بودلير: جنون الشعر أو شعر الجنون

أمه لم تعرف قيمته إلا بعد موته وانفجار شهرته الأسطورية

بودلير
بودلير
TT

بودلير: جنون الشعر أو شعر الجنون

بودلير
بودلير

يقول بعض الذين تعرفوا عليه شخصياً في تلك الفترة بأنه كان يلبس ثياباً نظيفة عموماً، ولكن قديمة شبه بالية، ومنظره الخارجي كان يوحي بالإهمال والهجران. (وهذا ما توحي به صوره أصلاً). كان بودلير يبدو وكأنه يشبه بيتاً متصدعاً لم يُسكن منذ زمن طويل. كان يبدو عليه وكأنه مُدمَّر من الداخل. وهو بالفعل مُدمّر. لقد استسلم بودلير لتقادير الحياة وألقى سلاحه منذ البداية. كانت الصدمة أكبر منه. لماذا تزوجت أمه بعد وفاة والده؟ لماذا لم تبق له وحده؟ لطالما عاتبها بكل حرقة، بكل مرارة: من كان لها ابن مثلي لا تتزوج! بدءاً من تلك اللحظة أصبح العالم مشبوهاً في نظر شارل بودلير. أصبح العالم ملغوماً، أو شبه ملغوم. بدءاً من تلك اللحظة عرف أن الشر موجود في أحشاء العالم كالدودة في قلب الثمرة.

لكن هذه التجربة المريرة مع الحياة، هذه الضربة الساحقة الماحقة، كانت مفيدة جداً وذات مردود هائل من الناحية الشعرية. وبالتالي، فرب ضارة نافعة. فإذا لم يكن يستطيع أن يرضي أمه بأن يصبح موظفاً كبيراً في سلك الديبلوماسية الفرنسية أو سلك القضاء أو سوى ذلك، فإنه على الأقل استطاع أن يرضي آلهة الشعر وربات الجمال... يضاف إلى ذلك أن الانحطاط في مهاوي الحياة إلى الدرك الأسفل يتيح لك أن تتعرف على الوجه الآخر للوجود: قفا الوجود. إنه يتيح لك أن تعانق الوجه السلبي، الوجه المظلم للأشياء. كان النزول إلى الطبقات السفلية والدهاليز المعتمة شيئاً ضرورياً جداً لكي يصبح بودلير أكبر شاعر في عصره وربما في كل العصور. ويقال بأن أمه لم تعرف قيمته إلا بعد موته وانفجار شهرته الأسطورية. عندئذ بكت وتحسرت، حيث لم يعد ينفع التحسر والندم... صحيح أن بودلير حاول بكل الوسائل أن ينجح ويحقق الرفاهية المادية والوجاهات الاجتماعية كبقية البشر. ولكنه في كل مرة كان ينتكس ويفشل. إنه كسيزيف الذي يرفع الصخرة من أسفل الوادي لكي يضعها على قمة الجبل. ولكن ما أن يصل بها إلى القمة تقريباً حتى تتدحرج وتسقط، وهكذا دواليك... عندئذ عرف بودلير أنه فاشل لا محالة، وراح يتحمل مسؤوليته لأول مرة كشخص فاشل، متسكع، يعيش على هامش المجتمع. بدءاً من تلك اللحظة راح بودلير يصبح الشاعر الأساسي للحداثة الفرنسية وربما العالمية. راح يصبح شاعر التمزقات والتناقضات الحادة التي لا حل لها (على الأقل مؤقتاً!) إلا بقصيدة جديدة. وقد جرّب الانتحار أكثر من مرة ولكنه لم ينجح. حتى في الانتحار فشل! راح يصبح شاعر الخطيئة الأصلية التي تلاحق الإنسان المسيحي من المهد إلى اللحد. ولكن في حالته خطيئة بلا خلاص ولا غفران. كل ديوانه «أزهار الشر» ما هو إلا مرآة لروحه، أو سيرة ذاتية مقنَّعة لشخصه. حياة بودلير كلها كانت تمزقاً أو تذبذباً بين السماء/ والأرض، بين المثال الأعلى/ والحضيض، بين الله/ والشيطان... هذا التوتر الذي لا يهدأ بين المتناقضات القاتلة، هذا النزول إلى المهاوي السحيقة، هو الذي جعل من بودلير أعمق شاعر في تاريخ الآداب الفرنسية. يمكنك أن تتهم بودلير بكل شيء ما عدا أنه شاعر سطحي مثلاً! الشاعر السطحي هو ذلك الشخص الذي لم يعرف تقريباً إلا الجانب الفرح والمبتسم من الحياة. الشاعر السطحي هو ذلك الشخص الذي وُلد وفي فمه ملعقة من ذهب. الشاعر السطحي هو ذلك الشخص الذي لم يعش تجارب مزلزلة في معمعة الوجود: أقصد تجارب قصوى تصل به إلى حافة الهاوية. ولكن نحن في حضرة أشخاص من نوع آخر. نحن في حضرة المتنبي أو المعري أو دانتي أو شكسبير، إلخ... الشاعر السطحي شخص سعيد جداً ومرتاح جداً وناجح اجتماعياً جداً جداً. هنيئاً له. مبروك وألف مبروك. ولكن نحن في حضرة الشاعر غير السطحي: أي في حضرة أشخاص من نوعية إدغار آلان بو أو دوستوفيسكي أو ريلكه أو بعض المجانين الآخرين... الشاعر غير السطحي (لماذا لا نقول الشاعر العميق؟) هو ذلك الشخص الذي عاش إلى جانب الحنين والأنين لسنوات طويلة، هناك حيث الأعماق السفلية، هناك حيث الدهاليز والعتمات والمطبات. وحيث الوحدة والهجران أيضاً. الشاعر الذي نقصده هنا شخص مهجور أبدياً، سرمدياً، أنطولوجياً. بعدئذ ينفجر الشعر، يتدفق الشعر. كل شيء له ثمن. ينبغي أن تموت ألف موتة لكي تكتب قصيدة واحدة لها معنى. الشاعر السعيد، الناجح، المتفوق، ليس شاعراً بالمعنى البودليري للكلمة: إنه فقط يطرب الناس أو يدغدغ المشاعر والحواس السطحية، ويحظى بشعبية هائلة. وتحبه الفتيات والمراهقون والسيدات الأرستقراطيات... هذا لا يعني بالطبع أنه عديم القيمة، أبداً لا. ولكن لا يهمنا أمره هنا. هذا كل ما في الأمر، لا أكثر ولا أقل. نحن لا نشتم أحداً. نحن لا نهتم هنا إلا بالشعراء السيزيفيين: شعراء الأعماق والمهاوي السحيقة. نحن نريد أن نقيم علاقة بين «الشعر والعمق» كما يقول الناقد الفرنسي جان بيير ريشار في كتاب مشهور. كل ما نريد قوله هو التالي: الشاعر الذي لا ينزل إلى الأعماق السفلية، ويخاطر، ويغامر، ويقذف بنفسه في فوهة المجهول ليس شاعراً بالمعنى الذي نقصده. كان بودلير يشعر بالضجر والفشل وسأم باريس. كان يشعر بفراغ العالم وعبثية الأشياء. وبدءاً من تلك اللحظة أصبح شاعراً. بدءاً من اللحظة التي يحصل فيها تناقض حاد بينك وبين العالم، بدءاً من اللحظة التي يصبح فيها العالم إشكالياً في نظرك، فإن ذلك يعني أنك قد تصبح شاعراً، أو فناناً، أو فيلسوفاً، أو مجنوناً... أول شرط من شروط الإبداع هو اختلال الثقة بينك وبين العالم، هو حصول شرخ عميق بينك وبين نظام الأشياء. لماذا يوجد الشر في العالم؟ لماذا تزوجت أمه؟ لماذا لا يوجد إلا الخير والصفاء والنقاء والشفافية في هذا العالم؟ لماذا نُفجع بأنفسنا، بأحبتنا الذين غابوا؟ لماذا؟ لماذا؟ ربما لهذا السبب لا يوجد شاعر كبير واحد في التاريخ كان متصالحاً مع نفسه أو مجتمعه أو زمنه:

أتى الزمان بنوه في شبيبته

فسرّهم وأتيناه على الهرم

ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن الفلاسفة والمفكرين الكبار. بالطبع يوجد في كل العصور عشرات الشعراء والكتاب الذين ينعمون بالحياة والثروات والوجاهات ولا يشعرون بأي مشكلة مع أي شيء كان. عن هؤلاء لا نتحدث هنا، ولا يهمنا أمرهم في قليل أو كثير. نحن نتحدث هنا فقط عن الشعراء الإشكاليين: أي الشعراء الذين فُجعوا بأنفسهم، الذين أصيبوا في الصميم منذ طفولتهم الأولى. نحن نتحدث عن كتّاب من نوعية بودلير، أو رامبو، أو فرلين، أو نيتشه، أو هولدرلين، إلخ... ذلك أن الصراع الداخلي مع الذات لا يقل خطراً عن الحروب العالمية أو الخارجية. حرب الداخل أخطر من حرب الخارج لأن العدو يصبح منك وفيك. وبودلير عاش هذا الصراع المحتدم ومشى به إلى نهاياته. هل كان بودلير شيزوفرينياً يعاني من انفصام الشخصية؟ بالطبع، كمعظم الكتَّاب الكبار. كل عقد الأرض، كل أوجاع الأرض، كانت موجودة فيه. ومن ذلك نتجت القصائد العبقرية! يكفي أن نفتح ديوانه على أي صفحة لكي نجد آثار هذه المعركة أو أشلاءها بادية للعيان:

أنا الطعنة والسكين

أنا الصفعة والخدان

أنا العجلة والعضوان

أنا الضحية والجلاد

أنا لَقلبي مصّاص الدم!

بودلير جلاد نفسه وليس في حاجة إلى شخص آخر لكي يجلده. لنقل بأنه استبطن العدوان الخارجي (القدر، الطفولة، زوج الأم، ضربات الغدر...) إلى درجة أنه أصبح قضية داخلية. لم يعد بودلير في حاجة إلى عدو خارجي لكي يعذبه. أصبح هو يعذب نفسه بنفسه. زوج الأم، هذا العدو المطلق، تحول وحشاً أخطبوطياً لا خلاص منه حتى ولو مات!

لكي يتخلَّص من نفسه، من مرضه الداخلي الذي يقضّ مضجعه، كان دوستويفسكي يتمنى أحياناً لو أن الأرض انشقَّت وابتلعته. وأما نيتشه فكان يتمنى لو يحصل زلزال هائل يدمّر الأرض ويخسفه معها. فيما يخص بودلير، نلاحظ أن شهوته كانت تتمثل في حصول إعصار كاسح يجرفه مع السيول:

أيها السيل لماذا لا تجرفني في انهياراتك؟



هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟
TT

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟

قلّ أن حملت قصة من قصص الحب ذلك القدر من المفارقات والملابسات الملغزة، كما هي حال القصة التي ربطت بين شمشون اليهودي ودليلة الفلسطينية. ولعل رسوخ تلك القصة في المخيلة الإنسانية الجمعية لا يعود إلى عدِّها جزءاً لا يتجزأ من السردية التوراتية فحسب، خصوصاً أن قصص الحب المتصلة بالخيانة والعشق الشهواني والعلاقات الآثمة في «العهد القديم» أكثر من أن تُحصى، ولكن ما أكسبها طابَعها الشعبي الواسع هو وقوعها على خطوط التماس الفاصلة بين الدين والأسطورة من جهة، وبين الولاء للقلب والولاء للوطن من جهة أخرى.

والواقع أن أي قراءة متأنية لعلاقة شمشون بدليلة لا يمكن أن تتم على أرض العاطفة والحب اللذين تحرص التوراة على استبعادهما عن سياق الأحداث، بل يتضح للقارئ أن الخلفية التي تُروى من خلالها الوقائع هي خلفية المواجهة الضدية بين الخير العبري والشر الفلسطيني. ويكفي أن نعود إلى الجملة التي يستهل بها «سفر القضاة» القصة بقوله: «ثم عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب فدفعهم الرب ليد الفلسطينيين أربعين سنة»، لكي نقرأ المكتوب من عنوانه، إذ ستكون علاقتا الزواج اللتان ربطتا شمشون بامرأتين فلسطينيتين متتاليتين ترجمة بالغة الدلالة لامتداح الذات الجمعية الفحولية، مقابل تأنيث العدو وتشويه صورته، ولو أن العقاب الإلهي قد توزع مناصفةً بين طرفَي الصراع.

ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن شمشون قد ولد، وفق الرواية التوراتية، بتدخل مباشر من الرب الذي استجاب لرغبة أبيه منوح وأمه العاقر في الحصول على طفل يوفر لهما أسباب السعادة والاستمرار. وبعد تجاوز الفتى سن البلوغ، التقى صدفة بفتاة فلسطينية حازت على إعجابه، فسارع بالطلب من أبيه وأمه أن يأخذاها زوجة له. وعلى الرغم من أن أبويه واجها طلبه باستنكار بالغ، لأن الفلسطينيين في تلك الفترة كانوا «متسلطين على إسرائيل»، فإنهما أذعنا لطلبه في نهاية الأمر. وبينما كان ذاهباً للزواج التقى شمشون بشبلٍ مفترس فشقّه باليد المجردة كما يُشقّ الجدي. على أن عروسه الفلسطينية ما لبثت أن خانته مرتين؛ الأولى حين أطلعت الفلسطينيين على حل الأُحجية التي طرحها عليهم، والثانية حين تركته بغتةً لترقد في أحضان أحد أصدقائه المقربين.

ومع انتقاله إلى غزة تُنبئنا السردية التوراتية بأن شمشون لم يكد يقع في حب امرأة أخرى اسمها دليلة، حتى «صعد إليها أقطاب الفلسطينيين وقالوا لها تملّقيه وانظري بماذا قوته عظيمة»، عارضين عليها مبلغاً مغرياً من المال. على أن شمشون المتوجس من السؤال أعطى دليلة ثلاث إجابات كاذبة حول سر قوته، حتى إذا بالغت في إلحاحها «وضاقت نفسه إلى الموت» أخبرها بأن قوته كامنة في خصل شعره الطويلة، فإن تمّ قصُّها فارقته هذه القوة بالكامل.

وإذ نجحت دليلة في الوقوف على سر بطلها العاشق، أنامته على ركبتيها وطلبت من أحد الرجال قص جدائله السبع، حتى إذا أيقظته وأراد الانقضاض على الفلسطينيين، اكتشف أنه بلا حوْل، وأنه وقع ضحية المرأة المخاتلة التي أسلم لها قلبه. بعد ذلك اقتلع الفلسطينيون عينيه وأوثقوه بالسلاسل وسجنوه، آمرين إياه أن يدير في سجنه حجر رحىً ثقيلاً. وبعد انتشاء الفلسطينيين بالنصر جاءوا بشمشون ليبهجهم بعروضه المسلية في أحد أعيادهم الوثنية، فدعا الأخير الرب ليساعده على الانتقام، وكان شعره قد نما على غفلة من أعدائه، حتى إذا أعاد الرب له قوته هتف من أعماقه «لتمتْ نفسي مع الفلسطينيين» ثم هدم الهيكل على نفسه، وعلى الآلاف الثلاثة من الفلسطينيين الذين لم ينجُ منهم أحد.

ولم تكن مثل هذه القصة الحافلة بالرموز لتسهوَ عن بال الشعراء والكتاب والفنانين، الذين تناولوها عبر التاريخ من زواياهم المختلفة، وأفردوا لها قصائد ولوحات وأعمالاً إبداعية كثيرة. ولم يَفُت منتجي هوليوود ومخرجيها الكبار استثمار هذه القصة المثيرة في المجال السينمائي، فتم استلهامها مرات ثلاثاً بين مطلع القرن الفائت ومنتصفه، إضافة إلى عشرات العروض المسرحية والموسيقية والأوبرالية.

أما في مجال الشعر فقد استند الشاعر الإنجليزي جون ميلتون إلى قصة شمشون ودليلة في عمله الدرامي «سامسون أغونيستس» الذي استلهم من خلاله التراجيديا الملحمية الإغريقية، مبتعداً عن قواعد المسرح الإليزابيثي وأعرافه. ومع أن ميلتون قد آثر الالتزام بالنص التوراتي، فإنه وهو المصاب بالعمى تماهى من نواحٍ عدة مع البطل العبري الذي سمل الفلسطينيون عينيه. على أن أكثر ما يستوقفنا كقراء هو قول دليلة لشمشون الغاضب والرافض للصفح بأن الفلسطينيين «سيمتدحونها عبر الأجيال»، كما لو أن ميلتون كان يستطلع، بحدسه الشعري الثاقب، مآلات الصراع الوجودي الذي لا نهاية له بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

وإذا كانت ثنائية الجمال والموت هي التي حكمت قصائد الشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة في ديوانه «أفاعي الفردوس»، فقد بدت قصيدته «شمشون» ذروة الديوان وواسطة عقده الأهم. وإذا كان أبو شبكة قد اكتفى بإعادة تظهير الواقعة كما وردت في التوراة، نائياً بنفسه عن أي بعد قومي أو آيديولوجي، فلأن معاناته القاسية مع المرأة لم تمكنه من أن يرى في دليلة سوى واحدة من الرموز الأنثوية الأكثر دلالة على الخيانة والغدر. وهو إذ يتقمص شخصية شمشون المخدوع، يخاطب دليلة قائلاً:

ملّقيهِ بحسنكِ المأجورِ

وادفعيه للانتقام الكبيرِ

إنما الحسْن يا دليلةُ أفعى

كم سمعنا فحيحها في سرير

ملّقيهِ ففي ملاغمك الحمرِ

مساحيقُ معدنٍ مصهورِ

وارقصي إنما البراكين تغلي

تحت رجليكِ كالجحيم النذيرِ

وبينما يرى الباحث العراقي فاضل الربيعي، الذي يعمل على تفكيك البنية التاريخية للسرديات الدينية والميثولوجية، أن الحادثة برمتها ذات جذور يمنية سبئية، إذ إن اسم شمشون مشتق من الشمس، واسم دليلة مشتق من الليل، وأن الصراع في عمقه الرمزي هو صراع بين التقويمَين الشمسي والقمري، يرى الشاعر الفلسطيني معين بسيسو القصة القديمة من منظور معاصر، محولاً عمله المسرحي «شمشون ودليلة» إلى مناسبة لوضع التاريخ على سكته الصحيحة. اللافت في عمل بسيسو أن عنوان المسرحية قد ظل غريباً عن سياقاتها حتى فصلها الأخير، حيث تتم على نحو مفاجئ إماطة اللثام عن الحقيقة المُرة. فالفلسطينيون المحشورون في عربة معطلة لم يعودوا يملكون، وقد أسفرت كل إشارات المرور عن لونها الأحمر، سوى قرارهم بإعلان الثورة دفاعاً عن هُويَّتهم المهددة بالامّحاء. أما سكان العربة الذين يتحكم بهم جبروت سائق حاقد ومبهم الملامح، فبينهم الأم والأب وابناهما عاصم مازن وريم، التي لم تستطع أثناء إجبارها على النزوح أن تميز بين طفلها يونس وصرة ثيابها، فتركت الأول وحملت الثانية، لتربي في داخلها مرارة الفقد وشهوة الانتصار على الجلاد.

وسرعان ما نكتشف أن من يمسك بزمام العربة هو شمشون الإسرائيلي الذي لا يكف عن تجديد وجهه الكالح من عصر إلى عصر، والذي يهتف بالفلسطينيين بنبرة هازئة:

هل تنتظرون دليلة؟

تكشف سرّي وتجزُّ ضفائر شَعري

تفقأ عينيَّ وتربطني كالثور أجرُّ الطاحون

عبثاً تنتظرون دليلة

أنتم في راحة كفّي

كلُّ قنابلكم تتفجر في داخل هذي الخوذة

كصواريخ الأطفال

وإذ يتابع النص المسرحي مفاجآته، تتقمص ريم شخصية دليلة الفلسطينية محذرة شمشون من التمادي في بطشه المتغطرس، ومبلغة إياه بأن دليلة الجديدة ستكون أكثر دهاءً من الأولى وأكثر شراسةً في الدفاع عن حقوق شعبها المهدورة. وفيما يُسمع من وراء العربة دوي الانفجارات وأزيز الرصاص، تتماهى ريم مع صورة الأرض نفسها، هاتفة بشمشون:

صار لنا دفتر يومياتٍ آخرُ يا شمشونْ

صرنا يا شمشونُ نوقّع فوق الأربطة البيضاء على الجرحِ،

الأربطةُ البيضاءُ تغطّي الأرض

فوق جبين الزيتونة صار رباطٌ أبيضُ،

والشمس ممرّضةٌ تسعى بين الجرحى