوق المرأة في روما. وبعد كل هذه العروض التحريضية، التي ألهمت النساء الإيطاليات، انتقلت العروض إلى ألمانيا وبريطانيا والسويد، وخصصت مداخيل العرض في فرنكفورت لدعم السجناء الإيطاليين بالسجون الألمانية.

وبالرغم من أن هذه المسرحيات تحمل عنوان «فصول نسوية»، لكن الرجل حاضر بقوة فيها، مرات قليلة من خلال وجوده مباشرة على المسرح، ومرات أخرى من خلال صوته على الهاتف أو من خلال دمية تمثله على الخشبة، ومرات لا حصر لها من خلال سطوته الاجتماعية والجنسية وقيوده المرئية وغير المرئية المفروضة على النساء.

تقول فرنكا راما إن المرأة، على المستوى العالمي، حققت الكثير على طريق تحررها الاجتماعي والاقتصادي، لكن تحررها الجنسي لا يزال يراوح في مكانه تقريباً. وترى أن التحرر الجنسي للمرأة يبقى طوباوياً بالنسبة للنساء، لأن الفروق الجنسانية بين الرجل والمرأة ليست تشريحية فحسب، وإنما ذهنية أيضاً. فهناك كثير من الممنوعات والخطوط الحمراء، بل وكثير من العقوبات الاجتماعية المذلة، التي تحول دون هذا التحرر.

إن مسرحية «باركني أبي فقد أثمت!»، ومسرحية «امرأة وحيدة»، اللتين شاركت فرنكا راما زوجها «المهرج» داريو فو في كتابتهما، هما من أفضل المونودرامات النسوية التي جرى تمثيلها في إيطاليا بالسبعينات. وأسهمت فرنكا راما في تمثيل كثير من هذه المسرحيات، خصوصاً «امرأة وحيدة»، التي جمعها الزوجان في كتاب واحد يحمل اسم «فصول نسوية» (أكثر من 10 مسرحيات وقطع نثرية).

عرضت مسرحية «امرأة وحيدة» على مسارح مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والسويد، بعد أن نشر المترجم ماجد الخطيب النص على الإنترنت. المرأة في النص وحيدة ويائسة محاصرة باضطهاد متعدد الأوجه، ولا أنيس لها غير جارتها في البلكون المقابل (على الطريقة الإيطالية) تدردش معها. إنها مضطهدة من قبل زوجها، الذي يقفل عليها باب الشقة خشية أن تخونه، وأخ زوجها المعاق الذي يتحرش بها جنسياً وتسكت عنه حفاظاً على عائلتها، وجار بعيد يتلصص عليها بالناظور، وآخر يعاكسها على الهاتف. هذا، فضلاً عن دائن يلاحق زوجها عند باب الشقة، ومراهق وقع في حبها ويحاول اقتحام البيت. ابنها لا يكف عن البكاء وزوجها لا يكف عن المهاتفة ليتأكد من وجودها في البيت وحموها يناديها بنفخات البوق. وهكذا مرة واحدة: ابنها يصرخ، وحموها يناديها بالبوق، والهاتف يرن، والدائن يطرق على الباب، والمتلصص يراقبها بالناظور، وزوجها يهدد بالعودة لتأديبها. لا يبقى أمامها غير التقاط بندقية زوجها المعلقة على الجدار.

ومسرحية «سامحني أبي فقد أثمت!» تتحدث عن أم يسارية معتدلة تضطر لخوض المظاهرات والمواجهات مع الشرطة بالشارع، في محاولة لإنقاذ ابنها المتطرف من خطر الموت والانجراف في تيار المخدرات والتطرف. يسوقها القدر، وهي ملاحقة من قبل رجل الأمن، إلى كنيسة ما تهرباً من المطاردة. وتضطر، خشية الوقوع بيد رجال الشرطة، إلى تقديم اعترافاتها أمام قس وهمي في كابينة الاعتراف، وتقسم أمامه «بماركس ولينين» ألا تقول غير الحقيقة.

صدر الكتاب عن دار «لارسه» في فرنسا بكتاب من القطع المتوسط في 98 صفحة، وهو ترجمة الكاتب العراقي المغترب ماجد الخطيب.



وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان
TT

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

يحتلّ موقع سمهرم مكانة مميزة في خريطة «طريق اللبان» العُمانية التي دخلت عام 2000 في قائمة اليونيسكو الخاصة بمواقع التراث العالمي، وهي طريق البخور التي شكّلت في الماضي معبراً تجارياً دولياً ازدهر على مدى قرون من الزمن. بدأ استكشاف هذا الموقع في مطلع الخمسينات، وأدت أعمال التنقيب المتواصلة فيه إلى العثور على مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية، منها بضعة أنصاب حجرية مسطّحة تحمل نقشاً غائراً يمثّل وجهاً آدمياً مختزلاً، تقتصر ملامحه على عينين واسعتين وأنف مستطيل.

يضمّ موقع سمهرم مستوطنة أثرية تجاور خوراً من أخوار ساحل محافظة ظفار يقع في الجهة الشرقية من ولاية طاقة، يُعرف محليّاً باسم «خور روري». يعود الفضل في اكتشاف هذا الموقع إلى بعثة أميركية، أسّسها عام 1949 في واشنطن عالم الآثار وينديل فيليبس الذي لُقّب بـ«لورنس العرب الأميركي». شرعت هذه البعثة في إجراء أول حفريّة في «خور روري» خلال عام 1950، وواصلت عملها على مدى 3 سنوات، وكشفت عن مدينة لعبت دور ميناء دولي، عُرفت باسم سمهرم، كما تؤكد النقوش الكتابية المدونة بخط المُسنَد العربي الجنوبي. من بين أطلال هذه المدينة المندثرة، خرجت مجموعة من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة زُيّن كلٌّ منها بنقش تصويري غائر طفيف يمثّل وجهاً آدمياً ذكورياً، كما يؤكّد الكشف العلمي الخاص بهذه البعثة.

عُثر على حجرين من هذه الحجارة على مقربة من أرضية مبنى من معالم سمهرم، وعُثر على ثالث على مقربة من المعبد الخاص بهذه المستوطنة، ممّا يوحي بأنه شكّل في الأصل جزءاً من أثاث هذا المعبد على الأرجح، كما رأى العالِم فرانك فيدياس أولبرايت في تقرير نُشر في عام 1953. استمرّت أعمال المسح والتنقيب في سمهرم، وتولّتها منذ عام 1997 بعثة إيطالية تابعة لجامعة بيزا، ومع هذه الأعمال، تمّ الكشف عن مجموعة أخرى من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة مشابهة لتلك التي عثرت عليها البعثة الأميركية.

يتكرّر النقش التصويري على هذه الأنصاب التي احتار أهل الاختصاص في تحديد وظيفتها، ويتمثّل بوجه آدمي مجرّد هندسياً إلى أقصى حد. اختُزلت ملامح هذا الوجه بعينين لوزيّتين واسعتين، وأنف مستطيل رفيع. خلت هاتان العينان الفارغتان من حدقتيهما، كما غابت عنهما الرموش والحواجب، فظهرتا على شكل مساحتين بيضاويتين حُدّدتا بخط ناتئ رفيع وبسيط في وضعية المواجهة. كذلك، ظهر الأنف على شكل مثلّث عمودي طويل يحدّده خط مماثل. يعود هذا الوجه ويظهر على واجهة مجمّرة مخصّصة لحرق البخور، عثرت عليها البعثة الإيطالية خلال عام 2014، إلى جانب مجمّرتين تتبعان الطراز المألوف المجرّد من النقوش. ويتميّز هذا الوجه بظهور حاجبين مقوّسين يمتدان ويلتصقان عند أعلى مساحة الأنف المستطيلة.

خرجت من موقع سمهرم مجموعة كبيرة من المجامر والمباخر، غير أن هذا الوجه المجرّد لا يظهر على أي منها، كما أنه لا يظهر على أي من عشرات المجامر التي عُثر عليها في نواحٍ عدة من جزيرة العرب الشاسعة. في الواقع، يتبع هذا الوجه طرازاً ارتبط على نحوٍ واسع بشواهد القبور، وعُرف باسم «المسلّة ذات العينين». خرج العدد الأكبر من هذه المسلّات من محافظة الجوف التي تقع في الجزء الشمالي الشرقي من صنعاء، وخرج عدد آخر منها من وادي بهيان في محافظة حضرموت. تجاوز هذا الطراز حدود جنوب الجزيرة العربية، وبلغ شمالها حيث ظهر في واحة تيماء في منطقة تبوك، وقرية الفاو في الجنوب الغربي من الرياض، كما تؤكّد شواهده التي كشفت أعمال التنقيب عنها خلال العقود الماضية.

حمل هذا الطراز طابعاً جنائزياً لا لبس فيه، وتمثّلت خصوصيّته بهذا الوجه التجريدي الهندسي الذي ظهر على شواهد قبور فردية، كما تشير الكتابات المنقوشة التي تسمّي أصحاب تلك القبور. يصعب تأريخ هذه المسلّات بدقة، نظراً إلى غياب أي إشارة إلى تاريخها في الكتابات المرفقة، والأكيد أن هذا الطراز الجنائزي ظهر في القرن الثامن قبل الميلاد، وشاع على مدى 5 قرون. يحضر هذا الوجه في سمهرم، ويشهد هذا الحضور لدخوله إقليم عُمان في مرحلة تلت فترة انتشاره في جنوب الجزيرة وفي شمالها، فالدراسات المعاصرة تؤكد أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، وارتبط بمملكة حضرموت في زمن نشوء التجارة البحرية وازدهارها في المحيط الهندي، وظلّ ناشطاً حتى القرن الخامس للميلاد، حيث تضاءل دوره وتلاشى تدريجياً نتيجة اندحار مملكة حضرموت.

حضر هذا الوجه التجريدي في سمهرم حيث ظهر على عدد من المسلّات، وانطبع بشكل استثنائي على مجمرة تبدو نتيجة لذلك فريدة من نوعها إلى يومنا هذا. خرج هذا الوجه في هذا الموقع العُماني عن السياق الجنائزي الذي شكّل أساساً في جنوب جزيرة العرب، وحمل هُويّة وظائفية جديدة، وتحديد هذه الهوية بشكل جليّ لا يزال يمثّل لغزاً وتحدّياً للباحثين في ميدان الآثار العُمانية.