«العروج إلى شيراز» تستعيد حافظ الشيرازي سردياً

عباس لطيف يبني شخصية الشاعر الصوفي مستنداً إلى مرويات ومخطوطات

«العروج إلى شيراز» تستعيد حافظ الشيرازي سردياً
TT

«العروج إلى شيراز» تستعيد حافظ الشيرازي سردياً

«العروج إلى شيراز» تستعيد حافظ الشيرازي سردياً

رواية «العروج إلى شيراز» للروائي عباس لطيف، الصادرة عام 2024، رواية مركّبة، تتحرك على مستويين؛ تاريخي ومعاصر. فعلى المستوى التاريخي تعود إلى القرن الثامن الهجري (الثالث عشر الميلادي) لتدّون لنا سيرة حياة ونضال الشاعر الإيراني حافظ الشيرازي، وعلى المستوى المعاصر تنقل لنا الرواية معاناة جنديين من ويلات حرب السنوات الثماني بين العراق وإيران التي أحرقت الأخضر واليابس. ولذا فالرواية ليست عن الحرب بالمفهوم التطبيلي لها، بل هي رواية ضد الحرب لأنها ترفض الحرب وتتعاطف مع محنة هذين الجنديين اللذين يقفان ليتقاتلا في خندقين متعاديين على الرغم من رفضهما الحرب ومآسيها. وهذه التجربة تُذكّرنا برواية سابقة للروائي طه حامد الشبيب، حيث وجدنا جنديين متعاديين يرفضان الحرب وينشران رسالة السلام.

تكشف الرواية منذ استهلالها عن نزعة ميتاسردية واضحة لأسباب كثيرة منها انطواؤها على مخطوطة عن حياة الشيرازي كتبها الجندي الإيراني (مير قرباني)، وتحمل اسم «ترجمان الأسرار» وتتوزع فصول المخطوطة التسعة على الرواية بشكل متناوب مع فصول السرد المعاصر الذي يشغل اثني عشر فصلاً.

يستهل الروائي روايته بالفصل الأول من فصول مخطوطة «ترجمان الأسرار» التي كتبها (مير قرباني) ويقدم فيها حافظ الشيرازي نفسه بطريقة السيرة الذاتية، ويروي جانباً من حياته مع أمه التي ثُكلت بوفاة الزوج، وغياب اثنين من أبنائها بطريقة غامضة، ولم يبقَ لديها سوى ولدها الأصغر حافظ الشيرازي.

يقدم الروائي السرد من خلال منولوغين، هما منولوغ الابن حافظ، ومنولوغ الأم:

- «استبدّت به مشاعر جامحة...». (ص 7)

- «كانت تبتهل تارة وتبكي تارة أخرى وهي تتطلع من خلال النافذة... وشعرت بشعور غريب؛ بأنها تشبه هذه المدينة». (ص 7)

وعندما قرر حافظ الشيرازي أن يعمل خبازاً، فضلاً عن عمله معلماً للتلاميذ في المسجد والمدرسة، وحلقات الدرس، خشيت عليه أمه من وشاية جواسيس «السالوس» وكتّاب التقارير فقالت له معبّرةً عن مخاوفها:

«وأنت تكتب شعراً فيه الكثير من الهرطقة، وقد يجعل بعض العمال ومن يشترون الخبز يبتعدون عن المخبز». (ص 11)

ونكتشف منذ البداية بعض مظاهر رؤية الشيرازي الفلسفية والصوفية التي هي ترجمة لأفكاره في فهم الحياة والجمال ووحدة الوجود (ص 12). وكان الشيرازي يدرك أنه يسعى في معراجه نحو النور الذي يسطع داخل المرء وصولاً إلى سرمدية المعنى والوجود الأبهى (ص 13). وكان عشقه لحبيبته (شاخ نبات) روحياً، رافضاً أن يدنسه بالمحسوسات مثل الزواج، فهو يرى أنه سكران بالحق والحرية، ومن يسكر بهما لا صحو له (ص 20).

وينتقل السرد في الفصل الثاني الموسوم بـ«المخطوطة» إلى الجندي العراقي جلال شاكر، ليروي لنا، عبر ضمير المتكلم، جانباً من معاناته في هذه الحرب وكيفية عثوره على المخطوطة التي كتبها مير قرباني في أحد الخنادق العسكرية الإيرانية:

«أنا الجندي المكلّف جلال شاكر، أحد شهود وقرابين الحرب التي اندلعت واستمرت طوال سنوات من الجمر والوجع والخسارات». (ص 22)

ويسرد علينا راوي الفصل (جلال) محنته الموجعة من الحرب، بعد تخرجه في كلية الآداب، وزجّه مع زملائه إلى الجبهات المستعرة، كما يتحدث عن علاقته بزميلته (ليلى) واتفاقه معها على الزواج، لكنّ سوْقه إلى الحرب أوقف هذا المشروع. ويكشف الراوي عن عشقه للقراءة والكتابة:

«أنا أعشق القراءة، وأكتب بعض القصص القصيرة. وبعض المقالات الأدبية، وغير الأدبية».

وهذه الإشارة تضيء جانباً من الطبيعة الميتاسردية للرواية، لأن الراوي هو طرف فاعل في كتابة يوميات الحرب وتجاربه الشخصية، ومنها نقله إلى إحدى جبهات القتال الساخنة في (نهر جاسم)، حيث عثر في أحد المواقع في الجانب الإيراني على مخطوطة الجندي (مير قرباني) التي تحمل عنوان «ترجمان الأسرار» عن سيرة حياة الشاعر حافظ الشيرازي (ص 29)، وتشكل هذه اللحظة نقطة حاسمة في السرد الروائي بدخول المخطوطة في فضاء الرواية.

وقد أشار بطل الرواية وراويها الرئيسيّ إلى أنه دوَّن في مذكراته اليومية الكثير عن هذه المعارك.

وينمو خلال السرد اهتمام (جلال) بسيرة حافظ الشيرازي، وقصة عشقه لفتاة جميلة اسمها (شاخ نبات)، (ص 33). وهو يكتشف شبهاً بين ليلى، حبيبته، وبهار وقرباني، وحافظ وشاخ نبات (ص 34). وهكذا نلاحظ وجود توازٍ بين ثلاث حيوات في آن واحد: حياة حافظ الشيرازي، وحياة مير قرباني، وحياة جلال شاكر.

وعلى الرغم من سخونة الأوضاع السياسية واحتمالات نشوب الحرب فإن (مير قرباني) كان منشغلاً بكتابة رواية تتناول حياة الشيرازي (ص 51). وهذه إشارة ميتاسردية مهمة تعزز الجوهر الميتاسردي، وقصدية الكتابة والتدوين في الرواية.

يكشف كاتب المخطوطة (مير قرباني) عن مراحل كتابة الرواية، إذ أمضى شهوراً في البحث عن المصادر والمراجع التي تؤرخ حياة الشيرازي وأزمانه ومحنته (ص 51). ويشير إلى أنه مزج في روايته بين ما هو حقيقي وتاريخي وبين ما يتطلبه الخيال من إضافات، فضلاً عن الاستنارة بقراءة ديوانه الذي تضمن الكثير من الإشارات والمعلومات عن الأحداث التي كابدها (ص 52). وهذا الجهد الميتاسردي الذي بذله (مير قرباني) في كتابة رواية، هو في حقيقة الأمر الجهد المضني الكبير الذي بذله الروائي (عباس لطيف) في إنجاز هذه المخطوطة، وهي إشارة واضحة إلى أن كتابة الرواية لم تعد عملاً سهلاً أو سريعاً، بل تتطلب استقصاءً ودراسات تاريخية ونفسية وثقافية قبل الشروع بالكتابة، وهو ما يؤكد أن الرواية قد أصبحت «حرفة «أو «صنعة»، كما ذهب إلى ذلك الناقد (برسي لبوك) في كتابه «صنعة الرواية Craft of Fiction» المترجَم إلى العربية.

ونجد أن كاتب المخطوطة (مير قرباني) يُجري مقارنةً بين عصر الشيرازي (القرن الثامن الهجري – الثالث عشر الميلادي) وبين العصر الذي يعيش فيه، حيث «التعقيدات والاضطرابات والتناقضات نفسها»، (ص 53). وعبّر جلال شاكر في الفصل الموسوم «الهروب القاتل» عن مثل هذا الإحساس بالتناظر، عندما فكر بطبيعة شخصية الشيرازي:

«وشعرت بأن الشيرازي يواجه ظروفاً وعصراً ومرحلة معقّدة ومستعرة تشبه إلى حد ما، ما نمرّ به أنا وليلى، ومير قرباني وبهار». (ص 76)

وهذا ما يدفعنا إلى القول: إن البنية السردية للرواية تنهض على وجود مثلث سردي، رأسه الأعلى يمثل سرديات حافظ الشيرازي، والرأسان السفليان يضمّان سرديات الجندي العراقي جلال شاكر، عن الحرب وحبيبته ليلى. وسرديات الجندي الإيراني عن حافظ الشيرازي وحبيبته بهار. ويمكن أن نلاحظ أن رأس المثلث العلوي الذي يمثله حافظ الشيرازي يشعَّ على الرأسين السفليين، ويلهمها الصبر والشجاعة والأمل لمواجهة مآسي الحرب المفروضة عليهما.

من جهة أخرى، الرواية تنطوي على أكثر من نص سردي لبناء شخصية حافظ الشيرازي عبر مرويات وكتابات ومخطوطات مختلفة، فهناك نص سيَرَي (بيوغرافي) يكتبه الإيراني (مير قرباني) في «المخطوطة»، ونص آخر يكتبه العراقي (جلال شاكر) من قراءته للمخطوطة ولحياة حافظ الشيرازي، فضلاً عن مرويات شخصيات مشاركة أو مراقبة منها شخصية الأم، وتلامذة حافظ الشيرازي، ورجال الدين، والملك، والحكام، ورجال السالوس، من البصاصين وكتبة التقارير. لكنّ الجوهر يكمن في نص السيرة الذاتية (الأوتوبيوغرافي) الذي يكتبه حافظ الشيرازي عن نفسه وأفكاره ورؤيته الصوفية في الحلول والعشق الجمالي. وبهذا فسيرة حافظ لا تُرسَم بطريقة خطّية مباشرة، بل تمر بتعرجات ومنعطفات، ولذا أطلق عليها المؤلف مصطلح «العروج»، وهو مصطلح قرآني يعني الوصول، بطريقة متعرجة إلى السماء، وهو ما يشير إليه العنوان «العروج إلى شيراز» ودلالته السيميائية العميقة. والعروج هنا يذهب، في الجوهر، إلى عملية ملاحقة تشكل شخصية حافظ الشيرازي أيضاً.

تثير رواية «العروج إلى شيراز» في ذهني، بوصفي قارئاً، مجموعة من الإحالات والتناصات والتماثلات. فعنوان الرواية «العروج إلى شيراز» يلتقي مع عنوان رواية الروائي الفرنسي (سينويه)، وهي عن الفيلسوف الإيراني ابن سينا، كما أن الرواية تُذكّرنا بمجموعة من الروايات التي تناولت تجارب مستمَدّة من الثقافة الإيرانية، منها رواية «سمرقند» للروائي اللبناني أمين معلوف، ورواية «منازل ح 17» للروائية العراقية رغد السهيل، وأهم من كل هذا وذاك، هناك التناظر الواضح بين رواية «العروج إلى شيراز» ورواية أليف شافاك الموسومة بـ«قواعد العشق الأربعون»، حتى يمكن القول إن رواية شافاك هي النص الغائب لرواية عباس لطيف. والروايتان تتحركان عبر مستوىين تاريخيين: مستوى تاريخي يغوص في التراث الإيراني، ومستوى معاصر ينغمس بالحياة اليومية المعاصرة. ففي رواية أليف شافاك نجد (إيلا رونشتاين)، وهي ناقدة تعمل في وكالة أدبية، تنهمك بالبحث عن حياة الدرويش شمس التبريزي، الذي حوّل حياة رجل الدين (جلال الدين الرومي) من سجن الصوفية إلى فضاء الحب والحرية والإيمان بإمكانية توحيد الناس والأديان. وتجد (إيلا) نفسها واقعة تحت هذا التأثير السحري لتلك الشخصية التاريخية، فتبدأ حياتها بالتغير تحت هذا التأثير، وهو ما نجده أيضاً من تأثر كلٍّ من (مير قرباني) و(جلال شاكر) بشخصية الشاعر حافظ الشيرازي.

رواية «العروج إلى شيراز»، هي في الجوهر رواية شخصية (Personality Novel)، وهذه الشخصية، بالمفهوم السيميولوجي، شخصية مرجعية تاريخية، بمفهوم الناقد الفرنسي فيليب هامون في كتابه «سيميولوجية الشخصية الروائية» المترجَم إلى العربية. ويرى هامون أن الشخصية «مورفيم» فارغة في الأصل، وتمتلئ تدريجياً كلما تقدمنا في قراءة النص. لكننا في حالة شخصية حافظ الشيرازي، نجد أنفسنا إزاء شخصية تاريخية ومرجعية معروفة، ولذا فهي تحيل عادةً على عوالم مألوفة ضمن نصوص الثقافة والتاريخ. وبذا فليست شخصية (حافظ الشيرازي)، هنا، مجرد (مورفيم فارغ) لأنها تشعّ، في ذاكرة القارئ، كمّاً معرفياً من البيانات والحقائق التاريخية التي تجعل هذه الشخصية مألوفة للقارئ، وليست مجرد (مورفيم فارغ) كما هو الحال في الشخصيات التي لا تمتلك رصيداً تاريخياً وامتداداً قبْلياً في ثقافة القارئ وذاكرته.

رواية «العروج إلى شيراز» كما أشرت سابقاً رواية مركبة، وهي ثمرة بحث واستقصاء وتبصُّر عميق في إشكاليات الماضي والحاضر، وهي أيضاً صرخة مدوّية في وجه مشعلي الحروب، ودعوة إلى إشاعة السلام والمحبة بين البشر.

والرواية، من جهة أخرى، محاولة موفقة لاستعادة شخصية الشاعر حافظ الشيرازي من سجلات التاريخ وتقديمه بوصفه شخصية حية معاصرة ومؤثرة في الواقع الافتراضي للسرد.


مقالات ذات صلة

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

ثقافة وفنون سانت إكزوبيري

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

تتويج كمال داود بجائزة «الغونكور»، وهي أبرز تكريم أدبي فرانكفوني على الإطلاق، لم يكن مفاجأة، فمنذ أشهر توقّعت عدة تقارير فوز الكاتب الجزائري بالجائزة المرموقة

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون «اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرح

«الشرق الأوسط» (الشارقة)

رحيل إبراهيم أبو سنة... شاعر الرومانسية العذبة

الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة
الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة
TT

رحيل إبراهيم أبو سنة... شاعر الرومانسية العذبة

الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة
الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة

حياة حافلة بالعطاء الأدبي، عاشها الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة الذي غيّبه الموت صباح أمس عن عمر يناهز 87 عاماً بعد معاناة طويلة مع المرض.

ويعد أبو سنة أحد رموز جيل شعراء الستينات في مصر، واشتهر بحسه الرومانسي شديد العذوبة، وغزلياته التي تمزج بين الطبيعة والمرأة في فضاء فني يتسم بالرهافة والسيولة الوجدانية. كما تميزت لغته الشعرية بنبرة خافتة، نأت قصائده عن المعاني الصريحة أو التشبيهات المباشرة؛ ما منح أسلوبه مذاقاً خاصاً على مدار تجربته الشعرية التي اتسعت لنصف قرن.

ترك أبو سنة حصاداً ثرياً تشكل في سياقات فنية وجمالية متنوعة عبر 12 ديواناً شعرياً، إضافة إلى مسرحيتين شعريتين، ومن أبرز دواوينه الشعرية: «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» 1965، و«أجراس المساء» 1975، و«رماد الأسئلة الخضراء» 1985، و«شجر الكلام» 1990.

عاش صاحب «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» طفولة قروية متقشفة تركت أثراً لافتاً في شعره؛ إذ ظل مشدوداً دائماً إلى بداهة الفطرة وواقعية الحياة وبساطتها.

وبحسب الموقع الرسمي للهيئة المصرية العامة للاستعلامات، وُلد أبو سنة بقرية الودي بمركز الصف بمحافظة الجيزة في 15/3/1937، وحصل على ليسانس كلية الدراسات العربية بجامعة الأزهر عام 1964. عمل محرراً سياسياً بالهيئة العامة للاستعلامات في الفترة من عام 1965 إلى عام 1975، ثم مقدم برامج ثقافية بالإذاعة المصرية عام 1976 من خلال «إذاعة البرنامج الثاني»، كما شغل منصب مدير عام البرنامج الثقافي، ووصل إلى منصب نائب رئيس الإذاعة.

وحصد الراحل العديد من الجوائز منها: «جائزة الدولة التشجيعية» 1984 عن ديوانه «البحر موعدنا»، وجائزة «كفافيس» 1990 عن ديوانه «رماد الأسئلة الخضراء»، وجائزة أحسن ديوان مصري في عام 1993، وجائزة «أندلسية للثقافة والعلوم»، عن ديوانه «رقصات نيلية» 1997، فضلاً عن «جائزة النيل» في الآداب التي حصدها العام الجاري.

ونعى الراحل العديد من مثقفي مصر والعالم العربي عبر صفحاتهم على منصات التواصل الاجتماعي، ومنهم الشاعر شعبان يوسف الذي علق قائلاً: «وداعاً الشاعر والمبدع والمثقف الكبير محمد إبراهيم أبو سنة، كنتَ خيرَ سفيرٍ للنبلِ والجمالِ والرقةِ في جمهورية الشعر».

وقال الشاعر سمير درويش: «تقاطعات كثيرة حدثت بين الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة وبيني، منذ بداياتي الأولى، فإلى جانب أنه صوت شعري صافٍ له تجربة طويلة وممتدة كان لي شرف الكتابة عنها وعنه، فهو إنسان حقيقي وجميل وطيب ومحب للآخرين، ولا يدخر وسعاً في مساعدتهم».

ويضيف درويش: «حين كان يقرأ الشعر بصوته في برنامجه الإذاعي، كنت أحب القصائد أكثر، فمخارج الحروف وإشباعها وتشكيلها، وليونة النطق، إلى جانب استعذاب الشعر... كلها مواصفات ميزته، كما ميزت فاروق شوشة والدكتور عبد القادر القط... ثمة ذكريات كثيرة لن أنساها يا أستاذنا الكبير، أعدك أنني سأكتبها كلما حانت فرصة، وعزائي أنك كنتَ تعرف أنني أحبك».

ويستعيد الكاتب والناقد الدكتور زين عبد الهادي ذكرياته الأولى مع الشاعر الراحل وكيف أحدث بيت شعري له تغييراً مصيرياً في حياته، قائلاً: «ربما في سن المراهقة كنت أقرأ الشعر حين وقع في يدي ديوان صغير بعنوان (قلبي وغازلة الثوب الأزرق) لمحمد إبراهيم أبو سنة حين قررت الهجرة خارج مصر عام 1981، كان الديوان الصغير وروايات (البلدة الأخرى) لإبراهيم عبد المجيد، و(البيضاء) ليوسف إدريس، و(حافة الليل) لأمين ريان، و(ميرامار) لنجيب محفوظ... هي شهود انتماءاتي الفكرية وما أتذكره في حقيبتي الجلدية».

ويضيف عبد الهادي: «كان الغريب في هؤلاء الشهود هو ديوان محمد إبراهيم أبو سنة، فبقدر حبي للعلم كان الأدب رحيق روحي، كنت أقرأ الديوان وأتعلم كيف يعبّر الشعر عن الحياة المعاصرة، إلى أن وصلت لقصيدة رمزية كان بها بيت لا أنساه يقول: (البلاد التي يغيب عنها القمر)، في إشارة لقضية ما أثارت جدلاً طويلاً وما زالت في حياتنا المعاصرة، كان هذا البيت أحد أهم دوافع عودتي من الغربة، فمهما كان في بلادي من بؤس فهو لا يساوي أبداً بؤس الهجرة والتخلي عن الهوية والجذور».

أما الشاعر سامح محجوب مدير «بيت الشعر العربي» بالقاهرة فيقول: «قبل 25 عاماً أو يزيد، التقيت محمد إبراهيم أبو سنة في مدرجات كلية (دار العلوم) بجامعة القاهرة، وأهداني وقتها أو بعدها بقليل ديوانه المهم (قلبي وغازلة الثوب الأزرق)، لأبحث بعد ذلك عن دواوينه الأخرى وأقتني معظمها (مرايا النهار البعيد، والصراخ في الآبار القديمة، ورماد الأسئلة الخضراء، ورقصات نيلية، وموسيقى الأحلام)، وغيرها من الدواوين التي قطع فيها أبو سنة وجيله من الستينيين في مصر والوطن العربي مسافة معقولة في توطين وتوطئة النص التفعيلي على الخط الرأسي لتطور الشعرية العربية التي ستفقد برحيله أحد أكبر مصباتها».

ويضيف: «يتميز نص أبو سنة بقدرته الفائقة على فتح نوافذ واسعة على شعرية طازجة لغةً ومجازاً ومخيلةً وإيقاعاً، وذلك دون أن يفقد ولو للحظة واحدة امتداداته البعيدة في التراث الشعري للقصيدة العربية بمرتكزاتها الكلاسيكية خاصة في ميلها الفطري للغناء والإنشادية. وهنا لا بد أن أقرّ أن أبو سنة هو أجمل وأعذب مَن سمعته يقول الشعر أو ينشده لغيره في برنامجه الإذاعي الأشهر (ألوان من الشعر) بإذاعة (البرنامج الثاني الثقافي) التي ترأسها في أواخر تسعينات القرن المنصرم قبل أن يحال للتقاعد نائباً لرئيس الإذاعة المصرية في بداية الألفية الثالثة؛ الفترة التي التحقت فيها أنا بالعمل في التلفزيون المصري حيث كان مكتب أبو سنة بالدور الخامس هو جنتي التي كنت أفيء إليها عندما يشتد عليّ مفارقات العمل. كان أبو سنة يستقبلني بأبوية ومحبة غامرتين سأظل مديناً لهما طيلة حياتي. سأفتقدك كثيراً أيها المعلم الكبير، وعزائي الوحيد هو أن (بيت الشعر العربي) كان له شرف ترشيحك العام الماضي لنيل جائزة النيل؛ كبرى الجوائز المصرية والعربية في الآداب».

عاش صاحب «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» طفولة قروية متقشفة تركت أثراً لافتاً في شعره

وفي لمسة احتفاء بمنجزه الشعري استعاد كثيرون قصيدة «البحر موعدنا» لأبو سنة التي تعد بمثابة «نصه الأيقوني» الأبرز، والتي يقول فيها:

«البحرُ موعِدُنا

وشاطئُنا العواصف

جازف

فقد بَعُد القريب

ومات من ترجُوه

واشتدَّ المُخالف

لن يرحم الموجُ الجبان

ولن ينال الأمن خائف

القلب تسكنه المواويل الحزينة

والمدائن للصيارف

خلت الأماكن للقطيعة

من تُعادي أو تُحالف؟

جازف

ولا تأمن لهذا الليل أن يمضي

ولا أن يُصلح الأشياء تالف

هذا طريق البحر

لا يُفضي لغير البحر

والمجهول قد يخفى لعارف

جازف

فإن سُدَّت جميع طرائق الدُّنيا أمامك

فاقتحمها

لا تقف

كي لا تموت وأنت واقف».