اللّغة العربيّة وتكنولوجيا المعلومات

اليوم العالمي للغة الأم

اللّغة العربيّة وتكنولوجيا المعلومات
TT

اللّغة العربيّة وتكنولوجيا المعلومات

اللّغة العربيّة وتكنولوجيا المعلومات

يصادف اليوم، 21 فبراير (شباط)، «اليوم العالمي للغة الأم» الذي يعدُّ مناسبةً يُحتَفل بها في جميع أنحاء العالم لِتعزيز الوَعي بالتنوع اللغوي والثقافي وتعدد اللغات.

وأعلنت منظمة «اليونيسكو» للمرة الأولى هذه المناسبة 17 ديسمبر (تشرين الثاني) 1999م، ومن ثمّ أقرّته الجَمعية العامة للأُمم المُتحدة، وتَقرر إنشاء سَنة دَولية للغات عام 2008.

احتُفِل بـ«اليوم العالمي للغة الأم» منذ عام 2000 لتعزيز السلام وتعدد اللغات في جميع أنحاء العالم وحماية جميع اللغات الأم.

ورغم وجود أكثر من 6500 لغة في العالم، فإنّ نحو 2000 من هذه اللغات يقلّ عدد المتحدثين بها عن 1000 متحدّث.

واللغات الأكثر انتشاراً، وفقاً للأمم المتحدة هي: المندارين الصينية، والإسبانية، والإنجليزية، بالإضافة إلى العربية، والهندية، والبنغالية، والبرتغالية، واليابانية، والألمانية، والروسية، والفرنسية.

تعدّ اللّغة العربيّة واحدة من أقدم لغات العالم، وتتميّز بثراء مفرداتها وجمالها وقواعدها اللّغويّة المتنوّعة. فضلاً عن ذلك، فهي طيّعة، قابلة للتّطوّر، شأنّها شأن كلّ لغة تماشي العصر وتراعي مفرداته. غير أنّها لا تتخلّى عن أصالتها وإن داخلها الغريب من الكلمات، ذلك أنّها تسعى، بشتّى الطّرق، إلى تعريب كلّ دخيل طارئ على عالمها، لا سيّما أنّنا في عصر أصبح فيه العالم قرية كونيّة، بفضل وسائل التّواصل الاجتماعيّ والإعلام وغير ذلك من الأمور التي قرّبت المسافات، وربطت بين مختلف أصقاع الكرة الأرضيّة.

وعلى الرّغم من أنّ لغتنا لم تكن، بدايةً، لغة التّكنولوجيا، فإنّ تقدّم تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات أدّى إلى تغييرات كبيرة في كيفيّة استخدام اللّغة العربيّة وتأثيرها في المجتمعات النّاطقة بها.

في العقود الأخيرة، شهد العالم تطوّراً هائلاً في مجال تكنولوجيا المعلومات، ما أدّى إلى إدخال اللّغة العربيّة إلى عالم الإنترنت والحوسبة. ومن خلال تقدّم البرمجيّات وتطبيقات الهواتف الذّكيّة، باتت لغة الضّاد متاحة على نطاق واسع في العالم الرّقميّ.

ويمكننا ملاحظة تأثير تكنولوجيا المعلومات في اللّغة العربيّة بشكل واضح في جوانب متعدّدة، منها:

1- اللّغة العربيّة على الإنترنت: بفضل تقدّم تكنولوجيا المعلومات، ومع ازدياد استخدام الإنترنت، أصبح من الممكن نشر المحتوى باللّغة العربيّة على الإنترنت بشكل سهل وسريع، مما أسهم في زيادة الوعي باللّغة العربيّة، وتعزيز استخدامها، وجعلها متاحة أمام جميع الأفراد على اختلاف معارفهم وانتماءاتهم. وقد شمل هذا الأمر المواقع الإخباريّة والمدوّنات والمواقع التّجاريّة، وغير ذلك...

2- تطوير تطبيقات وبرمجيّات باللّغة العربيّة: بفضل الطّلب المتصاعد على البرمجيّات والتّطبيقات باللّغة العربيّة، بدأت الشّركات في تطوير منتجاتها لتلبية هذه الحاجة، بما في ذلك أنظمة التّشغيل، والبرامج المكتبيّة، والتّطبيقات الذّكيّة. وقد أسهم ذلك في توفير تجربة أفضل للمستخدمين الذين يتحدّثون ويتعاملون باللّغة العربيّة.

3- التّرجمة الآليّة: شهدت تقنيّات التّرجمة الآليّة تقدّماً كبيراً، مما أدّى إلى تحسين جودة التّرجمة بما في ذلك اللّغة العربيّة. وقد أسهم هذا الأمر في تسهيل التّواصل وتبادل المعرفة بين الثّقافات المختلفة.

صحيح أنّ هذا النّوع من التّرجمة سهّل التّفاهم أحياناً كثيرة بين مختلف الشّعوب النّاطقة بالعربيّة وغيرها من النّاطقين بلغات أخرى، إلّا أنّه لا بدّ من الإشارة إلى الثّغيرات التي لا تزال تعانيها ترجمة نصّ عربيّ إلى لغة أجنبيّة أو العكس، وذلك بسبب عجز التّقنيّات عن سبر أغوار الدّلالات والصّور التي قد يحملها نصّ أدبيّ مثلاً.

4- التّعليم عبر الإنترنت: هناك كثير من الموارد التّعليميّة عبر الإنترنت باللّغة العربيّة، بما في ذلك دورات تعليميّة، ومقاطع فيديو، وموادّ تعليميّة متنوّعة؛ فنجد مثلاً دروس نحو وصرف ووظائف كلام وشرح مفردات، والكثير من الأمور التي تساعد على الإلمام باللّغة العربيّة، والتّمكّن من قراءتها وفهمها، واستخدامها بشكل أفضل. كما أدّى ذلك إلى توسيع نطاق الوصول إلى التّعلّم والمعرفة بشكل كبير.

5- المحتوى الرّقميّ باللّغة العربيّة: يسهم الإنترنت ووسائل التّواصل الاجتماعيّ في إنشاء المحتوى باللّغة العربيّة ونشره. وهذا يشمل المقالات والفيديوهات والبودكاست والموادّ التّعليميّة التي تسهم في تعزيز استخدامها وجعلها لغة عالميّة منفتحة وواسعة الانتشار.

بهذه الطّرق وغيرها، تشكّل تكنولوجيا اللّغة العربيّة وتكنولوجيا المعلومات جزءاً حيويّاً من التّطوّر الحديث في العالم. فاللّغة العربيّة، التي تمتاز بثراء تاريخها وتنوّعها تلعب دوراً مهمّاً في التّواصل والتّفاعل في العالم الرّقميّ الحديث. وفي المقابل، تسهم تكنولوجيا المعلومات في تمكين اللّغة العربيّة وتعزيز استخدامها في مختلف المجالات.



«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية
TT

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً، كما عاشت شخوصه وأحداثه في ذاكرة الكاتب طويلاً تُلحُّ عليه أن يخرجها إلى النور. هو كتاب في حب البشر، خاصة أولئك المستثنين من حب بقية البشر. يبحث الرحيمي عن قاع المجتمع، فإذا ما وجده راح ينبش فيه عن قاع القاع. عن تلك الطبقة الدنيا التي ليس هناك ما هو أدنى منها. عن الطبقة التي أقصاها المجتمع عنه، حتى لم يعد يراها وإن رآها فلا يراها بشراً ولا يعدّها من جنسه، حتى نسيتْ هي أيضاً بشريتها. يلتقط الكاتب تلك الطبقة ويكتشف إنسانيتها ويكشف لنا عنها، يلتقط أفراداً منها، ويكشف لنا أنهم مثلنا تماماً وإنما طحنتهم قوى تاريخية ومجتمعية قاهرة حتى حجبت إنسانيتهم عمن حولهم، بل وعن ذواتهم. ينتشلهم الكاتب من قاع القاع ويغدق عليهم من فيض روحٍ مُحِبَّة للبشر ترفض أن تنسى من نسيهم المجتمع والتاريخ.

يكتب الرحيمي عن الريف المصري في شيء كثير من العاطفية والنوستالجيا. يكتب عن الريف الذي نشأ فيه قبل أن ينزح إلى المدينة ويكتب عن التحولات الهائلة التي ألمت به منذ الخمسينات من القرن العشرين إلى يومنا هذا. يكتب عما عاصره في نشأته ولكن أيضاً عما سمعه صغيراً من الأجيال الأسبق. يكتب عن بؤس الفلاح المصري في العصر الإقطاعي وخاصة عمّال «التملية»، المعروفين أيضاً بعمال التراحيل، والذين كتب عنهم يوسف إدريس في قصته الأشهر «الحرام» (1959)، وعن مجيء ثورة 1952 والإصلاح الزراعي الذي طال الكثيرين، لكنه أغفل «التملية» أو هم غفلوا عن الانتفاع منه لأنهم كانوا مسحوقين إلى حدٍ لا يمكنهم معه إدراك أن ثمة تغيرات كبرى تحدث في المجتمع وأنه يمكن لهم الانتفاع منها. يكتب أيضاً عن سائر التحولات التي جرت في الريف المصري بعد انتهاء الدور الإصلاحي لثورة 1952 والنكوص عن إنجازاتها المجتمعية في عصري السادات ومبارك، حتى لم يعد الريف ريفاً وتقلصت الزراعة واختفت المحاصيل ومواسمها التي من حولها نشأت تقاليد الريف المصري الحياتية وقيمه الأخلاقية التي دامت قروناً طويلة حتى اندثرت تدريجياً في العقود القليلة الماضية. يكتب على حد قوله «فيما جرى لبلدنا وقرانا».

يتجول الكتاب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة» في شرق الدلتا. تصبح القرية بؤرة لمصر كلها. تصبح رمزاً للثابت والمتحول، أو بالأحرى للثابت الذي تحوَّل إلى غير عودة بعد قرون وقرون من الثبات، ولا يساعدك النص أن تقرر ما إذا كان تَحَوَّلَ إلى الأفضل أو الأسوأ. فالأمران ممتزجان، وليس النص إلا محاولة لاسترجاع الأنماط الجميلة للحياة البشرية والبيئية التي ضاعت إلى الأبد ضمن التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القاهرة التي تُصنع في العاصمة لتطال موجاتها العاتية قرى مصر ونجوعها في كل مكان من حيث لم تكن تحتسب.

ما نراه في هذا الكتاب هو نماذج عديدة لآلام التحول ولكن أيضاً لأفراحه. نماذج للعامّ حين يقتحم حياة الأفراد فيرفع من يرفع ويخفض من يخفض ويعيد تشكيل ما يُسمى بالمجتمع. يخبرنا التاريخ المعاصر بحرب اليمن الفاشلة ضمن مشروع القومية العربية التوسعي لجمال عبد الناصر في ستينات القرن الماضي، لكن هذا النص يشعرنا بمأساة مجندي القرية مثل «المسكين» وآلاف أمثاله الذين ذهبوا ولم يرجعوا ليحاربوا حرباً لا يفهمون لها سبباً في بلد لم يسمعوا به قبلاً. يحدثنا التاريخ الذي عاصرناه أيضاً عن تهجير أهل مدن القناة حماية لهم من القصف الإسرائيلي عبر قناة السويس عقب هزيمة 1967. لكن الكتاب الذي بين أيدينا في الفصل المعنون «المهاجرون» هو الذي يرينا مذلة أولئك المهاجرين (أو المُهجَّرين كما عُرفوا وقتها في تسمية أصحّ) لدى وصول بعضهم للعيش في قرية «الدراكسة» بعيداً عن الخطر. لكنه أيضاً هو الذي يرينا قدرة المهاجرين على التأقلم مع الظرف الجديد، ويرينا الروح المصرية الأصيلة وقت الأزمة حيث يكرم أهل القرية ضيوفهم طويلي المكث خير إكرام. لكنه فوق هذا وذاك يحكي لنا من واعية الطفل الذي كأنه الكاتب في ذلك الوقت عن الأثر التمديني العميق الذي مارسه هؤلاء الضيوف الآتون من مدينة بورسعيد الساحلية ذات التاريخ الكوزموبوليتاني على القرية النائية المعزولة عن الحضارة، فلم يتركوها بعد سنوات إلا وقد تغيرت عاداتها العريقة في المأكل والملبس والمشرب والسلوك الاجتماعي. هكذا تختلط المآسي والمنافع في الحياة كما في كثير مما يصوره الكتاب.

يصعُب تصنيف «طباطيب العبر». هل هو تسجيل لتاريخ شفهي؟ هل هو مجموعة تحقيقات صحافية متأدِّبة؟ هل هو دراسة أنثروبولوجية عفوية تخففت من المناهج والتقعر الأكاديمي؟ هل هو رصد واقعي أم خيال قصصي؟ هل فصوله وحدات منفصلة أم أن ثمة شيئاً يصهرها معاً في كلٍّ؟ الأرجح أن الكتاب فيه من كل هذه الصفات وأن مرونته السردية جاءت نتاجاً للعاطفة الاسترجاعية الكامنة وراءه والتي كان من الصعب أن تُصبَّ في قالب جامد أو تسلسل زمني، وكان لا بد أن تكتب في هيئة زخات شعورية متباعدة. مرونة السرد هذه هي نفسها التي تجعل الكتاب في بعض المواضع يلتحق برومانسية محمد حسين هيكل في روايته الشهيرة عن الريف المصري «زينب» (1912؟ 1914؟)، بينما في مواضع أخرى نراه يلتحق بواقعية «نائب في الأرياف» (1937) لتوفيق الحكيم وبالتصويرات الواقعية لكتّاب الريف الآخرين، أمثال عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف القعيد وغيرهما، وعلى الأخص يوسف إدريس الذي لا أشك أنه كان له أثر كبير أسلوبياً وفكرياً على الرحيمي.

على أنني لا أظن أني قرأت عن الريف المصري كتابة تغرق مثل هذا الإغراق في فنون المدرسة الطبيعية «الناتورالية» التي تجاوز تقنياتها تقنيات المدرسة الواقعية، فلا تترك تفصيلاً من تفاصيل البيئة إلا ذكرته ووصفته مهما بلغ من قذارة ومهما كان مقززاً ومهما كان خادشاً للحياء ومهما كان فاضحاً للنفس البشرية وللجسد البشري ومخرجاته. كل شيء هنا باسمه القح وقبحه الصادم ورائحته العطنة الفائحة وأصواته الناشزة (انظر على سبيل المثال لا الحصر الفصل المعنون «روائح القيظ القديمة»). هذه كتابة غير مُراقَبة، غير مهذبة ولا منمقة، لا تحاول أن تحمي القارئ ولا تراعي نعومته وترفه المديني أو الطبقي ولا يعنيها أن تمزق تغليفه السيلوفاني شر تمزيق. ذلك أنها كتابة تريد صدم الحس المُرفَّه وتحريك الضمير المٌخدَّر وتوليد الإحساس بالذنب لدى المجتمع الغافل عن أبنائه وعن الثمن الفادح الذي يدفعه جنود الريف المجهولون من أجل رفاهتهم. هي كتابة لريفي تمدَّن ولكن بقي على حبه وولائه للريف.

يتجول الكاتب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة»

غير أنني أيضاً لا أظنني قرأت منذ يوسف إدريس كتابة عن الريف المصري تتسم بهذا الفهم المُشرَّب بالعطف الإنساني. إلا أن ثمة فارقاً. كان إدريس يكتب عن ريف موجود فلم يكن في كتابته حنين، أما هنا فنحن أمام كتابة استرجاعية، كتابة عن ريف وناس وعادات وقيم ما زالت في الذاكرة لكنها لم تعد في الواقع المعاش، وربما من هنا تنبع الرغبة في اقتناصها في كتاب قبل أن تزول من الذاكرة أيضاً بغياب الجيل الذي عاصرها، وهذا ما يفعله أسامة الرحيمي الذي يصحب حواسَّنا الخمس في رحلة نلمس فيها أشجار الريف وحقوله ونشم روائحه، الطيب منها والخبيث، ونسمع أصوات بشره وحيوانه ونرى جماله وقبحه ونذوق طعومه، كما في فصل «أكل التوت» مثلاً وفي سائر الكتاب.

يكتب الرحيمي في لغة عذبة سلسة، لا يعنيها التأنق المصطنع لأن فيها رشاقة طبيعية تتنقل بك في خفة بين الفصحى والعامية، ومن لغة القرية إلى لغة المدينة، ومن لغة الطفل في لحظة الحدث إلى لغة الكاتب الناضج المتأمل لطفولة الماضي، ويحلّق بك عند الطلب من سهول النثر إلى مرتفعات الشعر.
في هذا الكتاب السهل الممتنع في أسلوبه، الثري في شخصياته وحكاياته، المتأمل في الريف وتحولاته، والملآن بالعطف على الإنسان وسائر الكائنات، على الترع والحقول والأشجار، تنضح الصفحات بالحزن على الحيوات التي ذهبت بدداً، والأجيال التي لم تجرؤ على الأمل. إن كانت أتراحها وآلامها - وأحياناً أفراحها - ما زالت تتردد في الفضاء، فهذا الكتاب قد التقط أصداءها.