الرواية بوصفها مدوّنة للحلم الفلسطيني

توظيف المخطوطة في «الكراكي» لحسن حميد

الرواية بوصفها مدوّنة للحلم الفلسطيني
TT

الرواية بوصفها مدوّنة للحلم الفلسطيني

الرواية بوصفها مدوّنة للحلم الفلسطيني

رواية «الكراكي» للروائي الفلسطيني حسن حميد، الصادرة عام 2023، ليست واحدة من مدونات الحلم الفلسطيني بقدر ما هي مدونة لهذا الوجع؛ إذْ سبق لهذا الروائي وأن قدم عدداً من الروايات والقصص التي تتمحور حول نضال الشعب الفلسطيني تحت ظل الاحتلال الإسرائيلي، وحق هذا الشعب تاريخياً في أرضه ومائه وسمائه.

منذ البداية يكشف الروائي عن خطته السردية التجريبية في كتابة الرواية باعتماد البنية الميتاسردية، من خلال توظيف المخطوطة بنية نصية متحكمة في السرد الروائي؛ إذ يعلن لنا الروائي أنه قد عثر على هذا الكتاب الروائي في صندوق جده إلياس الشمندوري:

«هذا كتاب عثرت عليه في صندوق جدي إلياس الشمندوري الذي عاش في الأزمنة الغابرة، وقد كان من القرائين والكتبة المعدودين آنذاك». (ص 7)

ولكي يمنح الروائي للتاريخ حضوراً وامتداداً في عمق المجتمع الفلسطيني يقول إن أربعين جداً تهيبوا من فتح الصندوق لأنهم تعاهدوا واحداً بعد واحد على عدم فتحه؛ حفاظاً على ما فيه من أسرار. ولذا فهو الوحيد الذي تجرأ على كسر الصندوق واكتشاف هذه المخطوطة التي أعاد نشرها دونما تعديلات جذرية.

وبعد أن ينتهي الراوي الأول من تقديم هذه الإيضاحات في مستهل الرواية تحت عنوان «عتبة لا بد منها» يحيل السرد إلى جده إلياس الشمندوري الذي يوظف بدوره ضمير المتكلم الأوتوبوغرافي، ويتحدث عن شخصية «سيدنا» الأسطورية بمعجزاته الخارقة، وعن بحيرة طبرية وأناسها وشمسها وسمائها وينابيعها:

«قال جدي إلياس الشمندوري:

أنا لم أر سيدنا هنا في طبريا

كنت صغيراً آنذاك، ولم أعرف عن حضوره شيئاً إلا عندما كبرت». (ص 10)

وترتقي الرؤية السردية من عين الطفل البريئة إلى عين الشاب العاشق، بطريقة لا تخلو من خطية؛ إذْ نجد وصفاً طفولياً مفعماً بالدهشة لشخصية الأب طنوس راعي الكنيسة في البلدة:

«في هذه الكنيسة الصغيرة العالية، يوجد رجل طويل ناحل، طويل الوجه، طويل الذراعين، طويل الأنف والأصابع والقدمين، رجل كل شيء فيه طويل حتى شعر رأسه، هو راعي الكنيسة». (ص12)

وبهذه اللمسة الوصفية نكتشف أننا إزاء مجتمع فلسطيني مسيحي، هو مجتمع قرية (صبيرات) في مدار بحيرة (طبريا) التي تقع بين منطقة الجليل وهضبة الجولان شمال فلسطين.

وفي هذا المجتمع يُعمّد الطفل الصغير عبد الله والمكنى بـ«عبودة» من قبل الأب طنوس، الذي ظنه أباه الذي ذهب إلى الميناء ليجد عملاً ولم يعد ولذا تعلق به، وبراهبة اسمها (ماريا) ساهمت في تعليمه الكتابة والرسم والموسيقى، شعر بعدها بأن قلبه يدق لها بشدة، وأنها تملأ أحلامه وتفكيره ومشاعره، وهكذا يحيل الجد إلياس الشمندوري خيط السرد للروائي (عبودة) الذي يصبح سارداً رئيسياً للرواية. ومثلما تحرك حجرة صغيرة سطح بحيرة ساكنة، ألقى الروائي بحجارة صغيرة حركت مياه السرد طيلة هذا المتن النصي المتوتر. وهذه الحجارة تتمثل في وصول حشد من الغجر إلى القرية، يذكرنا بماركيز ومخيم الغجر وملكياس في رواية «مائة عام من العزلة»، حيث يصل حشد من الغجر على مقربة من قرية (صبيرات) في كرنفال شعبي:

«من بعيد، وعلى مقربة من قرية (صبيرات) بدأ المشهد أشبه بكرنفال شعبي، تتقدمه وتحيط به ضجة صخّابة، فيها غناء وإنشاد، ودق وزعيق وقرع». (ص 23)

ويغيّر وصول حشد الغجر هذا هدوء القرية وحياتها، ويعيد تشكيل العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين أبنائها؛ إذ يتعرف أبناء القرية، ربما لأول مرة، على فنون وعلوم وتجارب جديدة قلبت حياتهم رأساً على عقب.

وعلى قرع الطبول والدفوف والضرب على أواني النحاس والنفخ في النايات والمزامير تشرع النساء في الرقص والهرج، فيتراكض أطفال قرية (الصبيرات) إلى مهرجان الحشد، ويعقبهم أبناء القرية الذين يساهمون ببناء خيمة كبيرة منزلاً لأفراد الحشد، وينجح الروائي في تقديم وصف شيء يذكرنا بمدرسة الرواية الجديدة في فرنسا لكل تفاصيل هذا المهرجان الباذخ وشخصياته وألعابه وطقوسه الغريبة. وتطل خلال هذا الاشتباك شخصيات أسطورية منها شخصية الكاهن الذي ينادونه بالخال، والذي جاء ليعلن عن ولادة طفل في هذه القرية سيكون هو خال القرية والقرى المجاورة. وبعد ممانعات عدة من قبل الأم التي حاولت إخفاء ابنها نكتشف أن (عبودة) الذي يحمل وسماً خاصاً بشكل بقعة زرقاء تحت عينه اليمنى، وحبة عنب ذات لون بنفسجي على كتفه اليسرى، وهو الذي سيكون الخال الجديد، والذي سرعان ما تحول إلى كائن مقدس أقرب ما يكون إلى الأسطورة الشعبية:

«لا أدري كيف مَرَّ في بال أهل (الصبيرات) أنني الكاهن الجديد، فراح الجميع الصغار والكبار يتحدثون عني باحترام شديد يقارب القداسة». (ص 38)

وتشغل حبكة الحب بين (عبودة والراهبة ماريا) حيزاً كبيراً ومتنامياً في السرد كما تحمل مكانة خاصة قصة الحب بين الغجرية (فضة) التي جاءت مع مخيم الغجر وشاب من القرية اسمه (الزهروري). كما تتحول الرواية تدريجياً إلى بنية بحث عن الغائب، أو بالأحرى عن الغائبين، خاصةً بعد غياب الراهبة ماريا والغجرية (فضة) والأم.

تمتلك حكاية الحب التي جمعت بين الغجرية (فضة) التي جاءت مع حشد الغجر وصياد السمك الشاب (الزهروري) لمسة رومانسية عميقة منحت الرواية رقة وعذوبة، فقد كان الزهروري مسحوراً بجمال (فضة)، لذا ظل يلاحقها، وعندما فُجعت بوفاة والدتها، انخرطت في بكاء متواصل، لكن الزهروري حاول التخفيف عنها:

«بدأ أشبه برفيقة لها، فراح يواسيها ويصبّرها ويرجوها ألا تدمر روحها، ولم يفطن أحدهما، لا هو ولا هي، أنهما باتا الليل محاضنةً». (ص 113) وعندما رحلت (فضة) ظن الزهروري أن الحياة غادرته. (ص 166). وبدأ العاشق صياد السمك الزهروري رحلة بحثه عن فضة «في رحلة البحث عن بنت غجرية جميلة ترقص كما يرقص الشجر، اسمها فضة». (170)

ويقول الزهروري بأسىً ويأس:

«درنا الدنيا كلها،

ولم نعثر على فضة». (ص 170)

وحكاية غياب (المبروك يحيى) من الحكايات التي أثرت في اهتمام أهل القرية، واحتار الناس في معرفة سبب غيابه، طوال أيام الثلج الذي غمر البلدة، ولم يعرف أحد مصيره:

«ولهذا صدّق الناس أن المبروك يحيى لاقى وجه ربه». (ص 176)

خاصة بعد أن وجد أحد رعيان البلدة ثياب المبروك يحيى وبعض عظامه (ص177)، وكان المبروك شاباً «زينة» يبيع العطور وأدوات الزينة والملابس، وكل ما يخص النساء، لذا كن متعلقات به، وأحبته ابنة صاحب السيارة الوحيدة في القرية إسماعيل أبو ليرة، واسمها رجاء، وبكتْه حين صار للمبروك يحيى قبراً». (ص 181)

أما قصة الحب التي جمعت بين بطل الرواية (عبودة) أو (عبد الله) والراهبة (ماريا)، فقد امتدت على طول الرواية، منذ بدايتها وحتى نهايتها. وبدأت الحكاية عندما أخذت (هدلة) أم (عبودة) ولدها الصغير إلى الكنيسة الصغيرة مستنجدة براعيها الأب (طنوس)؛ لكي يجد علاجاً لولدها الصغير الذي عانى كثيراً بعد ولادته، ويصف الطفل الأب طنوس وصفاً طفولياً ساذجاً عندما رآه، كما أشرنا إلى ذلك تواً.

واستمر الأب طنوس بعلاج (عبودة) لأيام طويلة، وعندما كان ينشغل بأمور الكنيسة، كان يترك الطفل مع راهبة اسمها (ماريا):

«بعد أن اطمأن عليَّ... دفعني إلى راهبة اسمها ماريا.

يا لماريا، فقد وقعت صورتها في قلبي منذ أن رأيتها، فانجذبت إليها». (ص 17)

وهكذا بدأت قصة الحب تنمو في قلبه تدريجياً، وهو يشب عن طوق الطفولة ويدخل مرحلة الشباب، ففاتحها بحبه لها، وفوجئ بأنها تبادله الحب، وأنها تنتظر هذه الكلمة منه. وكان سرور (عبودة) كبيراً عندما أخبرته أمهُ بأن (ماريا) ليست منذورة للكنيسة، وأن بإمكانها أن تتزوج منه. وهكذا بدأ يخطط للزواج منها، ولبناء عش زوجية خاص بهما. وفجأة غابت (ماريا) عن الكنيسة، وبدأت معها رحلة البحث المضنية عنها. وأخبره الأب (طنوس) أنها ذهبت بصحبة بعض الأخوات الراهبات إلى القدس والخالصة لأمور كنسية؛ لذا فقد عزم عبودة على القيام بسلسلة رحلات بحثاً عنها، لكنه لم يعثر لها على أثر في كل المدن الفلسطينية، وأخبره الأب طنوس أنها صارت شامية:

«الراعيات هناك في الخالصة أخذنها إلى الشام!». (ص 198)

وتضاربت الآراء؛ فمنهم من نفى خبر سفرها إلى الشام، ولأول مرة تبدأ مخاوف الناس من «جنود شقر وقفوا فوق جسور النهر، وقد حالوا بين الناس والدخول والخروج من دون أوراق وتصاريح». (ص 196)

وهي إشارة لهيمنة الاحتلال الإسرائيلي وتحكّمه في مصائر الفلسطينيين.

ومما زاد من محنة الشاب (عبودة) اختفاء أمه المفاجئ، بعد أن ذهبت إلى الميناء بحثاً عن زوجها (عزيز)، وكما أخبره الأب طنوس: «إنها تبحث عن والدك عزيز، ولن تتركه حتى تعود به إليك». (ص 207)

وقال عبودة بأسىً:

«لا أخبار عن ماريا، ولا أخبار عن أمي». (ص 213)

ولذا فقد عزم عبودة على مواصلة البحث عن ماريا وأمه:

«أحكمت أمري أن أطوي غياب أمي وماريا بالبحث عنهما، حتى لو صارت حياتي كلها هي البحث عنهما». (ص 217)

ومما زاد من فجيعة (عبودة) بعد غياب (ماريا) وأمه، الخبر الصاعق الذي جاء به هارون بوفاة الأب طنوس المفاجئ (ص 224)، حيث أحس عبودة أن الحياة قد ماتت بموت الأب طنوس.

وتختتم الرواية بتساؤل يائس موجّه إلى الرب، عما يمكن أن يفعله بعد أن غدا وحيداً:

«قل لي يا إلهي، ماذا أفعل وقد غدوت وحيداً تماماً، والجنود الشقر على الجسور، وفي مفارق الطرق، وفي القرى والمدن؟». (ص 226)

وفي هذا التساؤل الإشكالي يطرح الروائي محنة الفلسطينيين الجوهرية متمثلة بوجود قوى الاحتلال الإسرائيلي، مجسدة بالجنود الشقر على الجسور وفي مفارق الطرق.

وبذا تكون رواية «الكراكي»، كما قلنا مدونة مهمة من مدونات النضال المشروع للشعب الفلسطيني لتحرير أرضه ومائه وسمائه، وهي ملحمة إنسانية تنضح بالحب وبحب الأرض والطبيعة، حتى ليمكن القول إن الحب هو الروح التي تتسربل بها أجواء الرواية؛ حبٌ للآخر وللأرض وللماء والسماء.

وربما يمثل رمز الكراكي الذي اتخذه الروائي عنواناً دالاً لروايته إحدى الدوال السيميائية الكاشفة عن جوهر هذا الوجود الفلسطيني على الأرض الفلسطينية عبر التاريخ؛ إذ يشير الروائي إلى حشد من طيور البط والإوز التي تموج مثل حقل سمسم تزيد المشهد جمالاً، وكانت طيور الكراكي تتقدم دونما خوف، كما لو أنها قطيع من الدهشة الآسرة... إنها تقترب كأنها خراف جمعها المطر. (ص 50) وكان الروائي في عتباته النصية الصغيرة قد عبّر عن حزنه لضياع أسطر من المخطوطة تتحدث عن الكراكي التي «غدت تعيش في بلدة جدي إلياس الشمندوري، كما لو أنها الخراف». (ص9) وفي أجواء الاحتفالات الشعبية كانت طيور الكراكي تقف وقد بدت أشبه بالحراس للمكان». (ص 53) وفي إحدى المناسبات «بدت النساء بأثوابهن مثل طيور الكناري» (ص 186) وعبّر الأب طنوس عن رمزية الكراكي، وهو يتحدث إلى هدلة «والدة الراوي عبودة»، أنها أخوة عبودة وأخوة من لا أخوة له:

«إنها خراف السماء، خراف النبي، إنها عنوان الأمن والأمان، ومعنى الطمأنينة والسلام، إن حضرت حضر الأمن والأمان والسلام، وإن غابت، غاب الأمن والأمان والسلام». (ص 215)

وبهذه الكلمات لخص الأب طنوس رمزية الكراكي بوصفها عنواناً للأمن والطمأنينة والسلام، وهو ربما ما دفع بالروائي حسن حميد لأنْ يختار الكراكي عنواناً لروايته المدهشة هذه، بوصفها عتبة نصية دالة ترمز إلى البعد الروحي والثقافي المتجذر للإنسان الفلسطيني، المتشبث بأرضه وتاريخه وأحلامه، وحلمه في توفير الأمن والطمأنينة والسلام.



«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ
TT

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث». رفضاً للتجاهُل وتغليب السكوت، تُصدر دار «رياض الريس للكتب والنشر»، من بيروت، كتاب «معتقلون ومغيّبون» في القضية السورية، بيقين أنّ «الفنّ يوثّق والأرشيف يتحدّث»، كما أعلن غلافه الأحمر بتسجيله هذا الموقف.

انطلق الكتاب من واقع اعتمال مسألة الاعتقال والتغييب في وجدان عموم السوريين، وتحوّلها لتكون «من المشتركات الوحيدة تقريباً بينهم اليوم». تؤكد إنسانية الملف، وبُعداه السياسي والحقوقي، أهمية الكتاب، ليُكمل ما أرسته الملاحقات والدعاوى والأحكام القضائية في بلدان اللجوء، وتحديداً أوروبا، ضدّ مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.

يعود الكتاب إلى ما وثّقته «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» التي تؤكد «بلوغ حصيلة الاعتقال التعسفي في سوريا منذ مارس (آذار) 2011 حتى مارس 2024 ما لا يقلّ على 156757 شخصاً، فيما بلغت حصيلة الضحايا بسبب التعذيب خلال المدّة عينها ما لا يقلّ على 15393 شخصاً. أما حصيلة الاختفاء القسري حتى 30 أغسطس (آب) 2023، فبلغت ما لا يقلّ على 112713 شخصاً؛ بشكل أساسي على يد النظام، تليه جميع قوى الأمر الواقع المسيطِرة».

هو لا يدّعي النقد الفنّي ولا البحث التحليلي، وفق مقدّمته. «إنما الكتابة التوثيقية والراصدة، تُسهم في بناء المعرفة عن واقعنا السوري، وتبحث وتُنقّب وتجمع وتؤرشف، وتربط الأحداث والأفعال». فترصد الصفحات الـ474 ثيمة الاعتقال والتغييب منذ عام 2011 حتى نهاية 2020، استناداً إلى ما شهده مجالا الفنّ والثقافة؛ وذلك على مستويين: الأول يرصد بشكل مباشر مبدعين اعتُقلوا أو خُطفوا أو قُتلوا ضريبةَ موقفهم المُعارِض من النظام، المُعبَّر عنه في أعمالهم الفنّية أو أنشطتهم الفعلية خارج الفنّ؛ وهو ما دَرَج بكثافة في سنوات الثورة السورية الأولى، ليرصد المستوى الثاني - عبر الأعمال الإبداعية المختلفة - مَن اعتُقل أو غُيِّب من المواطنين والمواطنات بُعيد الانخراط في الشأن العام والعمل المُعارِض.

طوال السنوات العشر الماضية، تتبَّع فريق «ذاكرة إبداعية» هذه الثيمة، مُحدِّداً الاعتقال الأول بأطفال درعا الذي شكَّل شرارة انطلاق الثورة السورية، مروراً بالتطوّرات والتحوّلات في مسألة الاعتقال والتغييب، سارداً تفاصيل الأحداث اللاحقة والمتوالدة من إضرابات وعصيان في السجون، وحملات وتحرّكات ومبادرات في الداخل السوري ودول اللجوء، وصولاً إلى جهود تدويل هذه القضية سعياً نحو العدالة، والتجاذبات السياسية حولها، والمحاكمات الدولية. ذلك وسط تأكيد الموثّقين على «الموضوعية والحيادية، بغرض تثبيت الأحداث وحفظها من الضياع».

يتناول كل فصل من الفصول العشرة التي تؤلّف الكتاب، سردية عام كامل؛ فيبدأ بمقدمة تُلخّص المعطيات والأحداث المفصلية خلال السنة، يليها عرض مفصَّل لِما توصّل إليه الباحثون من «انتهاكات النظام وكل قوى الأمر الواقع، والأحداث التابعة لها والناتجة عنها، وفق المكان والزمان، استناداً إلى مئات المصادر في كل فصل، وما تبع ذلك من تحرّكات داخلية وخارجية، شعبية أو فردية أو جماعية، وحملات في وسائل التواصل».

وبفعل البحث، اكتُشفت مئات الأعمال الفنية والثقافية، المرتبطة بالثيمة المُعالَجة بمختلف أنواعها، وجُمعت، ثم وُثِّقت تباعاً؛ لترصد خاتمة الكتاب امتداد الأحداث الرئيسية المتتابعة المتعلّقة بالاعتقال والتغييب، التي حصلت بعد عام 2020 حتى تاريخ الانتهاء من إعداده.

يضيف عرض الأعمال الفنية والإبداعية والثقافية، إلى جنس الكتاب التوثيقي، بُعداً بصرياً. فاللافتات، والغرافيتي، ولوحات الفنّ التشكيلي... المُحاكية للإشكالية، يَسْهُل تصفّحها بواسطة وسوم وفلاتر متنوّعة، مثل: أصناف، أصحاب أعمال، مناطق جغرافية، تواريخ، وسوم عامة ووسوم خاصة؛ إذ وُضعت لهذه الأعمال، بأغلبيتها، السياقات المرتبطة بها. أما دليل مشروع «معتقلون ومغيّبون»، فيحسبه الكتاب «الأول من نوعه الذي يجمع في مكان واحد جميع أنواع المبادرات المتخصِّصة أو التي تُولي موضوع الاعتقال والتغييب اهتماماً فريداً». ويتابع أنه «يحوي توثيقاً كبيراً للمبادرات، بلغت 155 مبادرة موزَّعة في تصنيفات متعدّدة، مثل: مراصد حقوقية دولية، ومراصد محلية وإقليمية، ومنظمات وجهات، ومجموعات، وحمَلات مُناصرَة ومبادرات فردية، ووسائل تواصل اجتماعي»، مع التأكيد على دور هذا الدليل في فهم طبيعة عمل المبادرات والأنشطة والفئات المُستهدَفة.

من الصعوبات والتحدّيات، وُلد الإصدار. فالكتاب يشير إلى شقاء تلك الولادة، لتضارُب تواريخ الاعتقال أحياناً، وتواريخ تخلية سبيل المعتقلين، وتواريخ تنظيم الحملات والمبادرات. ثم يتوقّف عند «تباين المصادر الحقوقية لدى تناول حدث بعينه واختلافها، بشأن أعداد المعتقلين والمختفين قسراً والشهداء تحت التعذيب». ويُكمل عدَّ صعوبات المسار: «صعوبات مُرهقة تتعلّق بروابط بعض المصادر، لاختفاء بعضها في أثناء العمل أو بعده لأسباب خارجة على إرادتنا؛ ما فرض البحث عن مصادر بديلة، وإضافة أخرى جديدة لدى مراجعة الدراسة وتدقيقها»، من دون استثناء تحدّي شحّ المعلومات والمصادر عن حدث، والتحدّي المعاكس ممثَّلاً بغزارة المصادر والمراجع والمقالات المتعلّقة بأحداث أخرى.

كثيراً ما تساقط دمعٌ خلال البحث والكتابة، وغدر النوم بالباحثين أمام هول الاعتقال والتغييب. ولأنّ كثيرين فقدوا قريباً، أو صديقاً، أو جاراً، أو حبيباً، شاؤوا الاعتراض على «وحشية الظلم»، مدركين أنّ «طريق العدالة الطويلة بدأت، ولو خطوة خطوة».